في نقد أيديولوحيا مجتمع الشبكات الرقمية و المعلومات 3/3
الأحد, 02-أغسطس-2009
د. حسـن المصـدق - يشدد الباحث برنات لوبيز "1996" على أن دراسة مجتمع تكنولوجيا المعلومات والتواصل يجب أن تتم من زاوية اعتباره كيانا يحوي مفهوما وأسطورة ويوتوبيا وشعارا اتخذته الليبرالية الجديدة لها. لذلك إن ما نحن بصدده سيشمل تحليل هذه العناصر الأربعة التي يمكن أن يحتويها من الناحية الفلسفية مفهوم الأيديولوجيا.

هذا بالرغم من وجود تضارب شديد في تحديد تعريف الأيديولوجيا بعامة، وأيديولوجية مجتمع تكنولوجيا المعلومات بخاصة، منه أن الباحث نيكولا غرنهام "Garnham" يعتبر أن << نظرية " مجتمع المعلومات" احتلت مكانة نموذج – باراديغما ـ مهيمنة، لذا إن مواجهتها كنظرية علمية وكأيديولوجيا.

تاريخيا يعد ديستون دوتراس أول من استعملها في بداية القرن الثامن عشر بهدف الفصل بين عالم الأفكار والعالم المحسوس، وأعاد ماركس وأنجلز النظر فيها كي يرصد لها استعمالا يفي بالإشارة إلى الوعي الخاطئ أو مجموعة من الأوهام والأفكار المزيفة التي لا تقوم على بينة ولا تستند على أي أساس منطقي وعلمي مقبول، بحيث تعني نظام الفكر والقيم الذي تعمل الطبقات الحاكمة على تسيده وديمومته دون سواه في المجتمع.

لذلك حاول المفكر الماركسي غرامشي بناء أيديولوجيا مضادة عبر منظومة قيمية ورمزية خاصة بالطبقات الكادحة حتى تستطيع جموعها المحرومة صياغة نظرية في جميع مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية مخالفة لما هو سائد من قيم ومثال وقوانين في المجتمع البورجوازي. ثم حاولت مدرسة فرانكفورت أن ترسي نقدا للأيديولوجيا من خلال منظور يُطهرها من الزيف والإثارة وتكييف الأذواق والمشاعر والوجدان الذي يحبل به المجتمع الصناعي الذي يسيطر عليه العقل الأداتي والحسابي والنزعة العلموية.

والواقع أن الأيديولوجيا بهذا المعنى أصبحت منظومة قيم لها العديد من المفاهيم والممارسات تعمل على طمس الواقع وتزييف حقائقه، بحيث ارتبطت في الوعي الاشتراكي بالوعي الزائف، لكن يظل فهمها يعني وعيا اجتماعيا يعبر عن مصالح طبقة اجتماعية على مستوى الأحكام والتمثلات والتصورات والقيم، بما يعني أنها حاملة لدلالات وحاضرة كالهواء في كل قول وفعل.

