الظاهرة الانتحارية: تأملات أولية في صناعة مزدهرة
السبت, 02-أغسطس-2008
محمد سيف حيدر -

في مقالةٍ شهيرة أثارت جدلاً كبيراً، لاحظ الفيلسوف الفرنسي جان بودريار أن "الإرهاب لا يبتكر شيئاً، ولا يأتي بجديد. إنه فقط يدفع الأمور إلى حدِّها الأقصى، إلى الذروة". واتكاءاً على هذا المنطق، يمكن القول إن ذروة الأمور التي دفع بها الفعل الإرهابي المعاصر إلى الواجهة وعلى نحوٍ وبائي وعنيف تُفرزه أيديولوجيا وتقنية إعداد يسهل تنقّلها وتصديرها؛ بروز ما بات يُعرف بـ"الظاهرة الانتحارية". ومنذ اعتداءات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، أضحى من المؤكد، كما تقول المديرة العامة للأجهزة الأمنية البريطانية، إليزا مانينغام بولير، أننا "دخلنا مرحلة جديدة من تاريخ الإرهاب. هذه الحقبة الجديدة غير المحصورة مناطقياً أو وطنياً، تتميز بالإرهاب الانتحاري والاعتداءات التي تتعمد إلحاق أضرار جسيمة بالمدنيين، ويُنفِّذ هذه الاعتداءات جماعات ليست لديها أي مصلحة في الدخول في مفاوضات من أي نوعٍ كان".
العملية الانتحارية، بحكم التعريف واضحة؛ فهي "عملية عسكرية يقوم بها شخص ما أو مجموعة من الأشخاص تستحيل أو تكاد تنعدم معها إمكانية بقاء المُنفِّذ أو المُنفِّذين على قيد الحياة وذلك بغرض تحقيق أهداف معينة." لكنها، في الواقع، وبعد أن تحولت إلى "ظاهرة" تؤرق الكثيرين في عالمنا الموبوء بالصراعات، أضحت سلوكاً يكتنفه التعقيد البالغ وتتناوشه تفسيرات مُتضاربة. وفي السعي إلى فهم هذه الظاهرة الجديدة يجب، كما ينصح بيار كونيسا بصدق، التخلِّي عن التمثيل المعهود بـ"الكاميكاز" اليابانيين الذين أرادوا فرض أنفسهم كمقاتلين يهاجمون أهدافاً عسكرية؛ ففرادة الظاهرة الحالية تعود بالأحرى إلى المبالغة في السلوك الاستشهادي في سياق تتزايد فيه أكثر فأكثر النواحي الخرافية. 

عولمة القتل
عندما كان الإرهاب لا يزال محدود النطاق، كان الحصول على سيارات مفخخة سهلاً، لكن إيجاد أناس لقيادتها لم يكن كذلك. ولم يتّسم تجهيز سيارة عائلية أو شاحنة مؤجرة بمتفجرات محلية الصنع بأي صعوبة تقنية كبيرة. هكذا فجَّر متطرفون يساريون مركزاً للأبحاث في جامعة ويسكونسن الأمريكية عام 1970. واستعملت الطريقة نفسها في هجوم "القاعدة" الأول على مركز التجارة العالمي في نيويورك عام 1993، وعند تدمير تيموثي ماكفيه للمبنى الفيدرالي في أوكلاهوما سيتي عام 1995، وعند نسف المُجمَّع السكني الأمريكي المسمى بأبراج الخبر في المملكة العربية السعودية عام 1996.
كانت المعضلة الكبيرة تكمُن في مكان وضع المركبة من أجل التسبب بأقصى حد من الأضرار، وكيف—أو بالأحرى من—سيأخذها إلى هذا المكان. وكان حثّ شخص ما على نقل قنبلة شديدة التفجير في مهمة يعلم أو تعلم بأنها مهمة انتحارية يعتبر أصعب تحدٍّ على الإطلاق. وخلال الفترة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية التي شهدت هجمات الانتحاريين اليابانيين ضد أهداف عسكرية أمريكية، ولمدة أكثر من 35 عاماً، كما يشير روبرت إيه. بيب في كتابه "الموت من أجل النصر: المنطق الاستراتيجي للإرهاب الانتحاري" الصادر في نيويورك عام 2005، لم يشُنّ أي فريق حملة من الهجمات الانتحارية في أي مكان من العالم. أما الآن، وكما نعلم، فإن هذه الطريقة شائعة وفي ازدياد. وحتى يومنا، هناك ما يزيد على أربع وثلاثين دولة أو منطقة أزمات شهدت عمليات انتحارية، كما أن اثنين وأربعين دولة استهدفت العمليات مصالحها في الخارج.
