تأملات في الأسباب الاقتصادية والاجتماعية للأزمة في الجنوب اليمني
السبت, 29-أغسطس-2009
نصر طه مصطفى - (1)
إن المتأمل من بعيد للمشهد السياسي الحاصل في بعض محافظات جنوب اليمن لن يدرك على الأغلب حقيقة المشكلة التي يواجهها هذا البلد كثيف السكان شحيح الموارد والذي استعاد وحدة أرضه وشعبه قبل نحو عشرين عاما في 22 مايو 1990 م، فالكثير من المراقبين يستحضرون نموذج الوحدة المصرية السورية بين عامي (1958 و1961) والنهاية المؤلمة التي انتهت إليها ويظن هؤلاء المراقبون أن ما يحدث في اليمن هو تكرار بصورة أو بأخرى لتلك التجربة التي بدأت عاطفية المشاعر وانتهت مأساوية النتائج، وما كان لها أن تتكرر أساسا في التاريخ العربي المعاصر لأسباب كثيرة ليس هذا مكان التطرق لها.. ولن نأتي بجديد إن أكدنا حقيقة تاريخية معروفة لدى القاصي والداني وهي أن اليمنيين ظلوا شعبا واحدا على مر التاريخ حتى في ظل فترات التمزق والتجزئة الطويلة التي لم تغير هويتهم بل ولم تكن محل بحث أو تساؤل فلم يحدث مطلقا طوال فترات التاريخ الموغلة في القدم أن ادعى أي جزء من اليمن هوية مختلفة عن يمنيته، وبالتالي فإن كل ما يجري من أحاديث اليوم عن هوية مختلفة لتبرير التجزئة ليست أكثر من مناورات سياسية في ظل الإشكاليات الحاصلة في الآونة الأخيرة. 

ومنذ احتل البريطانيون جنوب اليمن في النصف الأول من القرن التاسع عشر تكرست التجزئة عن الشمال الذي كان يتداول الحكم والسيطرة فيه الدولة العثمانية والإمامة الهادوية إلى أن رحل العثمانيون في عام 1918 م ليتسلم الحكم الإمام يحيى حميد الدين... وطوال العقود التي سبقت وصوله للحكم والتي تلتها كان اليمنيون في الشمال والجنوب يتنقلون ويتبادلون المصالح بشكل طبيعي وتلقائي دون حاجة حتى لإثبات الهوية في المناطق التي يفترض أنها حدودية، بل وأصبحت عدن - التي كانت تخضع للنفوذ البريطاني - المكان الآمن لمعارضي الإمام يحيى في الشمال والذين كانوا يجدون من إخوانهم اليمنيين في عدن خاصة والجنوب عموما كل الدعم والمساندة من السياسيين باعتبار أن أهداف النضال اليمني قد أخذت تتبلور باتجاه التخلص من النظام الإمامي في الشمال والاحتلال البريطاني في الجنوب واستعادة وحدة اليمن. 

وأمام الروح الوطنية التي انبعثت وأخذت تترسخ شيئا فشيئا حاول البريطانيون في أواسط خمسينيات القرن الماضي طرح مشروع هوية جديدة للمحافظات اليمنية التي كانت تخضع لنفوذهم باسم (الجنوب العربي) بغرض إلغاء الهوية اليمنية لكن القوى الوطنية أسقطت المشروع من فوره رغم تأييد قلة بسيطة له سرعان ما تراجعت هي الأخرى عنه... فما كان لليمنيين أن يستبدلوا هويتهم الحضارية بهوية جغرافية من صنع المستعمر، كما أن البريطانيين أدركوا خطأهم فتراجعوا عن الأمر ولم يحاولوا فرضه بالقوة فقد كانت تيارات العمل الوطني الباحث عن الاستقلال قد أخذت تتبلور شيئا فشيئا وهم كانوا يدركون أن بقاءهم في الجنوب لم يعد سوى مسألة وقت، فأخذوا يسعون لتعميق الهوة بين السلطنات الثلاث والعشرين التي دعموا وجودها في الجنوب بهدف الحيلولة دون قيام دولة واحدة في حال انسحابهم منه. 

