الأمن القومي العربي والحاجة إلى التكامل الاقتصادي
الأحد, 25-أكتوبر-2009
د. عبـد اللّطـيف الحنّـاشـي - تزايد اهتمام العالم بظاهرة الفقر التي أخذت تكتسح مختلف أرجاء المعمورة وكان المنتدى الاجتماعي العالمي الذي انعقد في كانون الثاني 2005 قد أطلق النداء العالمي لمكافحة الفقر، في محاولة لتشجيع الأفراد والجمعيات والمنظمات غير الحكومية ذات العلاقة للتحسيس والضغط على صانعي القرار من أجل اتخاذ مواقف جدية.

ولم تتردّد الأمم المتحدة للاستجابة لهذا النداء فدعت إلى تجمع عالمي انعقد سنة 1996 شاركت فيه غالبية دول العالم ومنظماته الإنسانية في روما، وكان الهدف منه البحث عن الوسائل الناجعة المساعدة على التخفيض من عدد الجياع في العالم من 800 مليون إلى 400 مليون جائع، ولمَ لا القضاء على نصف الفقراء المنتشرين في العالم بحلول سنة 2015..

كما حدّدت يوم 17 تشرين الأول "أكتوبر" من كل سنة يوما عالميا لمكافحة الفقر، وأحيت الأمم المتحدة هذه السنة هذا اليوم تحت شعار "أوقفوا الفقر الآن"، غير أن الظاهرة استمرت بل تفاقمت وتوسع نطاقها؛ إذ أشارت منظمة الأغذية والزراعة "الفاو" إلى أن أزمة الغذاء والأزمة المالية العالمية دفعتا بنحو 1.02 مليار شخص إلى الجوع سنة 2009، أي بزيادة تبلغ حوالي 100 مليون شخص عن 2008، وهو ما يعني أن هناك جائعاً واحداً من كل ستة أشخاص، بين سكان العالم وهو رقم "غير مسبوق في التاريخ"...

وتتركز ظاهرة الفقر وتنتشر "حسب منظمة الفاو" في آسيا "نحو 642 مليوناً" وفي أفريقيا "نحو 265 مليوناً" وأميركا الجنوبية "53 مليوناً" وفي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا "42 مليوناً" وفي الدول الصناعية "15 مليوناً"..

ومن العوامل التي تفسر هذه الظاهرة عالميا يذكر الخبراء في المجال عدة أسباب منها الاحتباس الحراري الذي تسبب في تراجع محاصيل الغذاء الأساسية كالأرز، إذ يتوقع أن تتراجع في الفيليبين مثلا بنحو 50 إلى 70 في المائة بحلول سنة 2020. وقد تتراجع محاصيل الذرة بنسبة 15 في المائة وقد تصل الخسائر الناتجة عن ذلك إلى قرابة ملياري دولار في السنة في أفريقيا.. كما يتوقع أن يتراجع إنتاج القمح في سهول الغانج الهندية، التي تنتج نحو 15 في المائة من الإنتاج العالمي، بأكثر من 50 في المائة بحلول 2050، وهو ما يهدد الأمن الغذائي لنحو 200 مليون شخص..

ولم تنج أوروبا الغربية ذاتها من انعكاسات الاحتباس الحراري، فحين بلغت الحرارة مستوى قياسيا في تلك المنطقة "أكثر بست درجات مئوية فوق المعدل الطبيعي" صيف 2003 عرف الإنتاج الزراعي تراجعا بنسبة 20 المائة في فرنسا و36 في المائة في بعض مناطق إيطاليا حسب المعطيات التي قدمتها الأوكسفام.

وتتحمّل الدول الصناعية المتقدمة الكبرى جزءا من المسؤولية الأخلاقية عما حدث في السابق وما سيحدث من كوارث لاحقا فهي المسؤولة الأولى عن الاحتباس الحراري الذي يعرفه العالم منذ عقدين؛ ووفقا لبيانات "الصندوق العالمي للحياة البرية"، فإن النموّ الاقتصادي خلال الأربعين سنة الماضية أدى إلى تدمير نصف موارد المياه الطبيعية، مخلفا آثارا خطيرة على حاجات البشر الضرورية من المياه الصالحة للشرب وتلاشي بعض الكائنات الحيّة.

وفي سياق متصل، أكّد "تقرير تنمية الموارد المائية" الصادر عن الأمم المتحدة أن 80 في المائة من الأمراض المنتشرة في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية سببها استخدام مياه غير صالحة للشرب من قبل السكان مما يتسبب في وفاة 2.2 مليون نسمة سنويا. وتوقع خبراء الصندوق أن يواجه ثلثا البشر نقصاً حاداً في المياه الصالحة للشرب مع حلول العام 2015، تتركز غالبيتهم في أكثر دول العالم فقراً في آسيا وأميركا اللاتينية وإفريقيا.

كما عملت الدول الصناعية الغربية الكبرى، مؤخرا، على وضع العقبات التي حالت دون قيام الأمم المتحدة بدور مهم في معالجة الأزمة المالية والاقتصادية العالمية وانعكاساتها على دول الجنوب، وأجهضت إمكانية تشكيل "مجلس الاقتصاد العالمي" بإشراف الأمم المتحدة..

أما في الوطن العربي فأضحى الفقر ظاهرة أكثر بروزا مما كان عليه في العقدين الماضيين، وأصبحت الظاهرة تهدّد بقوة الأمن الاقتصادي والغذائي للمنطقة؛ إذ أفاد تقرير التنمية الإنسانية العربية لسنة 2009 الذي صدر تحت عنوان: "تحديات أمن الإنسان في البلدان العربية" أن هناك نحو 65 مليون عربي يعيشون في حالة فقر، ويتراوح معدل الفقر العام في لبنان وسوريا مثلا بين 28.6 و30 في المائة ونحو 41 في المائة في مصر.. أما في اليمن فتصل النسبة إلى نحو 59.5 في المائة.