والحال أننا في عصر العولمة أمام نظرية للتواصل تطرح ذاتها أينما حلت وارتحلت كوسيلة شاملة كاملة لفهم المرحلة التاريخية الحالية وتوجهات التطور المهيمنة في مجتمعاتنا. علاوة أنها بموازاة ذلك هي أيديولوجيا مفضلة للدفاع عن شرعية من بحوزتهم السلطة الاقتصادية والسياسية>>.
بطبيعة الحال يطرح نقد أيديولوجيا مجتمع تكنولوجيا المعلومات أو اقتصاد المعرفة مشاكل عويصة، لذلك نحبذ اللجوء إلى تعريف الفيلسوف الفرنسي بول ريكور "1913- 2005" للأيديولوجيا بوصفها حاملة لثلاث وظائف: الشرعية، الاعوجاج والإدماج. وهي بهذا المعنى يمكن أن تشتمل على وظيفة إيجابية أو سلبية، بناءة أو مدمرة.
فهي من جهة يمكن أن تتقمص دور قناع خفي للمصالح، مستعملة في ذلك الخداع والتضليل والوهم في ارتباطها بسلطة تدافع عنها أو تجد لها تبريرات وذرائع ومسوغات، وبالتالي تحاول أن تسندها بحمولة فكرية وقانونية واجتماعية وثقافية تحافظ على الوضع كما هو عليه " وظيفة الشرعية". ومن ثم تتحول إلى سلطة مؤسساتية كليانية تقوم بدمج الأفراد والجماعات في حظيرة قيمها الخاصة.
بيد أن أهم ما ينطوي عليه هذا التعريف كونه لا يفصل بين الأيديولوجيا والواقع، سواء كان مجرد آلة مروجة للوهم أو مجرد مرآة تعكس علاقات القوة السائدة. بل يشير إلى كونها تتوفر على وظيفة أخرى في المجتمع تتعلق بمحاولة صهر الجميع داخل بوتقة نظام سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي، حيث يمكن أن تكون باعثا على الفعل الإنساني وذات وظيفة إدماجية.
والأيديولوجيا بهذا المعنى إذا كانت سلة تناقضات يختلط فيها الفكر بالوهم، فمرد هذا الأمر أن الحياة الاجتماعية ذات طبيعة رمزية يختلط فيها الواقع بالخيال، الحقيقة بالمصلحة والعلم بالأسطورة. وبالتالي يرى الفيلسوف بول ريكور رائد المدرسة التأويلية الفرنسية أن << رمزية بنية الحياة الاجتماعية، هو ما يجعلها قابلة للاعوجاج، ما دامت قابلية الاعوجاج هي إمكانية مفتوحة في هذه الوظيفة الرمزية>>.

فالرمز بطبعه يحتمل سؤال المعنى، والمعنى مفتوح على العقل والقلب، قد تجرفه العاطفة والميولات الشخصية أو العقدية من قيم ومثل ومعتقدات... أو قد يجرفه سيلان العقل والمنطق، ما يترك الباب مشرعا للأهواء والوجدان والأحاسيس. إجمالا، إن ما نحس به تتدخل فيه عوامل كثيرة قد لا يتحكم بها العقل وحده.

ومهما يكن من اختلاف التعريفات حول مفهوم الأيديولوجيا، يبقى أن المفهوم في حد ذاته يتيح فحص دعاوي الشرعية وتقديم مقاربة نقدية لها من موقع تسليط الضوء على أسئلة السلطة والهيمنة في مجتمع المعلومات. ومن ثم يُطرح الخطاب التمجيدي والشعاري حول "مجتمع تكنولوجيا المعلومات" موضع تساؤل، بالقياس إلى كونه يريد بناء واقع يقوم على علاقات قوة وسيطرة وهيمنة تسعى إلى تأبيد الوضع القائم على عدم المساواة والإكراه.

وما يهم في هذا الباب أن الصناعة السمعية البصرية كأيديولوجيا تمثلت في تحويل إنتاجها الإعلامي والثقافي إلى بضاعة تخضع لآليات السوق والمنطق الرأسمالي، فاتحة المجال أمام آليات العرض والطلب أن تتحكم بالمنتوج الإعلامي ولتصبح هي المحدد الأول والأخير.

ولعل مبرر القول بأن الثورة الإعلامية ـ المعلوماتية ستسمح بتبادل واقتسام المعرفة في كل بقاع العالم، قول مردود وينافي جادة الصواب بناء على رصد ما يجري ويدور.

فتدفق المعلومات والأخبار وتغطية الوقائع والأحداث لا يغيب عنه تحكم جهات معينة به.