وفي 26 سبتمبر 1962 م قامت ثورة في الشمال ضد حكم الأئمة أعلنت قيام النظام الجمهوري فسارع المتطوعون بالآلاف من أبناء الجنوب اليمني للانضمام مع المتطوعين للدفاع عن النظام الجديد الذي جعل استعادة وحدة الأرض اليمنية أحد أهدافه... وكان قيام الثورة في الشمال العامل الأساسي لقيام ثورة مسلحة في الجنوب ضد الاحتلال البريطاني بعد عام واحد وثمانية عشر يوما فقط أي في 14 أكتوبر 1963 م، وكانت المحافظات الشمالية هي منطلق الثوار ومقر قيادة الفصائل الوطنية التي قادت الثورة المسلحة، واشترك أبناء الشمال الذين استقروا في الجنوب منذ سنوات طويلة في هذه الثورة وأسهموا في تأسيس تلك الفصائل كالجبهة القومية وجبهة التحرير دون أن يقول أحد هذا شمالي أو هذا جنوبي فالكل يمنيون وقضيتهم واحدة سواء في الدفاع عن النظام الجمهوري أو في مواجهة الاحتلال البريطاني. 

وطوال تلك العقود الطويلة كان ابن صنعاء يذهب ليستقر في عدن وابن حضرموت يأتي ليستقر في الحديدة وابن تعز ينتقل ليستقر في لحج وابن أبين ينتقل للاستقرار في صنعاء إما لأسباب اقتصادية كممارسة التجارة أو لأسباب اجتماعية كالمصاهرة أو لأسباب علمية كالانتقال لتلقي العلوم العصرية والشرعية أو لأسباب سياسية إما معارضا للأئمة أو هاربا من قمع الاحتلال... وهكذا ظل اليمنيون شعبا واحدا لا يوجد لديهم أي إحساس بوجود فوارق معينة فالكل كانوا يعانون من نفس ظروف التخلف والفقر عدا مدينة عدن التي اهتم بها البريطانيون بحكم أنها كانت ثالث أهم ميناء في العالم وشهدت ازدهارا عصريا ملحوظا، وفيها تأسس الكثير من البيوت التجارية الكبيرة التي وفدت من مختلف أنحاء اليمن شماله وشرقه وغربه وظلت تمارس نشاطها بكل حرية حتى قيام النظام الماركسي في الجنوب عقب جلاء القوات البريطانية في 30 نوفمبر 1967 م... وحتى بعد قيام هذا النظام الذي أسس نمطا سياسيا مختلفا عن النظام في الشمال ظلت الهوية اليمنية قائمة كما أن استعادة الوحدة اليمنية ظلت الهدف الأساسي لكلا النظامين بل إن النضال من أجل استعادتها كان مصدر الشرعية السياسية لهما، وخلال الأعوام الثلاثة والعشرين (1967 – 1990) التي عاشها اليمنيون في ظل التشطير السياسي لم يجر أي حديث عن هويتين مختلفتين للشعب، وبدأ كل شطر بسبب الاختلاف الأيديولوجي بين النظامين باستيعاب معارضي الشطر الآخر، فاستهلك هذا الخلاف الكثير من مواردهما حتى أن النظام اليساري في الجنوب دعم حرب عصابات مسلحة ضد النظام في الشمال بغرض إسقاطه وإقامة دولة موحدة على ساس ماركسي، كما أن حربا وقعت بين الشطرين عامي 1972، 1979 م انتهتا باتفاقيات وحدوية جرى توقيعها في عواصم عربية... وهكذا ظلت المؤامرات والصراعات هي التي تقود مسار العلاقة بين النظامين رغم الشعارات الوحدوية التي كانا يرفعانها فيما كان الشعب في الشطرين يتوق للحظة التي يستعيد فيها وحدته.

