في الوسطية... وجذور التطــرف
الأحد, 03-يناير-2010
د. حسن حنفي - إذا كانت الوسطية مثلا أعلى في معظم الحضارات فلماذا ينشأ التطرف في الواقع، ومتى يحدث ذلك؟ ينشأ التطرف في السلوك البشري عندما يتطرف الواقع نفسه. فيكون التطرف الأول هو التطرف المضاد حتى تتساوى كفتا الميزان. فكل فعل له رد فعل مساوٍ له في القوة والاتجاه. وعادة ما يأخذ الباحث الغربي أو الحاكم الغربي النتيجة دون السبب، ويعكف على رد الفعل دون الفعل. في حين ينبه الباحث العربي على السبب قبل النتيجة، وعلى الفعل قبل رد الفعل، وعلى الجلاد قبل الضحية. ليس منشأ التطرف بالضرورة من النص أو من العقل، بل هو من الواقع بسبب الضعف الإنساني، الأهواء والميول والرغبات، والمصالح والقوى والسياسات الداخلية والدولية. والنص حمّال أوجه. وقد لا يفهم إلا في سياق "أسباب النزول" مثل الآيات التي تبيح استعمال القوة لردع العدوان، و"الناسخ والمنسوخ حتى يرفع التعدد الظاهر بين آيتي (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) و(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ). والعقل يفهم ولا يبرر. يقارن ولا ينحاز. يدرك ولا ينفعل.

ويكون الحل هو عودة الواقع أيضاً من الطرف إلى الوسط. ففي حالة وجود تباين شديد بين طرفين متضادين لا يُطلب من أحدهما أن يعود إلى الوسط ويترك التطرف إلا بقدر ما يطلب من الآخر أن يعود إلى الوسط ويترك هو أيضاً التطرف المقابل. فالقاهر والمقهور مثلاً طرفان. القاهر يبدأ بالعنف، والمقهور ربما يقابله بالعنف لغياب الحوار بين الاثنين. فوجود أحدهما نفي للآخر. الأول العنف كفعل، والثاني العنف كرد فعل. الأول العنف اللامرئي، النظام السياسي والاجتماعي والثقافي، والثاني العنف المرئي.

وقد يكون الحل بين الغني والفقير مثلاً هو اقتراب الغني من الفقير عن طريق إعادة توزيع الدخل، والضرائب التصاعدية على الغني، وتأميم بعض ممتلكاته الفردية للصالح العام ليس فقط عن طريق الزكاة التي هي أقل القليل 2.5 في المئة من الثروة المتراكمة على رغم أنها تعطي الشرعية لامتلاك الباقي 97.5 في المئة وتفيد الفقراء والمحتاجين. وكذلك الصدقات والأعمال الخيرية هي كرم اختياري من الغني للتهدئة من عوز الفقراء والمحتاجين. واليد العليا خير من اليد السفلى. والصدقة ليست فقط واجبة على الغني بل هي حق الفقير. وللفقراء حق في أموال الأغنياء غير الزكاة والصدقة (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).


وتغيير الواقع المتطرف بين القاهر والمقهور، والظالم والمظلوم، والغني والفقير سمي في تراثنا "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" الذي ذكر في القرآن حوالي تسع مرات مقرونين معاً، أمراً ونهياً. كان المسلمون خير أمة أخرجت للناس لهذا السبب (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ). وقد جعله المعتزلة الأصل الخامس من أصول الدين بعد التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والحسن والقبح العقليين. كما جعله الفقهاء الوظيفة الرئيسية للحكومة وأطلقوا عليه أيضاً اسم "الحسبة". ويعني تغيير الواقع الاجتماعي: تحرير المقهور من القاهر، واسترداد حق المظلوم من الظالم، وأخذ حق الفقراء من أموال الأغنياء. ويقوم بذلك العلماء والفقهاء والمحتسبون بتفويض من السلاطين والملوك والأمراء. وقد انهارت الأمم قبل ذلك لأنها كانت لا تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر ) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ).