وتتجه معظم الدول العربية، حسب تقرير الصندوق الدولي للتنمية الزراعية "إيفاد" الذي صدر مؤخرا، نحو نقص شديد في المياه، إذ أخذت الكميات المتاحة من الماء للشخص الواحد تتراجع وقد تصل إلى نحو 500 متر مكعب في السنة بحلول سنة 2015 وهو ما يمثل نحو 15 في المائة مما كان عليه الوضع سنة 1969. وتتعرّض إمدادات المياه في الدول العربية لضغوط شديدة، فرغم أن مساحة العالم العربي تبلغ نحو 14 مليون كيلومتر مربع غير أن 87 في المائة منها هي صحراء قاحلة بشدة؛ أما كميات الأمطار التي تتلقاها المنطقة فتقدر بـنحو 2148 كيلومترا مكعبا سنويا.

ويظهر أن ارتفاع موجات الجفاف المتزامنة مع الإفراط في استخدام المياه الجوفية أدت إلى خفض الكميات المتوافرة من الموارد المائية، سواء المتجددة أو غير المتجددة. كما يتعرض القطاع الزراعي لضغط متزايد لتحويل كميات متزايدة من المياه النظيفة إلى المدن والمناطق الحضرية بهدف تأمين الاستهلاك المنزلي والصناعي.

ويتوقع الخبراء أن يصل إجمالي إمدادات المياه الخاصة بالاستهلاك المنزلي إلى ما يقرب ضعف ما هو عليه الآن، مما سيدفع الحكومات العربية ويجبرها إما تحويل نحو 11 كيلومترا مكعبا من المياه أو اللجوء إلى تكنولوجيات حديثة. كما تبدو، من جهة أخرى، مساهمة القطاع الزراعي، في العالم العربي، في الناتج الإجمالي المحلي منخفضة، إذ بلغت في المتوسط، حسب تقرير "إيفاد" نحو 12.5 في المائة سنة 2005 بينما بلغت نحو 0.3 في المائة في كل من الكويت وقطر و34 في المائة في السودان..

ويستهلك قطاع الزراعة في العالم العربي وفق، تقرير الصندوق الدولي للتنمية الزراعية، أكثر من 83 في المائة من المياه، كما يتعرض القطاع، بدوره، لضغوط مختلفة من بينها الحاجة إلى زيادة الإنتاج من الأغذية بهدف خفض فاتورة واردات الغذاء التي بلغت قيمتها نحو 28 بليون دولار سنة 2006 خاصة مع ارتفاع معدّل النمو السكاني الذي يصل إلى نحو 2.6 في المائة سنويا، الأمر الذي يستدعي توسعا عموديا وأفقيا في قطاع الزراعة بهدف الرفع من إنتاجية الهكتار الواحد.

لا تمثّل ظواهر الفقر وشحّة المياه خطراً على الفرد ولكنها تشكل خطرا كبيرا على أمن المجتمعات والدول العربية واستقرارها، إذ من شأن تلك الظواهر أن تهدد الأمن الاجتماعي والاقتصادي بل والسياسي للعالم العربي. ويظهر أن الدول العربية غير عابئة بهذه المؤشرات التي تهدد الأمن الاقتصادي والاجتماعي العربي وصولا للأمن السياسي؛ ففي الوقت الذي تخصص فيه نسب مرتفعة جدا من ميزانياتها السنوية لشراء أنواع عدة من العتاد والسلاح لضمان أمنها والذود عن حياض سيادتها، لا تبذل إلا القليل لمعالجة الفقر والجوع وندرة المياه.

كما يبدو هذا الجهد متواضعا ونجاعته محدودة، حسب العديد من الخبراء؛ إذ بينت العديد من التجارب أنه ليس بإمكان الدول الصغيرة والمتوسطة من حيث مساحتها وعدد سكانها وضيق سوقها، كالدول العربية، توفير الحماية لأمنها الوطني ومصالحها الاستراتيجية لوحدها لأن الأمر يتطلّب تعاونا إقليميا واسعا ومتعددا. ويذكر هؤلاء أن أساس "المعجزة الآسيوية" قد تحقق بفضل نمو التعاون الإقليمي أساسا وليس بفضل ارتفاع الصادرات الآسيوية إلى دول الشمال. كما كان للمجهودات الكبيرة التي بذلتها كل من الهند والصين في محاربة الفقر الفضل في احتلالها لمراكز متقدمة في الاقتصاد العالمي وفي مساعدة الدول الآسيوية الأخرى على النهوض..

لذلك يبدو أن الخيار الوحيد أمام الدول العربية لتحقيق التنمية السريعة والمستدامة، هو تفعيل التجمعات الإقليمية العربية القائمة وتنويع نشاطها وتوسيعه على غرار ما هو حاصل بالنسبة إلى الدول الأوروبية "الاتحاد الأوروبي" ودول شرق وجنوب شرق آسيا "آسيان" ودول أمريكا الجنوبية "ميركوسور" وغيرها من التجمعات الإقليمية. ويراهن الكثير من المفكرين والباحثين العرب على هذه التجمعات الإقليمية لتحقيق التكامل الاقتصادي العربي الذي بإمكانه معالجة المشاكل الراهنة التي تتخبط فيها تلك المجتمعات وبالتالي الحفاظ على الحد الأدنى من الأمن القومي العربي المتهالك بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية.. 



نقلاً عن
  العرب إونلاين