الجالية العربية في الولايات المتحدة الأمريكية: بين الواقع والطموح
الثلاثاء, 26-يناير-2010
مفتاح سويسي - تبلورت الهجرات العربية إلى الولايات المتحدة الأمريكية مع بداية القرن التاسع عشر، حيث تشير بعض البيانات الإحصائية إلى أن عدد المهاجرين العرب خلال الفترة من 1824 إلى 1924 تراوحت مابين مائة إلى مائتي ألف نسمة. ثم توالت الهجرات العربية بعد الحرب العالمية الأولى، وأثناء الحرب العالمية الثانية، وقد بلغ العدد عام 1940 ثمانمائة ألف نسمة، أغلبهم من سوريا، لبنان، العراق، مصر، الأردن، تونس، المغرب، الجزائر، وفلسطين. وقد لعبت الأحداث المتوالية في المنطقة العربية بعد الحرب العالمية الثانية من بينها: احتلال فلسطين، وحرب 1967، و1973، والحرب الأهلية في لبنان، والحرب الإيرانية العراقية"1980--1988"، والاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وحرب الخليج الثانية وما ترتب عنها من آثار بشرية ومادية وقانونية، وغيرها من الأحداث السلبية المتتالية في المنطقة العربية، وما صاحبها من تحديات أدت إلى عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني في المنطقة. كل هذه التحديات ساهمت في رفع عدد الهجرات العربية للولايات المتحدة الأمريكية حتى قارب العدد أو يزيد عن "3.5" مليون نسمة، وفقا للبيانات الإحصائية المنسوبة إلى مكتب الإحصاء الأمريكي لعام 2000.

وربما تقلص هذا العدد من خلال الهجرات العكسية بسبب ما تعرض له العرب وخاصة من المسلمين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، باسم مكافحة ما يسمى بالإرهاب، من مضايقات، وتمييز عنصري ضدهم، وملاحقات من السلطات الرسمية، وانتهاكات لحقوقهم الأساسية، التي يفترض أن يكفلها القانون الإنساني الدولي، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والدستور الأمريكي نفسه...

تشير البيانات الإحصائية أيضا إلى أن حوالي 17% من المهاجرين العرب يحملون شهادات عليا من الماجستير والدكتوراه في مختلف أنواع المعرفة، والغالبية من المهاجرين من ذوي الحرف المهنية والتكنولوجية، وأن نسبة 88% من المهاجرين العرب يعملون في القطاع الخاص، وفي جزئية بسيطة في المؤسسات الرسمية. وأن من بين أعضاء هذه الجالية، وخاصة من أبناء الجيل الأول من برز في الحياة السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والعسكرية، ومن بينهم من نال الجوائز في بعض المعارف العلمية والفنية والثقافية...

وتتركز الجالية العربية في نيويورك، كلفورنيا، دترويت، متشجن، نيوجرسي، واشنطن دي سي، واشنطن سياتل، أوهايو، فيلادلفيا، بنسلفانيا، تكساس، ماساتشوستس، فلوريدا، ماريلاند، وسكونسن، وفرجينيا...

وتشير البيانات الإحصائية المنسوبة إلى دراسة أجرتها مؤسسة زغبي "أنترناشيونال" عام 2002 إلى أن نسبة المسيحيين من الجالية العربية تقدر بحوالي 63% ، وأن 24% من المسلمين..وقد اختلفت درجة اندماج المهاجرين العرب في المجتمع الأمريكي، فمنهم من غير اسمه وأحيانا ديانته ليندمج في المجتمع، والتخلي عن جذوره لأسباب ذاتية، ومنهم من تبنى سياسة الوسط المتمثلة في الاندماج النسبي مع الاحتفاظ بالأصول العربية، ومنهم من يرى أن إقامته في الولايات المتحدة مؤقتة ومن ثم تمسك بثقافته الإسلامية أو المسيحية. وقد أدى اندماج البعض من المهاجرين العرب في المجتمع الأمريكي إلى تقلد بعض المناصب القيادية في المؤسسات العلمية والإدارية والاقتصادية، والتشريعية.

وقد وصل بعضهم إلى المجالس التشريعية، وأسس بعضهم دورا للنشر والطباعة، والمنتديات الثقافية، والجمعيات الخيرية، ومؤسسات للدفاع عن مصالح المهاجرين العرب. ويلاحظ أن من أكثر المهاجرين العرب اندماجا هم من العرب المسيحيين.

وقد حاول المهاجرون العرب تكوين " لوبي" عربي من أجل الاندماج في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع الأمريكي، للدفاع عن الحقوق المدنية والسياسية، والعمل على تغيير الصورة السلبية التي رسمها "اللوبي" الصهيوني المعادي للعرب والمسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية، والمسيطر على الرأي العام الأمريكي، بما يمتلكه من مقومات مادية وبشرية وتكنولوجيه، إضافة إلى تماسك قياداته، وإيمانه بالعقيدة الموحدة، والحرص على تحقيق الهدف من خلال مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وعدم التفريط في الثوابت، والتمسك بالحدود العليا في المفاوضات، واتخاذ زمام المبادرة في أي أجراء يرتبط بالشرق الأوسط، وممارسة كافة أنواع الضغوط لتحقيق الهدف دون التنازل، مع تغلغل قياداته في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية والإعلامية في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال السيطرة على الوسائل الإعلامية، وامتلاك المال وتسخيره بكفاءة عالية من أجل مصلحة الكيان الصهيوني، مع مواجهة أي محاولة "للوبي" " العربي من اختراق الحواجز التي يضعها هذا الكيان لمنع أي اندماج عربي أسلامي في المجتمع الأمريكي...