وفي المحصلة، أخذ هذا النوع من القتل طابعاً معولماً بشكل ملحوظ؛ ففي الاعتداء على مركز التجارة العالمي اشترك انتحاريون من ست جنسيات (ما يزيد على خمسة عشر من اللوجستيين)، وحيث كان الضحايا من حوالي مئة جنسية مختلفة. أما المواقع المستهدفة فقد تنوعت بشكل عجيب، من مكاتب الأمم المتحدة، إلى السياح في الفنادق (مومباسا في كينيا وشرم الشيخ في مصر)، إلى النوادي الليلية (بالي)، إلى معابد اليهود (الكنيس في بيونس آيرس أو جربة)، إلى المجمّعات السكنية (في السعودية)، إلى المصارف (في اسطنبول)، إلى البوارج الحربية (يو. إس. إس. كول)، أو حاملات النفط (لينبورغ)... مع العدد الهائل من الضحايا الذين سقطوا على "هامش" هذه العمليات. وقد توسعت الاعتداءات جغرافياً من أراضي العدو العسكري (إسرائيل وسريلانكا والوجود الأمريكي في العراق وأفغانستان) لتطال نظاماً مُستكرهاً في عقر داره (الولايات المتحدة) أو دولاً مسلمة (تونس والمغرب والكويت واليمن وباكستان) وحتى إسلامية (مثل الحكومة التركية الحالية والسعودية). فإلى حدٍّ بعيد، تعولمت أيضاً الجغرافيا السياسية للعمليات الانتحارية بعد أن كانت تنفَّذ في بعض مناطق الأزمات المستعصية. وعليه لا يبدو مستغرباً أن يُعبِّر ستانلي هوفمان، مُنظِّر العلاقات الدولية الشهير، عن حاجتنا اليوم إلى "جغرافيا سياسية للأهواء" تُضاف إلى خرائط الأحداث العسكرية وأماكن تواجد الثروات. وسواء أكانت المتفجرات مُخبأة في سيارات أو زوارق أو حقائب ظهر أو ألبسة وأحزمة، كان—ولا يزال—مفعول الهجمات الانتحارية مُدمِّراً. وقد ذكر سكوت اتران، من جامعة ميشيغان الأمريكية، في كتابه "نشأة الانتحار الإرهابي" الصادر في 2003، أن عدد الأعمال الانتحارية يبلغ 5 في المئة من جملة الأعمال الإرهابية، وعدد ضحاياها 50 في المئة من جملة ضحايا الإرهاب الانتحاري، وبحسب دراسة لمؤسسة "راند"، فإن العملية الانتحارية تتسبب بسقوط الضحايا بنسبة تفوق أربعة أضعاف العمليات الإرهابية الكلاسيكية. لكن المخيف في الأمر أكثر، والحدث الأساسي الذي يستمد منه الإرهاب الانتحاري خطورته وقوته الرمزية الدافعة، كما يجادل جان بودريار، "هو أن الإرهابيين كفّوا عن الانتحار سُدى؛ وهو أنهم يراهنون بموتهم الخاص على نحوٍ هجومي وفاعل، وِفق حدسٍ استراتيجي هو، ببساطة، الحدس بهشاشة الخصم الهائلة، وهشاشة نظام بلغ شبه كماله، وهو، لذلك، مُعرَّض للأذى من أي شرارة". وبهذا، تحوَّل المُفجِّرون/المقاتلون الانتحاريون إلى نسخة من سلاح ذكي وفتَّاك. والأكثر من ذلك، أن العمليات الانتحارية—باعتبارها الخيار الأكثر سهولة—أصبحت صناعة مزدهرة؛ فهي طريقة رخيصة ولا يمكن التكهُّن بها ومتوفرة، ومن السهل بدرجة نسبية إخفاؤها ونقلها وتخزينها، كما أنها لا تفرِض وضع خطة فرار، ويصعب بالتالي كشفها والتصدي لها حتى من قِبل أكثر الأجهزة الأمنية براعة وتطوراً وأطولها خبرة وممارسة.