فالعقل الذي يتحكم بهذا التدفق هو في خدمة منطق تراكم رأس المال ذات الطبيعة الاحتكارية، كما أن العقل الذي يسخر الدعاية والإشهار تحذوه الرغبة العارمة في أن يضاعف أصحابه رأسمالهم باختراقهم أسواقا واسعة وجذب قواعد شعبية من المستهلكين في جميع أنحاء العالم نحو منتوجاتهم ولو على حساب أخرى. بحيث تحاول فالصناعة السمعية البصرية من خلال تقنية الصورة والصوت تنميط خيال المشاهد وتوجيه المستمع نظرا لما لها من قوة في إعداده وتهيئه نفسيا، كي يلهث وراء السلعة موضوع الإعلان الإشهاري.

والتنضيد أو التنميط يقع على جميع الموضوعات والأخبار، إذ ليس هناك من تحليل نقدي عميق وكشف موضوعي للمعلومات المقدمة... فهي تجري على بعضها البعض، كما أن خبر الصبح يمحوه خبر المساء وهكذا دواليك. إذ لا سبيل للتأني والروية وإعمال العقل...
من ثم يجدر في هذه الزاوية نقد تطبيقات شعار" الحرية" الذي تنتظم فيه حرية التعبير وحرية التواصل في الأيديولوجية الليبرالية، فهي بمثابة ـ الأنموذج ـ "Paradigme" الجديد الذي على غراره يتم تأطير مجتمع المعلومات والاتصال في جميع بقاع العالم، منذ سقوط أسطورة "التقدم" التي تسيدت أمدا غير قليل في المجتمع الصناعي الكلاسيكي.

مؤدى ذلك أن " الحرية" التي تتغنى بها الليبرالية ويتم الترويج لها، أصبحت مجرد أسطورة سحرية في الموجة الثالثة. ناهيك أنه لم يخل أي عصر من عصور الإنسانية من "أساطير"، نخص بالذكر منها ثلاث أساطير حاولت الفلسفة الليبرالية الكلاسيكية بكل قوة أن تجعل منها اعتقادات حتمية مقبولة لدى العام والخاص، في الشرق والغرب على حد سواء.

ومما لا شطط فيه أنه بعد سقوط وهم الاعتقاد في أسطورة "التقدم" في القرن الثامن والتاسع عشر كخلاص للبشرية من آثامها وشرورها في الألفية الثانية، استمرت أوهام أخرى تشُد الإنسانية إلى الانعتاق والتحرر ويشدوها الأمل في أن يعم الأمن والسلام العالم.

لذا حاولت الليبرالية الجديدة الحفاظ بكل قوة على ثلاث أساطير قديمة ـ جديدة، حاولت أن تجعل منها أوهاما مقبولة لدى العام والخاص في الشرق والغرب. الأولى منها يداعبها حلم أن تتبنى البشرية شمالا وجنوبا، شرقا وغربا مبادئ كونية تشمل الجميع، القاصي والداني على حد سواء. أما الثانية، فحملت في جعبتها أمل تحقيق الجنة الموعودة بين البشر على أديم الأرض، أو ما أطلق عليه بوهم السلام والأمن العالميين.

بينما الوهم الثالث تم الترويج بأنه مِشْكاة للخروج من نفق الحروب والصراعات عبر " القانون الدولي"، بحيث يحتكم إليه الجميع ويُطبق على الجميع لا فرق بين قوي أو ضعيف.

غير أن استمرار اشتعال جذوة حرائق الحروب التي لا تنطفئ، إلا لكي تشتعل من جديد أشد وأعنف، جعل أوهام السلام والمبادئ الكونية والقانون الدولي محض وسائل أو مُسكِّنات لالتقاط الأنفاس ومعاودة الكرة من جديد بكل بربرية وقسوة من ناحية، بل إن هذه الأوهام الثلاثة مجتمعة أصبحت مخدر القرن الجديد للتخفيف من وطأة ما يجري من غلبة وهيمنة من ناحية أخرى.