رغم كل ذلك استطاعت الجالية العربية بإمكانياتها المتواضعة أن تنشئ بعض المؤسسات من بينها: المعهد العربي الأمريكي الذي يهدف إلى تشجيع العرب الأمريكيين للاندماج في الحياة السياسية والمدنية الأمريكية، والجمعية العربية الأمريكية لمكافحة التمييز، ومجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية، وغيرها من التجمعات التي أنشئت على أساس قطري لخدمة رعاياها من المهاجرين العرب، إضافة إلى المؤسسات الثقافية والإعلامية من المنتديات، والصحف، والمجلات، وغيرها من وسائل الإعلام...

رغم كل هذه المحاولات الجادة التي تقوم بها الجالية العربية مازالت هناك العديد من التحديات التي تواجهها لتحقيق المشاركة العربية الفعالة في الحياة السياسية والمدنية الأمريكية... وللأسف أن بعض هذه التحديات تخلق من قبل "اللوبي" الصهيوني ومن يدور في فلكه، الذين يسعون لتحقيق أقصى المنافع الذاتية لمصلحة الكيان الصهيوني دون اعتبار لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية وشعبها. أن من بين التحديات الأخرى التي تواجه الاندماج العربي في المجتمع الأمريكي لبناء "لوبي" عربي قوي، تكمن في الاختلافات الأيديولوجية لبعض المهاجرين العرب، واختلافات في العقيدة، و اختلافات في المواقف السياسية حول بعض القضايا المصيرية النابعة من الانتماءات القطرية - رغم الاتفاق في الهوية العربية، والمصير المشترك - مع غياب التنسيق المركزي، وضعف المقومات المادية، ووجود بعض الاختراقات من ذوي المنافع والانتماءات المزدوجة والذاتية، وتدخلات بعض الحكومات العربية القطرية لتمرير منافع ذاتية على حساب المصلحة المشتركة للجالية العربية..

واشد التحديات التي واجهت الجالية العربية في الولايات المتحدة الأمريكية هي أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وما ترتب عنها من آثار سلبية على الجالية العربية والإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى كامل المنطقة العربية والإسلامية، بسبب الاشتباه دون التيقن، والله أعلم هل هذا الحدث المؤلم كان مفتعلا لتمرير أجندة خفية، أو قامت به أطراف لمصالح ذاتية، ولكن المتضرر هم العرب والمسلمون الذين نفذت ضدهم أبشع الممارسات باسم مكافحة ما يسمى بالإرهاب، والكاسب من هذا الحدث هو الكيان الصهيوني...

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق وفي ظل هذه الهجمة الشرسة ضد العرب والمسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية، كيف يمكن للجالية العربية التعايش مع هذا الوضع غير المتوازن، ليكون لها دور فاعل في الحياة السياسية والمدنية في المجتمع الأمريكي؟... لتحقيق ذلك، على المؤسسات الفاعلة في هذه الجالية ضرورة تنسيق الجهود لحماية مصالح الجالية العربية من خلال دعم القدرة على الدفاع عن حقوقها، والوصول إلى مرحلة الاندماج الإيجابي في المجتمع الأمريكي لتنقية الشوائب التي الصقها الإعلام الصهيوني ضد العرب والمسلمين في أذهان الشعب الأمريكي وقياداته، وتفعيل مشاركة الجالية في النشاط السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ونبذ القطرية والمصالح الذاتية، مع التمسك بالهوية العربية التي تجمع الجالية دون اللجوء إلى ما يفرقها، وكلما كان نشاط الجالية مخططا له بشكل مركزي ومتقن ومتناغم مع اهتمامات كافة أطياف الجالية العربية من مسلمين ومسيحيين، تحقق الهدف المنشود، وكلما تعاونت مؤسسات الجالية العربية في تحقيق الأهداف، كانت فعاليتها أفضل في مواجهة التحديات، وكلما قل تدخل الحكومات القطرية في التأثير على جالياتها من اجل أهداف قطريه، زاد تماسك الجالية العربية فيما بينها...

وقد يكون للحكومات العربية أهمية بالغة إذا ما تم التفكير في تأسيس جهاز مركزي، ولتكن تبعيته لجامعة الدول العربية لمتابعة شؤون الجالية العربية، ودعمها ماديا ومعنويا دون تمييز، على غرار ما يفعله العدو الصهيوني، لأن مواجهة الخصم الذي يعرض الجالية العربية للخطر ويمنعها من الاندماج في المجتمع الأمريكي لا تتأتى إلا بالإستراتيجيات المضادة والمتقنة في إدارتها وتنفيذها من قبل من له انتماء للقضايا العربية والإسلامية، وغير قابل للاختراق، ومن غير المنتفعين وتجار القضية...وأعتقد أن تخصيص جزء من الأموال العربية المستثمرة في الغرب والتي تتآكل بسبب الأزمات الاقتصادية، وسؤ الإدارة، كفيل بحل مشاكل الجالية العربية المالية منها على الأقل، وتمكنها من أن يكون لها دور فاعل في دعم القضايا العربية والإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية، ويضعف ضغط "اللوبي " الصهيوني عليها.



* باحث ومحلل سياسي- ليبيا 
 

نقلاً عن العرب إونلاين