في واقع المنظومة التربوية العربية: التعليم العالي في أزمة حقيقية
الأحد, 09-أغسطس-2009
أزراج عمر - إن التعليم في البلدان العربية يعاني من التخلف البنيوي علما أنه من المستحيل أن تتحقق النهضة بدون تحديث الركيزة التربوية وربطها بالعصر ومشروع التنمية الفكرية والفنية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعلمية. فالتحديث التربوي ضرورة وليس ترفا. لا أحد يجادل في أن التخلف ينبع باستمرار من الفقر التربوي وغياب مخطط بناء مجتمعات المعرفة. وفي هذا السياق ينبغي التمييز بين التعليم وبين التثقيف. فالأول هو مجرد عملية تدريس المعارف ولو على نحو خارجي، أما التثقيف التربوي فيتضمن التعليم وتكوين العقل النظري والعملي، وغرس الأخلاقيات في النفوس، وتأسيس أسلوب الحياة الذي يميز مجتمعا من المجتمعات.

إنه من المفضل إذن أن نتحدث عن التثقيف التربوي وكيف يمكن أن يؤسس ويطور ويحول إلى مشروع لبناء المجتمع النهضوي. وإلى جانب ما تقدم فإن مجتمعاتنا التي تطمح أن تتجاوز عقبة التخلف لم تزامن بين التعليم وبين التثقيف التربوي والمعرفي. ويعود عدم إنجاز القفزة النوعية في مجالات العصرنة والتحديث في بلداننا على نحو جزئي إلى ما يشبه العطالة التي أصابت ولا تزال تصيب المنظومة التعليمية– التربوية.

سوف أحصر المشكلة الأساسية في هذا الحقل الذي يحتل المكانة الأساسية في أي عملية "صنع" الرأسمال التنموي في غياب المنهج والآليات والطاقة الإبداعية لتأسيس النموذج الحضاري الخاص بنا وهندسة الإنسان الجديد بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالات وأبعاد.

التخطيط المفقود:

بعيد استقلال الجزء الأكبر من بلداننا طرحت مشكلة المنظومة التربوية طرحا ملحا، كان الموروث الاستعماري متعدد الأوجه. كانت هنالك الأمية المستشرية في الأرياف والمدن وندرة الإطارات القادرة على تسيير المؤسسات السياسية والمدنية. كما برزت تحديات مركزية تتمثل في قهر التشويه الثقافي والتاريخي للمكونات الجوهرية للهويات الوطنية.

وهكذا وجدنا مجتمعاتنا ما بعد الاستعمارية تعاني من مختلف أشكال التمزق والفقدان. فالمعمار الموروث إما أنه لا يعبر عن خصوصياتنا أو هو تقليدي، وجامد، ولم يطور، ويحسّن بما يجعله أساسا لتشكيل الثقافة الوطنية. وفضلا عن ذلك فإن الإدارة الموروثة عن الاستعمار لم تستبدل عناصرها الأخلاقية، ولم تحول إلى واقع شعبي لا تحتكره النخبة أو السلطة.

هذه مجرد أمثلة وعينات لم تغيرها المنظومة التربوية– التعليمية جذريا. ومن هنا فإن الذي حصل هو الاكتفاء بالجانب الشكلي من دور هذه المنظومة، ألا وهو تعليم القراءة والكتابة وليس التثقيف والتحويل الذهني والأخلاقي والفكري والفني.

طوال السنين انصب الاهتمام على الكم دون الكيف سواء فيما يتعلق ببناء المؤسسات التعليمية أو بالبرامج والمناهج، كان من المفروض أن يكون مشروع بناء الانسان الحديث هو الهدف المركزي وليس الإبقاء على المنظومة الذهنية والفكرية المتخلفة والتكوين النفسي التقليدي المغرق في التعقيد والتشظي. وبعبارة أكثر دقة، فإن التخطيط لمنظومة تعليمية– تربوية جديدة وحديثة كان ولا يزال في حكم الغياب في مجتمعاتنا. فحتى المشكلة اللغوية لم يحسم فيها.

إن سبر الخطابات اللغوية الجمعية لمواطنينا يبرز أن اللهجات العامية "الدارجة" قد صارت مسيطرة على مستوى التعامل في الشارع وعلى مستوى المؤسسات.

وبهذا الخصوص أقتطف هذا النص الذي تضمنته رسالة بعث بها الفيلسوف الألماني هيجل إلى صديقه يوهات هايزبيك فوس وذلك في مارس 1805م: "لقد جعل لوثر الكتاب المقدس يتكلم الألمانية، وقمت أنت بالشيء نفسه بالنسبة إلى هومر "هوميروس". وهذا أعظم هدية تقدم إلى شعب. ذلك أن شعبا ما يبقى متوحشا ولا يرى أن ما هو رائع في مجال معرفته ينتمي إليه انتماء حقا ما لم يعرف ذلك بلغته الخاصة. وإذا تكرمت بالتغاضي عن هذين المثالين فإنه يمكنني أن أقول عن مسعاي إنني سأعمل على جعل الفلسفة تتكلم اللغة الألمانية".

إذن كان هيجل من صنع المنظومة التربوية- التعليمية الالمانية وأنه كنتاج لها تمكن فعلا من جعل الفلسفة تتكلم اللغة الألمانية، أي تعبر عن الهوية الألمانية، فإن منظوماتنا التربوية– التعليمية قد جعلت هوياتنا تتكلم العاميات واللهجات العربية القطرية، وليس اللغة العربية الأكثر تطورا وحداثة. نعم، إن التعليم ببلداننا يتكلم اللهجات، ويمارس القبيلة والعشيرة، الفقر المادي والتعبدي معا.