(2)
تبدو الأزمة الحاصلة في الجنوب اليمني خلال السنوات الأربع الماضية لكثير من المراقبين وكأنها أزمة سياسية تهدف إلى فصل الجنوب عن الشمال تارة بحجة أن الجنوب ليس يمنيا وتارة بحجة استعادة الدولة التي كانت قائمة حتى عام 1990م وتارة بحجة أن اتفاقية الوحدة قد انتهت في حرب صيف 1994م، وهي جميعا وغيرها من الحجج لم تلق قبولا لا من الداخل ولا من المجتمع الدولي الذي يعلم جيدا أن اليمنيين في الشمال والجنوب شعب واحد عبر التاريخ، والذي يعلم كذلك أن اتفاقية الوحدة عام 1990 هي اتفاقية اندماجية ذات طابع دولي اعترفت بموجبها كل دول العالم بالدولة اليمنية الجديدة تماما، كما حدث مع فيتنام وألمانيا، وقد ناقشنا في المقال السابق حالة الاندماج الاجتماعي التي عاشها اليمنيون حتى في عهود التجزئة، والتي تعززت باستعادة وحدة الأرض والنظام قبل نحو 20 عاما. 

قد لا يدرك كثير من المراقبين عن بعد حجم المصالح الاقتصادية والروابط الاجتماعية التي ترسخت بين أبناء اليمن الواحد خلال الأعوام 20 الماضية، ذلك أن تطورات العصر الحديثة من تقنيات ووسائل نقل واتصال وطرق سارعت بشكل غير مسبوق في تعزيز تلك الروابط والمصالح بأضعاف أضعاف ما كان يحدث قبل جلاء الاحتلال البريطاني عام 1967م، فالطرق الحديثة ووسائل الاتصال والنقل يسرت التواصل بين الداخل ومع الخارج على السواء وبالتالي جرى بناء شبكة مصالح اقتصادية يصعب تفكيكها، كما سهلت اندماج العائلات التي كانت منقطعة عن بعضها بعضا بسبب التشطير من ناحية، وسهلت عمليات اندماج واسعة بالمصاهرة والانتقال للاستقرار بين أبناء المحافظات الشمالية والجنوبية من ناحية أخرى بما يجعل من يشاهد الواقع اليوم يدرك استحالة حدوث الانفصال مجددا وأنه لو حدث فسيؤدي إلى كارثة، بل كوارث بكل المقاييس وعلى جميع الأصعدة... ويكفي هنا الإشارة إلى مشروع حيوي وضخم تنفذه شركة توتال الفرنسية متعلق بتصدير الغاز المسال والذي سيبدأ قبل نهاية هذا العام، فمصدر الغاز ينبع من محافظة مأرب الشمالية بينما سيجري تصديره من ميناء بلحاف الذي يقع على البحر العربي في محافظة شبوه الجنوبية، فهل يمكن اعتبار مثل هذا المشروع ذي الطابع الاستراتيجي لبلد فقير كاليمن يصب في مصلحة تعزيز الوحدة الوطنية ويعززها ويبعد أحلام الانفصال والتجزئة التي لا تمت للواقع بصلة؟!