ومن البديهي الإشارة إلى أنه لابد للانتحاريين من منظمة. وهذا شرطٌ لازم، والاستثناءات قليلة؛ فثمة طلب وعرض، والعملية الانتحارية ثمرة التقائهما. وتتولى المنظمة العرض، وتَستدرِج إلى العمل. ويصدُر الطلب عن تحت؛ عن القاعدة "الأصلية" لاسيما في مناطق النزاع حيث تتأجج المشاعر الدينية والوطنية. وشخصية مُنفِّذ العملية الانتحارية ليست دائماً شخصية ذاك الشاب المتحمس الخاضع لتأثيرٍ ما ولا حتى المخدرات والمنحدر من بيئة مُعدمة. فعدد لا يستهان به من الانتحاريين ليسوا من الفقراء ولا من المستضعفين ولا حتى من المُذلّين تحت جزمة الاحتلال. فهم في الغالب من أبناء الأسر الميسورة ومن خريجي التعليم العالي، وليس لهم تاريخ ولا ماضٍ نضالي. وهم ليسوا قوميين محبطين، بل أُمميون عارمو الثقة بأنفسهم وراسخو اليقين بأن الله معهم. وإذ يُمكن عزو بعض الحالات إلى الدوافع الشخصية كما في حالة هنادي جرادات، المحامية الفلسطينية التي أرادت أن تثأر لشقيقها وخطيبها في جنين في تشرين الأول/أكتوبر 2003؛ لكن ليست هذه حالة الانتحاريين الآتين من العراق لتنفيذ الاعتداءات في مدريد، ولا هي حتى حالة الإسلاميين الإندونيسيين الذين اختاروا قتل السُّياح الأستراليين في جزيرة بالي، كما هي ليست—بالتأكيد—حالة قتلة السُّياح الأسبان في مأرب أو السُّياح البلجيك في حضرموت. 

العملية الأولى وهَلُمّ جَرّا...
لا جدال في أن فعل الانتحار أو الاستشهاد (سَمِّهِ ما شِئت) موغلٌ في التاريخ. وكان العالم المسيحي في القرن الأول يعجُّ بالشهداء، وعرفهم الإسلام أيضاً في بداياته. واليوم، في عالمٍ حديث لا يعرف سوى قوة عظمى واحدة لا تُضاهى، عادت خبرة الإخضاع والقهر التَّامّين إلى الوجود. في زمنٍ تُنفَّذ فيه المهام الانتحارية الحالية بشكل روتيني ضد حلفاء القوة العظمى المتبقية السياسيين والعسكريين، اكتسبت مُثُل الاستشهاد القديمة رواجاً جديداً. لكن المشكلة الآن هي أن ذلك المِثال قد جُهز بأسلحة وتكنولوجيا ذات قوة غير مسبوقة وأصبح وباءاً واسع الانتشار. منذ ألفيّ عام، كانت ثمة جماعات من الناس الذين اعتادوا الذهاب إلى المعركة وهم يهدفون، تحديداً، إلى أن يموتوا: كان بين هؤلاء اليهود السيكاريون في عالم روما الإمبريالي. فيما بعد، ظهرت طائفة "الحشاشين" أثناء الحروب الصليبية في العصور الوسطى، كما شاركت مثل تلك الجماعات القتالية في الثورات الإسلامية، في القرن الثامن عشر، ضد القوى الكولونيالية الغربية على شاطئ ملابار جنوب غرب الهند، وشمال سومطرة، وجزر الفلبين الجنوبية. كان يُلهم أولئك الناشطين مشاعر بالواجب الديني والبطولة الشخصية. وقد خُلِّدت أسماء المقاتلين الذين استُشهدوا في القصائد والأغاني، وكان هذا—بطبيعة الحال—إلهاماً للآخرين بمحاكاتهم. ثم، تحت ظروف جداً مختلفة، أحياه طيارو "الكاميكاز" اليابانيون، في الحرب العالمية الثانية، لكن الحركة ذوت بعد انتهاء الحرب. وعلى أية حال، بات الآن من الصعب، كما يُقرِّر كريستوفر رويتر في كتابه "جسدي سلاحاً: التاريخ الحديث للتفجير الانتحاري" الصادر في عام 2004، الحسم بأن أولئك الانتحاريين اليابانيين كانوا "متطوعين" حقاً. لكن هذا النوع من المهام الانتحارية ما لبث أن عاد مرة أخرى منذ أوائل ثمانينيات القرن العشرين، مُتَّخِذاً طابعاً مُغايراً. وكان ذلك، من ناحية معينة، تطوراً جديداً. فالفدائيون الوطنيون في الستينيات والسبعينيات كانوا يحاولون عادةً ألا يموتوا مع ضحاياهم واستطاعوا أن يقوموا بهجمات عن بُعد يحقق لهم الأمان. فإذا شاء سوء حظهم أن يُقبض عليهم، فإن منظمتهم كانت تحاول عادةً، وبنجاحٍ أحياناً، التوصل إلى الإفراج عنهم بخطف الرهائن والتهديد بإيذائهم أو قتلهم.
حينما سُئل بيتر-يورجن بوك، العضو السابق في أحد فصائل "الجيش الأحمر" بألمانيا الغربية إذا كان الفدائيون الألمان الذين تدربوا في معسكرات في اليمن الجنوبية في السبعينيات قد درسوا الهجمات الانتحارية هناك، أجاب بالنفي وقال: "ليس من بين من تلقُّوا تدريبهم هناك أحد كان يُريد قتل نفسه، وينطبق هذا على الفلسطينيين. أردنا تحقيق أهداف معينة: كنا نريد اختطاف الطائرات، وتحرير المعتقلين، والحصول على المال، واحتجاز الرهائن. كنا نعلم، جميعاً، احتمال موتنا ونحن نفعل ذلك. لكن الموت لم يكن مقصدنا". وفي الماضي كان أولئك الذين يُقدِمون على القتل لباعثٍ ديني، وبصفة خاصة طائفة "الحشاشين"، يأنفون من البقاء على قيد الحياة بعد العمليات التي يقومون بها، ولكنهم لم يكونوا يُقدِمون على الانتحار. وينطبق الأمر نفسه على الجنود الإيرانيين صِغار السِّن في الحرب ضد العراق بين عامي 1980 و1988 الذين كانوا يسيرون وسط حقول الألغام حتى يطهروا الطريق أمام القوات النظامية دون أن يكون بأيديهم سوى جواز سفر إلى الجنَّة. وإذا كان للقدر أن يسخر من حينٍ لآخر، فإن سخريته—هذه المرة—تجلَّت في أن العمل بالنوع الجديد من المهام الانتحارية، بالمعنى الضيق لهذا اللفظ، والذي أسس لشكله الوبائي فيما بعد؛ بدأ على يد حزب "الدعوة" العراقي الشيعي الذي يلعب الآن دوراً مهماً في حكومة بغداد المدعومة من الولايات المتحدة: "إرهابيون غدوا مقاتلين من أجل الحرية" كما وصفتهم مجلة نيوزويك الأمريكية. فقائد حزب "الدعوة" إبراهيم الجعفري تولى رئاسة الحكومة العراقية لفترة من الزمن. لكن، في ثمانينيات القرن الماضي، كان رفاقه من الحزب يهاجمون أي شخصٍ يؤيد صدام حسين ونظامه في أي مكانٍ من العالم. وقد رأوا في حزب "البعث" العلماني الحاكم والتابع لصدام قوةً غريبة تحتل أرضاً شيعية مُقدسة. وفي 17 كانون الأول/ديسمبر من عام 1981، في أول هجوم انتحاري منذ الحرب العالمية الثانية، قام انتحاري من حزب "الدعوة" بتفجير سفارة العراق في بيروت قاتلاً 30 شخصاً. وفي عام 1983، حين كانت واشنطن وباريس والكويت تؤيد صدام بشدة، قام حزب "الدعوة" بتفجير السفارات الأمريكية والفرنسية في الكويت، مما تسبب في مقتل ستة أشخاص وجرح ثمانين. وسرعان ما بدأ الحلفاء المقربون من "الدعوة" في "حزب الله" بتنفيذ الهجمات الانتحارية ضد أهدافٍ أمريكية وفرنسية وإسرائيلية في لبنان؛ كان أشهرها على الإطلاق الهجوم الذي شُن في تشرين الأول/أكتوبر عام 1983، ضد مقرّ مشاة البحرية الأمريكية في بيروت، ما أدى إلى مقتل 241 جندياً أمريكياً. 

