هجـرة الكفـاءات العربيـة.. هل يمكن أن يتحـول الداء إلى دواء؟
الخميس, 20-أغسطس-2009
د. عبد اللطيـف الحنـاشي - أصدرت جامعة الدول العربية مؤخرا التقرير الإقليمي لهجرة العمل العربية، ومن بين القضايا التي عالجها التقرير ظاهرة هجرة الكفاءات العربية أو ما يعرف اصطلاحا بـ"هجرة الأدمغة". إذ قدّمت البيانات المُرفقة ارتفاع حجم هذه الظاهرة وخصائصها ومحدداتها وتداعياتها المختلفة، من ذلك أن نسبة الأطباء العرب المقيمين بدول منظمة التعاون الاقتصادي قد بلغت 18.2 في المائة، وهي تمثل بذلك أعلى نسبة مقارنة مع الأقاليم أو الدول الأخرى، باستثناء دول أفريقيا جنوب الصحراء، وتعادل هذه النسبة على سبيل المثال حوالي 20 مرة مثيلتها من الأطباء الصينيين. وقد بيّن تقرير الهجرة المتوسطية "2006- 2007" أن عدد المهاجرين من أصول عربية الحاصلين على شهادات عليا "ماجستير ودكتوراه" المقيمين في الاتحاد الأوروبي يصل إلى نحو 600 ألف في حين بلغ عدد هؤلاء في الولايات المتحدة أكثر من 170 ألفا..
وتبدو صيحة الفزع التي أطلقها التقرير العربي مشروعة وذات مصداقية غير أن الأمر لا يجب حسب تقديرنا أن يدفع إلى كل هذا التشاؤم، فهجرة الكفاءات العلمية هي إحدى ظواهر القرن العشرين استفحل أمرها وتوسّع مجالها في إطار العولمة؛ إذ لم تعد تقتصر على دول الجنوب النامي، ومنه الدول العربية، بل شملت حتى الدول الأوروبية الكبرى. إذ بيّنت دراسة أنجزت سنة 2000 لصالح وزارة الهجرة والاندماج والهوية الوطنية الفرنسية حول "السوق العالمي للأدمغة" أن 94 ألفا من الشباب الفرنسي المتحصل على شهادات عليا "ماجستير ودكتوراه" يغادر البلاد إلى الولايات المتحدة الأمريكية "حوالي 47 ألفا" وإلى كندا "27 ألفا" وإلى سويسرا "27 ألفا" وإلى أسبانيا "26 ألفا" وإلى ألمانيا "24 ألفا" وكذلك إلى بريطانيا...
أما عدد البريطانيين الذين يغادرون بلادهم متوجهين إلى كندا والولايات المتحدة واستراليا فيبدو أكثر بكثير من عدد الفرنسيين... وحتى إسرائيل الدولة "الفتيّة" المدعومة من قبل الغرب والنخب اليهودية العاملة في تلك الدول والحريصة جدا على بقاء نخبها العلمية فإنها تشكو بدورها من هذه الظاهرة، إذ بينت آخر المعطيات الصادرة عن بعض الدوائر الرسمية هناك أن 1 من 4 أساتذة جامعيين يغادرون إسرائيل إلى الولايات المتحدة. وتمثل تلك الهجرة 6 مرات أكثر مما هو الأمر في الدول الأوروبية. وقد بلغ عدد المغادرين المشتغلين في قطاع التكنولوجيا الجديدة والاتصالات والإعلامية بمختلف فروعها خلال 2007 نحو 25 ألفا، كما تشير بعض البيانات أن 40 في المائة من جملة الأساتذة الإسرائيليين العاملين في قطاع المعلوماتية يدرّسون في أهم الجامعات الأمريكية.