إن من يريد معرفة طبيعة الأزمة القائمة في الجنوب اليمني لا بد أن يعود بالتاريخ إلى السنوات التي أعقبت استقلاله، وقيام النظام الماركسي، كما أن عليه أن يستحضر الأزمات الناجمة عن الانتقال من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق التي عاشتها في أوائل تسعينيات القرن الماضي جميع بلدان المنظومة الاشتراكية عقب انهيار هذه المنظومة وفي المقدمة روسيا وكم احتاجت من أعوام طويلة لتجاوز كثير من مخلفاتها ومشكلاتها العويصة... ففي 30 نوفمبر 1967م تاريخ جلاء الاحتلال البريطاني تسلمت الجبهة القومية ذات الميول اليسارية الحكم في جنوب اليمن، وأعلنت قيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية التي تحولت فيما بعد إلى (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) وخلال العامين اللذين تولى فيهما الرئيس الراحل قحطان الشعبي المعروف باعتداله قيادة الدولة الوليدة جرت محاولات عدة للحفاظ على صورة إيجابية عنها وبناء علاقات متوازنة مع جيرانها إلا أن الجناح الماركسي المتطرف في الجبهة انقلب على الرئيس قحطان في عام 1969م وأودعه السجن الذي لم يخرج منه إلا عام 1982م لدفنه بعد وفاته، وسرعان ما تم الإعلان عن قرارات تأميم في بلد لا يمتلك بنية صناعية أو زراعية تذكر حتى قيل إن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر – صاحب قرارات التأميم الشهيرة في عام 1961م – سخر مما يجري عندما نما إلى علمه أن التأميم طال البيوت وقوارب الصيد ودكاكين التجارة وأشياء بسيطة من هذا القبيل، فقد كان هؤلاء القادة في سن صغيرة لا تزيد على 30 عاما، كما أن منهم من تأثر بالتجربة الماوية وآخرون تأثروا بالتجربة اللينينية... وعلى الفور غادر معظم أصحاب رؤوس الأموال الجنوب للنجاة بما تبقى من ثرواتهم إما إلى شمال اليمن أو إلى المملكة العربية السعودية ودول خليجية أخرى، فيما كان ميناء عدن الذي كان أكبر ثالث ميناء دولي قد دخل في حالة ركود تام انتهت بحالة موت سريري حتى استعادة الوحدة عام 1990م... وهكذا انتقل مجتمع مدينة عدن – تحديدا – من مجتمع منتج يعمل في ظل اقتصاد حر إلى مجتمع راكد يؤدي الوظائف والمهام المرسومة من الدولة وينتظر رواتبه ومخصصاته الغذائية نهاية كل شهر، والحال هو نفسه مع باقي المحافظات التي كانت تعاني حالة تخلف شديد في ظل حكم السلاطين الذين قضت عليهم الجبهة القومية ونجحت في توحيد 23 سلطنة تحت ظل نظامها الجمهوري وهذه بلا شك كانت أهم إنجازاتها لأنها بذلك عبدت الطريق نحو استعادة الوحدة اليمنية. 

كما هي طبيعة النظم الاشتراكية فقد جرى تدمير روح الإبداع والمبادرة الذاتية، وطوال أكثر من 20 عاما هيمنت الدولة على كل شيء وحاولت إعادة صياغة الإنسان اليمني في الجنوب على النمط الاشتراكي وحاربت كل مظاهر التدين وسعت لفرض قيم تحررية فيما يخص المرأة وبالمقابل قمعت كل رأي آخر حتى لو كان يساريا كما حدث للناصريين وغيرهم أو كما حدث للبعثيين الذين وجدوا أنفسهم مضطرين للاندماج في إطار الحزب الاشتراكي اليمني عند تأسيسه عام 1978م كبديل للجبهة القومية... وهكذا أصبحت الدولة هي كل شيء فهي التي تقيم المصانع وهي التي تحدد الوظائف وهي التي تقوم بكل الواجبات، فجاء الجنوب عشية الوحدة اليمنية بما يقارب من 400 ألف موظف مدني وعسكري رغم أن عدد السكان لم يكن يزيد على مليوني نسمة فيما جاء الشمال بنحو 60 ألف موظف مدني وعسكري من بين عدد سكان يقارب 12 مليون نسمة.. وللحديث بقية..