التأرجُح بين وبائين
وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة، في نسختها العصرية، كانت، إلى حدٍّ بعيد، ذات منشأ إسلاموي، لكنها لم تُحصر فيه. فمنذ 9 تموز/يوليو عام 1987، بدا أن "نمور التاميل"، وهم من الهندوس، قد أتقنوا هذا التكتيك وذلك عند تنفيذهم الاعتداء الذي قضى فيه أربعون جندياً سريلانكياً. ومنذ العام 1990، بدأ هؤلاء في شن هجمات انتحارية مدمرة وبصورة مكثفة ضد أعدائهم في سريلانكا والهند، وقد سُجِّل لهم حوالي مئتي عملية انتحارية، أي أكثر مما قام به الفلسطينيون. كما لجأ إلى هذا الأسلوب حزب "العمال" الكردستاني، مع أنه علماني ولينيني، في مراحل ضعفه العسكري، وذلك من أجل إعادة تعبئة مجموعاته. وفي العام 1994، شرعت بعض التنظيمات الفلسطينية المقاومة في استخدام هذا السلاح في مواجهة إسرائيل في محاولة لإقامة ما يشبه "توازن الرعب" بين الطرفين. وفي لحظات الذروة من الصراع، شكَّل المفجِّر الانتحاري أكثر الأسلحة العسكرية فعالية في الانتفاضة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وأخذ هذا السلاح—في وقت من الأوقات—يُعطي ثماراً ما، وخلق—بالفعل—انطباعاً بوجود نوعٍ من التوازن بين جانبيّ الصراع. فعلى الرغم من أن إسرائيل تمتلك ترسانة عسكرية ضخمة، بما لا يقاس بأي حالٍ مع خصومها الفلسطينيين (تشمل 3800 دبابة ونحو 2000 طائرة مقاتلة) وتستخدم العديد من الطائرات الحربية والمروحيات المقاتلة في هجمات على أهداف فلسطينية مختلفة في الضفة الغربية وقطاع غزة، بينما تقف العربات المدرعة والجنود في حراسة تقاطعات الطرق في كل أنحاء الأراضي المحتلة، وكثيراً ما تقتحم دباباتها المتثاقلة الحركة من طراز ميركافا القرى الفلسطينية. غير أن كل هذه القوة النارية—التي كانت مروّعة أمام الجيوش العربية في حروب سابقة—كانت بلا فعالية إلى حدٍّ كبير في مواجهة الفدائيين الفلسطينيين الذين كانوا يشنون هجمات وهم متنكرين أحياناً في أزياء اليهود الأرثوذكس أو الجنود الإسرائيليين، ويتسللون إلى حافلات النقل العام أو يمشون الهوينا عبر مراكز التسوق أو يدخلون المطاعم والمقاهي. وقد أدت هذه العمليات التي بلورت زخماً ذاتياً كما يبدو، دون أدنى شك وعلى خلفية التقبُّل العام لها في العديد من الأوساط الإسلامية، إلى الزيادة في تصدير هذه الممارسة، التي تخطّت الآن الحدود الجغرافية والدينية، ثم أصبحت مؤخراً، بفضل شبكة "القاعدة" المُبهمة، تخترق كل الحدود القومية. وشجَّع التنفيذ الفاعل لتلك التفجيرات في أرجاء العالم، وما ينجم عنها من غبار سياسي، شجَّع جماعات من أطياف شديدة التنوع على تبني تلك الممارسة.