وتتحكم في قرار الهجرة عادة عوامل جاذبة وأخرى طاردة، ومنها خاصة التشريعات والقوانين المنظمة للحياة الجامعية بالإضافة إلى الامتيازات المالية المقدمة لتلك الكفاءات. ولا شكّ أن أسباب هجرة الكفاءات واتجاهاتها من الدول العربية إلى الخارج تختلف عن الأسباب التي تقود إلى هجرة الغربيين عامة وإن تتوافق أحيانا. إذ تتوفر للكفاءات الأوروبية المتجهة إلى كندا والولايات المتحدة الأمريكية ظروف طيبة للعمل والبحث العلمي وخاصة ارتفاع أجور الحاملين لشهادة ما بعد الدكتوراه؛ ويقدّر راتب 58 في المائة من هؤلاء بـ15 ألف فرنك شهريا، بينما يقدر راتب 59 في المائة من نفس الفئة في فرنسا بـ10 آلاف فرنك. كما أن رواتب الحاملين للشهادات العليا في أمريكا مثلا هو أرفع ممّا عليه في إسرائيل بنحو 8 مرات؛ وبالإضافة إلى ذلك تبدو فرص العمل لتلك الفئة مضمونة في أمريكا الشمالية وهو ما يؤدي إلى تقلص نسبة البطالة في صفوف أفرادها إذ لا تتجاوز عادة 1.9 في المائة في أمريكا بينما تصل إلى نحو 7.4 في المائة في فرنسا.
كما تتميز الجامعات الأمريكية بضخامة ميزانياتها، فقد بلغ رأس مال جامعة هارفارد مثلا نحو 35 مليار دولار، وهو ما يعادل ربع ميزانية وزارة البحث العلمي الفرنسية. وتشير بعض الدراسات في هذا المجال إلى أن رأس مال العشر جامعات أمريكية الأكثر حظوة قد بلغ سنة 2006 نحو 120 مليار دولار! إلى جانب توفر إمكانيات النشر الواسعة وعقد المؤتمرات العلمية ومختلف التجهيزات والمختبرات ووحدات البحث المتكاملة وسيادة روح العمل الجماعي، كما توفر تلك المؤسسات عادة للطلبة المتخرجين فرص العمل..
أما وضع الجامعات ومراكز البحث في العالم النامي، ومنه العالم العربي، فيبدو مختلفا جدّا، فالإمكانيات محدودة وهي تشكو عادة من عجز مستمرّ في ميزانياتها وتنخر البيروقراطية سير عملها "توقيت العمل المضبوط.." كما يواجه الأساتذة والباحثون والطلبة عراقيل كثيرة وظروفا غير مواتية للبحث والإبداع بالإضافة إلى انعدام الحريات الأكاديمية، دون الحديث عن الأجور المتدنية جدا مقارنة بما هو سائد في دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا الشمالية. أما فرص العمل بالنسبة إلى الخريجين الجدد الذين قد تصل أعدادهم في الدولة الواحدة إلى عدة آلاف، فتبدو شبه مستحيلة. والأهم من كل ذلك أن الجامعات العربية تفتقر لروح المبادرة وبلورة مشاريع علمية ضخمة ومنتجة. أما في حال وجود رغبة لدى الباحثين فإن إمكانية تحقيقها تبدو مستحيلة نتيجة للعوامل السابقة...
لقد أدركت بعض الدول الأوروبية خطورة ما يتولد عن هجرة طلبتها وباحثيها وعلمائها، إلى أمريكا الشمالية، من نتائج وخيمة على مستقبل مجتمعاتها بالرغم من أنها تستقبل سنويا أعدادا ضخمة من الطلبة الحاملين لشهادات عليا وباحثين من الدول النامية، وذلك في محاولة تعويض أو تدارك "خسائرها الوطنية" في هذا المجال، غير أن الأمر يبدو غير كاف، لذلك أطلقت بعض الحكومات الأوروبية مشاريع لإغواء حاملي الشهادات العليا للبقاء في أوطانهم أو العودة للاستقرار فيها. من ذلك أن الحكومة البريطانية وبالتعاون مع إحدى المؤسسات الخاصة قد ضبطت برنامجا "منذ سنة 2000" يقتضي بتخصيص 20 مليون جنيه إسترليني لتشجيع الباحثين البريطانيين للعودة إلى بلادهم، وجلب أكثر ما يمكن من الباحثين الشبان من أنحاء العالم.