(3)
مع انهيار دول المنظومة الشيوعية في عام 1989م الواحدة بعد الأخرى وتخلي حليفها الأكبر الاتحاد السوفياتي عنها جميعا ضاقت الخيارات أمام الحزب الاشتراكي اليمني الذي يحكم الشطر الجنوبي من اليمن حينذاك والذي كان يعتمد كليا على دول المنظومة الشيوعية، وبالمقابل شن الرئيس علي عبد الله صالح الذي كان يحكم الشطر الشمالي من اليمن ما يمكن تسميته هجوما وحدويا، إذ مارس ضغطا شديدا على النظام الاشتراكي في الجنوب وطرح عليه التعجيل بإعلان الوحدة بين شطري اليمن إما وفق النموذج الفيدرالي أو النموذج الاندماجي باعتبار الوحدة السبيل الأمثل لتجنيب الحزب الاشتراكي السقوط في الجنوب كما حدث مع نظرائه في معظم الدول الأوروبية... ثم توجه الرئيس صالح بنفسه في 29 نوفمبر 1989م إلى عدن للمشاركة في احتفالات الجنوب بالجلاء وعلى طوال مرور موكبه في محافظتي لحج وعدن قوبل باستقبال شعبي تلقائي كبير وهتافات تطالبه بإعلان الوحدة فورا مما سبب قلقا شديدا لقيادة الحزب الحاكم في الجنوب وأعطى الرئيس صالح فرصة لا تعوض بألا يعود إلا بالاتفاق على الوحدة الاندماجية، وكان هذا ما حدث إذ وقع في اليوم التالي مع الأمين العام للحزب الاشتراكي علي سالم البيض – الذي كان الرجل الأول في النظام بحسب النظم الاشتراكية – على اتفاقية إحالة مشروع دستور دولة الوحدة إلى السلطتين التشريعيتين في الشطرين لإقراره من قبلهما تمهيدا لإعلان قيام دولة واحدة وهو ما كان يعني تجاوزهما لفكرة الاتحاد الفيدرالي.

بموجب هذه الاتفاقية والاتفاقيات السابقة كان يفترض إعلان الوحدة في نوفمبر من العام التالي، لكن سرعة تساقط الأنظمة الاشتراكية أقلقت النظام في الجنوب وخاصة النهاية المأساوية للرئيس الروماني نيكولاي تشاوشيسكو التي تصادفت مع وجود البيض في صنعاء أواخر ديسمبر 1989م حيث لقي استقبالا وحفاوة بالغين أدرك معه أن العرض الذي قدمه له الرئيس صالح باختصار الزمن المحدد لإعلان الوحدة أصبح أمرا ضروريا فجرى بالفعل اختصار نصف المدة وتم إعلان قيام الجمهورية اليمنية الموحدة في 22 مايو 1990م وانتخاب الرئيس علي عبد الله صالح رئيسا لها وعلي سالم البيض نائبا له، فيما تم الاتفاق خلال الشهور الستة التحضيرية على مبدأ تقاسم السلطة في الدولة الجديدة مناصفة في البرلمان المعين والحكومة وجميع السلطات فإن كان الوزير أو رئيس المؤسسة منتميا للمؤتمر الشعبي العام الذي كان يحكم الشمال فإن نائب الوزير أو نائب رئيس المؤسسة يجب أن يكون منتميا للحزب الاشتراكي اليمني وهكذا في جميع مرافق الدولة الجديدة، في الوقت الذي جاء فيه هذا الأخير لدولة الوحدة بخزينة خاوية وما يقارب من أربعمائة ألف موظف حكومي مدني وعسكري فإذا بموازنة الدولة الوليدة وهي في الأساس دولة فقيرة مثقلة بأعباء ما يزيد على نصف مليون موظف حتى تحولت كلفة الرواتب الشهرية إلى أكثر من 50 في المائة من الموازنة العامة. 