وقد ذاع لدينا، ومنذ الصغر الحديث الشهير "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان". فتغيير الواقع يتم على ثلاث درجات طبقاً للفهم الواضح القديم في ترتيب تنازلي، من الفعل السلمي إلى القول إلى الاعتقاد.

1- التغيير الفعلي. فللعمل الأولوية على النظر. وتغيير الواقع له الأولوية على الكلام عنه. الفعل خطاب عملي سلمي، والخطاب فعل نظري. والفعل العملي السلمي له الأولوية على الفعل النظري. "أنا أفعل إذن أنا موجود" تعبر عن جوهر الحضارة الإسلامية، في مقابل "أنا أفكر إذن أنا موجود" التي تعبر عن جوهر الحضارة الغربية. ولا يعني ذلك طبعاً التغيير بالعنف بجميع ألوانه وأشكاله.

2- الإعلان بالقول عن المسافة بين المثال والواقع، بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن، بين الوحي ونظام المجتمع. فالقول كلمة، والكلمة فعل. واللسان خطاب، والخطاب أمر ونهي. وفي الإنجيل "لا ترجع كلمة الله فارغة". القول إعلان، والإعلان جهر، والجهر مصارحة وتساؤل ( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ). وكتمان الشهادة إثم كبير (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ). ويكون القول من الفرد والجماعة، من العالم وهيئة العلماء (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).

3- الإبقاء على الضمير الحي، والرأي الخالص، وعقد العزم دون الإتيان بفعل بلا نية، أو قول بلا اعتقاد. فالأول عند البعض شرك عملي، والثاني شرك نظري. ولا يستطيع أحد أياً كان أن يقهر القلب، ويزيف الضمير إن استطاع الإجبار على فعل أو فرض قول. فالضمير أخص ما يخص الإنسان. ويظل التوحيد في القلب على مستوى الاعتقاد، وإن استعصى في القول، بين القول والاعتقاد. أو إن استحال التوحيد في الفعل، بين الاعتقاد والفعل.

وقد فضل بعض المجتهدين المحدثين ترتيباً تصاعدياً من القلب إلى القول إلى الفعل على النحو الآتي:

1- البداية بالقلب حتى يظل الضمير يقظاً. ولا تفسد النوايا. فمهما تعقدت الأمور، ومُنع الكلام، يقاوم الإنسان بالقلب. ولا يستسلم، طمعاً في منصب أو خوفاً من عقاب (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ). وهو ما قاله المسيح أيضاً: "ماذا ينفعك لو كسبت العالم وخسرت نفسك؟".

2- والثنية باللسان. فالقول سلاح العلماء. والوحي إعلان وبلاغ. والكلمة بيان للناس. وهو دور النصيحة وخطباء المساجد وأساتذة الجامعات، والإعلام المستقل ضد التزييف، وقلب الحق باطلا، والباطل حقاً. لذلك أتى الأمر القرآني (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ). وهكذا فعل بلال والحجر على صدره في الرمضاء وهو يقول "أحد.. أحد".

وهو قول جاليلو بعد محاكمته على دوران الأرض حول الشمس من الكنيسة التي تقول بدوران الشمس حول الأرض فردد: "ومع ذلك تتحرك الأرض".

3- وأخيراً يأتي الفعل إن لم ينفع القول. ويأتي العمل السلمي المباشر إن لم تُجد النصيحة. ولا يعني الفعل أبداً العنف، بل يشير إلى حركة المجتمع، وجهود المنظمات الأهلية، والجمعيات، والنقابات، والاتحادات، والنوادي المهنية، والحركات الطلابية والعمالية، وحركات العمل السلمية، من أجل التنمية والإصلاح، وبناء الفضاء العام. 





*نقلا عن "الاتحاد" الإماراتية