أين المشروع؟:

يبدو أن المسؤولين على المنظومة التعليمية ببلداننا في عطلة أبدية، وانسحاب كامل عن رهانات العصر الحديث؛ في حقيقة الأمر فإن مضمون المشروع التعليمي– التربوي المنشود هو تقديم التصور والإجابة العملية عن سؤال: ما هو التنوير؟ هذا السؤال طرحته أوروبا على نفسها في القرن الثامن عشر بقوة وحرارة لكي تجد جوابا له لتخرج من الظلمات. فالتنوير حسب المنطق الاوروبي في القرن الثامن عشر وكما عبر عنه فيلسوف ألمانيا هو كانط "تعرف الأنوار بأنها خروج الانسان من حالة القصور التي هو عليها، بخطإ منه، وبسبب انعدام القدرة لديه على استعمال عقله دون توجيه من الغير، ولا يرجع القصور إلى عيب في العقل، ولكن إلى الافتقار في التصميم وإلى الشجاعة في استغلاله دون توجيه ما ودون وصاية.

هذا هو شعار الأنوار: "تشجع على استعمال عقلك". إذن، فإن المعركة من أجل التنوير تستهدف اخراج الانسان من حالة القصور والافتقار في التصميم وإلى الشجاعة والركون إلى التوجيه والوصاية وعدم استخدام العقل. أليس حريا بمنظومتنا التعليمية– التربوية أن تحقق هذه الأركان التي يرتكز عليها التنوير؟ أين هذا المشروع في هذه المنظومة؟ وهل تحقق شيء منه حقا؟

إن كانط يركز على استخدام العقل استخداما حرا، فهل تمكنت منظوماتنا التربوية- التعليمية من تشييد أجيال تفكر بعقلها دون وصاية من أحد؟ أليس الديكتاتورية المستشرية في المؤسسات وفي العائلة وفي البنيات والتجليات والممارسات هي نتاج لعدم تربية العقل العربي لكي يمارس الشجاعة لاستعمال العقل النقدي؟

ونتساءل مرات أخرى: ما هي الأهداف الكبرى لمنظوماتنا التربوية؟ وهل أنجزنا الانسان الديمقراطي؟ هل أنجزنا الانسان العادل؟ هل أسسنا لجماليات الحكم؟ هل ميزنا بين المعقول واللامعقول في تراثنا وفي تراث الغير الذي نعيد انتاجه بوعي حينا وبدون وعي حينا آخر؟

أوجه القصور في التعليم العالي:

مما لا شك فيه أن التعليم العالي ببلداننا لا ينفصل عن المقدمات التي تؤسس في المراحل التعليمية الأولى في الابتدائي، والتكميلي، والثانوي، وعن المحيط العام. وبالنتيجة فهو يتأثر بهذه المقدمات والفضاء القاعدي الاجتماعي، والاقتصادي والمعماري والنفسي. ولذلك فإن الخلل مشترك، ومن الصعوبة بمكان أن ينفرد التعليم الجامعي ويستقل عن هذه الشبكة. وهذا ما أدركته البلدان التي تطورت وحققت بناء مجتمعات المعرفة والتفكير العلمي والوفرة الاقتصادية ودولة الرعاية الثقافية جنبا إلى جنب مع عنصر الرعاية الاجتماعية. ويمكننا أن نتأمل نماذج كثيرة منها اليابان والسويد والدانمارك إلى جانب معظم الدول التي تدعى بالقوى المحورية الكبرى في عالمنا.

من أوجه القصور في التعليم العالي ببلداننا من المحيط إلى الخليج ندرج ما يلي:

1- عدم الربط بين التنمية في نماذجها الأكثر حداثة وبين المضامين التي تدرس للطلاب والطالبات.

2- الإبقاء على المعاف والطرق والمناهج التقليدية.

3- تغييب حرية البحث وعدم تجاوز اجترار المسلمات والبديهيات.

4- استبعاد السؤال الفلسفي من التعاطي مع رهانات المعرفة الفكرية والعلمية والفنية والمهنية.

5- تسييس المنظومة التعليمية الجامعية وأدلجتها وفقا للأنظمة الحاكمة.

6- عدم انفتاح جامعاتنا على المنظومات التعليمية المتطورة في العالم، ليس لتقليدها تقليدا أو نسخها نسخا، وإنما لخلق حوار خصب وفاعل بين طلابنا وبين المصادر والروح الإبداعية لهذه المنظومات.

7- تكريس التقليد ومحاربة روح الإبداع والابتكار وإهمال المواهب وتوجيهها توجيها تعسفيا إلى ما لا يتوافق معها.

إن هذه الأوجه من القصور تحول دون تفتح التعليم العالي عندنا على معطيات العصر ورهاناته الكبرى؛ فما العمل؟ إنه من الضروري تجاوز هذه الجدران الفولاذية حتى نقهر التخلف ونبدأ في السير على طريق التحرير الشامل.

إن استيعاب التجارب الناجحة في العالم وربط التعليم العالي بالتنميات الوطنية من حيث التخطيط، والتكوين والتوجيه والنظرية والممارسة من العوامل التي ستساعد على تجاوز الأزمة.

نقلاً عن 
  العرب إونلاين