أما الكونغرس الأمريكي فقد أعلن في نفس السنة عن الرفع من حصة سمة الدخول إلى البلاد "الفيزا" المخصصة لأصحاب الكفاءات من المهاجرين من 115 ألفا إلى 195 ألفا إلى حدود سنة 2003. وفي فرنسا تم بعث أكثر من 700 خطة أستاذ وباحث منذ سنة 1997 بهدف فتح الآفاق أمام الشباب المتخرّج حديثا للعمل وتشجيع المتربصين في درجة التكوين ما بعد الدكتوراه المستقرين في الخارج للعودة إلى البلاد. كما وضعت إسرائيل برنامجا أطلقت عليه اسم "العودة إلى البيت" يَعِدُ المهاجرين بضمان العمل في إسرائيل عند العودة وتقديم قروض ميسرة لإحداث مشاريع والإعفاء من الضرائب على المداخيل... وبعد النهضة الاقتصادية الكبرى التي عرفتها الصين أصبح الشباب الصيني، وبعد إنهاء دراسته، لا يتردّد في ترك كاليفورنيا أو بعض المدن البريطانية، والعودة إلى شنغهاي لمسك الوظائف الهامة.. وعكس ذلك تماما، تبدو الدول العربية غير عابئة بخطورة استمرار نزيف الكفاءات العربية وما يتولد عنه من خسائر مركّبة لمستقبل أجيالها، كما تبدو تلك الحكومات غير مبالية بالتحذيرات التي تُطلقها بعض المنظمات الوطنية أو الإقليمية حول هذا الموضوع.
وأصبح قطاع واسع من النخبة في البلدان العربية على قناعة بجدوى هجرة الكفاءات العلمية من زوايا مختلفة. فأمام حدة التنافس على جلب وتوظيف العقول والكفاءات بين الدول الكبرى، بالتوازي مع غياب الإرادة السياسية العربية القادرة على اتخاذ القرارات والوسائل لاستقطاب تلك الكفاءات، إلى جانب عدم اقتناع أصحاب القرار في الدول العربية بجدوى بناء مشاريع علمية كبرى قادرة على الإنتاج والمنافسة التي تساعد على توفير الظروف الأساسية لبقاء تلك الكفاءات في بلادها، فإن هؤلاء يرون أن استقرار تلك الكفاءات في أوروبا أو أمريكا الشمالية قد يساعد على تقليص نسبة بطالة أصحاب الشهادات العليا من الشباب العربي.
كما قد يساهم البعض من المغتربين في توطين المعرفة في بلدانهم الأصلية والرفع من مستوى البحث العلمي سواء عن بُعد، خاصة بعد توفر وسائل اتصال سريعة وناجعة "الانترنيت"، أو عن طريق الاتصال المباشر والزيارات المتكررة للمؤسسات الجامعية والبحثية في بلدانهم، أو ربط تلك المؤسسات بالمؤسسات الأجنبية التي يعملون فيها، وذلك للاستفادة من إمكانياتها وتجاربها.. كما قد لا يتردد البعض من تلك الكفاءات في المساهمة في التنمية البشرية في بلدانهم الأصلية وذلك من خلال الاستثمار بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في قطاعات ذات علاقة باختصاصاتهم العلمية "صناعة الأدوية أو الصناعات التكنولوجية..." مع بقائهم في المهجر أو دعم بعض المشاريع الاقتصادية الناجعة التي قد تساهم بقدر أو آخر في تقليص نسبة التبعية والبطالة في صفوف الشباب العربي...
المصدر العرب إونلاين
|