وبالإضافة إلى تلك المحاكاة التكتيكية، أضحت التفجيرات الانتحارية سلاحاً نفسياً جماهيرياً. وتالياً، أصاب ما يُسمِّيه علماء النفس ظاهرة "تأثير فرتر"* حيث يصبح الانتحار المثال الذي يسعى الآخرون إلى محاكاته؛ أصاب، في بعض الحالات، مجتمعات بأكملها. لكن هذه المجتمعات ليست كلها مُسلمة بالتأكيد، وأي زعمٍ يحاول التشديد على أن الانتحاريين يوجدون فقط في التقليد الديني والثقافي الإسلامي، ليس جاهلاً بالمعارف التاريخية وحسب، بل ينطوي على سوء نية وعنصرية أيضاً تفترض بثبات—وعلى الدوام—عدم احترام الإسلام "المتأصِّل" لحياة الإنسان وكرامة الفرد. ولا غرو أن الجدل الكبير حول العمليات الانتحارية بين الفقهاء المسلمين، وبعكس ما يُوحي، يُشجِّع أنصار هذا الافتراض على التمادي فيه، ويكاد يُصيب مبدأ "قدسية الحياة الإنسانية"، الذي أكّد عليه الإسلام. فالمسألة أصبحت قيد النظر، وهذا المبدأ المُطلق تَلبَّسَتْهُ النِّسبيَّة بحيث بات موضوعاً للجدال والأخذ والردّ بآياتٍ وأحاديث معصومة من كلّ زلل. غير أن هذا يجب ألا يجعلنا نستمرئ دور من يُطلق النار بين رجليه، وننسى، من ثمّ، أن نلتفت إلى الجانب البعيد/القريب، حيث يكمن "الآخر" المُبتلى—مثلنا تماماً—بالمشكلة ذاتها، إذ إن على عاتقهِ يقع جزءٌ مهم من الحل كذلك. وكما يفترض روبرت بيب، فإن "الإرهاب الانتحاري هو بالدرجة الأولى ردّ فعل ضد الاحتلال الأجنبي"، وهو على حق تماماً فيما يقول. فأي شيءٍ في هذا الوجود أشد وطأةً من احتلال غاصب يسرق الأرض ويستعبد أصحابها ويحوِّل حياتهم إلى جحيم، ويدفعهم - من ثمّ - إلى "الانتحار" مع قاهريهم دفعاً؟!
وعليه، فإن الحد من انتشار "ظاهرة" كهذه، وتقليصها في النهاية، يتطلبان القليل من الواقعية الراديكالية لطبيعة التهديد. والخطوة الأولى على أي مسار كهذا يجب أن تكون إنهاء الاحتلال الأجنبي أينما كان ذلك ممكناً: فلسطين (أولاً ودائماً) والعراق وأفغانستان والشيشان وغيرها. وكما تدل التجارب، فإن هذه الخطوة، متى ما تحققت، تكون نتائجها فعّالة ومباشرة، ولنا في ما حدث في الأمس القريب شاهداً ومثالاً؛ فقد عزّز انسحاب القوات الإسرائيلية من لبنان القرار الذي اتخذه "حزب الله"، ومنذ سنوات الاحتلال الأخيرة، بوقف العمليات الانتحارية، والتي لم تكن تستهدف أساساً إلا أهدافاً عسكرية وليس مدنية.
إن من يريد وقف انتشار وباء الانتحار ويُقفِل مصانعه المزدهرة، عليه أن يُوقِف - أولاً- انتشار وباء الاحتلال الكاسدة بضاعته—حتماً—بمنطق الحق وصيرورة التاريخ.
 
* يُحيل التعبير إلى رواية الألماني جوته الشهيرة "أحزان الشاب فرتر"، التي يقوم فيها البطل الذي يحمل نفس الاسم بالانتحار.

** المصدر:  مصباح الحرية <www.misbahalhurriyya.org/content/view/540/35>