ومن سوء حظ الدولة اليمنية الوليدة أن حدث الاجتياح العراقي للكويت بعد شهرين فقط من قيامها، وجرى ما جرى من ملابسات الموقف اليمني من الاحتلال فأدى إلى قطع كثير من المساعدات الخارجية وعودة ما يقارب من مليون مغترب يمني في دول الخليج كانوا يرفدون الخزينة العامة بعائدات كبيرة فازدادت الأوضاع الاقتصادية سوءا فيما بدأت الخلافات السياسية بين شريكي الحكم تفرض نفسها على شكل أزمات سياسية متلاحقة تؤثر سلبا في جميع الأوضاع وتحديدا الاقتصادية فسرعان ما أخذت العملة الوطنية تتراجع أمام بقية العملات مما اضطر رئيس الوزراء المنتمي للحزب الاشتراكي المهندس حيدر العطاس يضع في أواخر عام 1992م أول برنامج للإصلاحات الاقتصادية والمالية اقتضى البدء في رفع الدعم عن كثير من السلع الغذائية والمشتقات النفطية وغيرها كما أخذ يطالب في حوارات صحفية بضرورة تعديل الدستور لينص بوضوح على الأخذ باقتصاد السوق بدلا عن الاقتصاد الاشتراكي، وبالفعل جرت خطوات لرفع الدعم عن بعض السلع الغذائية غير الأساسية، إلا أن عمق الخلافات السياسية على صورة المستقبل بين شريكي الحكم لم تسمح بالمضي في تنفيذ برنامج العطاس. 

خلال السنوات الأربع بين قيام الوحدة واندلاع حرب صيف 94 بدأت بعض المعالجات المحدودة لقضايا التأميم التي خلفها الحكم الاشتراكي في الجنوب، وفي الوقت ذاته قام الحزب الاشتراكي بتوزيع مئات من قطع الأرض لأنصاره وأعضائه في المحافظات الجنوبية التي ظلت قبضته الأمنية قوية عليها، ناهيك عن أن مماطلته في دمج وحدات الجيش التابعة له مع مثيلاتها التي كانت تابعة للشمال جعله محتفظا بقوة عسكرية وأمنية كبيرة يعوض بها النقص الذي حدث في عدد ممثليه في البرلمان المنتخب عام 1993م إذ تراجع العدد من نحو 120 نائبا إلى 68 نائبا جعلت نائب الرئيس علي سالم البيض يعلن رفضه استقواء حليفه عليه بالديمقراطية العددية وكان هذا الموقف إعلانا صريحا برفض الديمقراطية وإيذانا باندلاع الأزمة السياسية التي انتهت بالحرب وإعلان الانفصال الذي سقط بدعم شعبي من جميع اليمنيين شمالا وجنوبا، ومن ثم أدى إلى نزوح معظم قيادات الاشتراكي مدنيين وعسكريين خارج اليمن وانزواء بعضهم الآخر داخل البلاد فيما خرج الحزب الاشتراكي من منظومة الحكم نهائيا لينتقل إلى المعارضة منذ ذلك الحين. 

ورث الرئيس علي عبد الله صالح عقب حرب صيف 1994م تركة ثقيلة خلفها الحزب الاشتراكي على صعيد قضايا ملكية الأرض والمساكن ومؤسسات القطاع العام الفاشلة ومئات الآلاف من موظفي الدولة الذين يعتبرون من الناحية الاقتصادية البحتة (بطالة مقنعة) وإلى ذلك أوضاع اقتصادية منهارة حيث لم يكن الاحتياطي العام في البنك المركزي يزيد على تسعين مليون دولار حينذاك وهو ما يعني أننا أمام دولة مفلسة بالكامل... وفور استكمال تصفية الآثار الأولى للحرب وإجراء بعض التعديلات الدستورية الضرورية تشكلت حكومة ائتلافية من حزبي المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح برئاسة اقتصادي خبير هو عبد العزيز عبد الغني بدأت بوضع برنامج إصلاحات اقتصادية ومالية وإدارية بغرض إنقاذ البلاد من الانهيار لم يخرج كثيرا في جوهره عن برنامج سلفه حيدر العطاس ليجد اليمن نفسه في أزمة من نوع آخر.