بطبيعة الحال لا غنى للمعذبين في الأرض في عقد الآمال على الأحلام والأساطير وحتى الأوهام أحيانا، ما دام ذلك تعبير عن رغبة دفينة ظلت تراود وتداعب خيال الطفولة الإنسانية منذ القدم، لكن لا ننسى أن هذه الأوهام تندرج في عالم الخيال أكثر منه في عالم الواقع. فوهم الإيمان الجارف بها يجعل أصحابها من المتغنين والمدافعين والمبشرين بها، كأشباه أسطورة<< سيزيف>> جدد كلما حاولوا الصعود بها إلى قمة الجبل، سقطوا إلى أسفل تحت وطأة الواقع البشري الآسن.

وبإيجاز، لا مندوحة من القبول أن أي ثقافة إنسانية لها أوهامها وأساطيرها، فهذا ديدن البشرية منذ القدم ودأبها الذي لا تتخلى عنه، ما دامت الأسطورة بهذا المعنى هي قصة الإنسان بامتياز وفيها يختزل سر الوجود ومعناه، إذ عبرها حاول أن يقدم تأويلات مقبولة لمعنى الحياة وما يقض مضجعه في عالم يستعصي عليه فك جميع حقائقه الموضوعية بالعقل والعقلانية، منذ أن سقط وهم أن تجد العقلانية والعلم حلا لجميع القضايا وأن يقدما جوابا شافيا كافيا لجميع الأسئلة البشرية.

وأنَّى أن تستطيع العقلانية اليوم فعل ذلك لوحدها، بعد أن اكتوت بسعيرها هي أيضا البشرية... لكن بقدر ما هي الحاجة ملحة للعقل في مناحي عديدة، نحن أيضا بحاجة ماسة إلى قيم وأحلام وأوهام وتأويلات وأساطير جديدة، لأن أية ثقافة إنسانية لا بد لها من جذور ضاربة في الأسطورة ـ كأسطورة "الحرية" و"العدالة" و"المساواة" ... ـ تبني من خلالها معاني للوجود وتمتح منها نظمها ومعاييرها شرعيتها وتغذي آمال ساكنيها.

والواقع أن مختلف الأوهام والأساطير المعاصرة بهذه المعاني ما زالت حية وستحيى، لكن الخوف أن تصبح عبارة عن << مُسكِّنات >> أيديولوجية تحتضن أفكارا كبرى تُعوض سقوط العديد من الإيديولوجيات التي خرجت من معطف فلسفة التاريخ كالاشتراكية والليبرالية والقومية والأصولية الدينية... الخ. إذ على هذا النحو يمكن اعتبار "حرية التواصل" بمثابة أوهام وأساطير جديدة تناسب ما أصبح اليوم يسمى بمجتمع المعلومات الجديد.

فأيديولوجية التواصل الممثلة في شعار حرية تبادل المعلومات بكل شفافية، والمتصلة أيضا بحرية تنقل الأشخاص والممتلكات والثقافات، لا تظهر في واقع الحال كأيديولوجية قد تنطوي على مخاطر شتى. لكنها تنطوي في واقع الأمر على خديعة كبرى، بالرغم من أنه ليس هناك في الظاهر أي شكوك بادية للعيان يمكن من خلالها عقد مقارنة بينها وبين التداعيات التي خلفتها الأيديولوجيات السابقة عنها، على نحو ما خلفته النازية والشيوعية الستالينية وتناحر القوميات الأوروبية وعنف النزعات الأصولية المتطرفة من آثار ماحقة وأضرار بليغة.

فليس هناك من جثث وعنف بادية آثارها في قارعة الطريق والأرصفة، بل على العكس إن وسائطها المختلفة عبر سلطة الصورة تبدو جذابة ومثيرة، بالإضافة إلى ما لعبت من دور كبير في التعجيل بالإطاحة بأنظمة شمولية عديدة، ليس أقله سقوط النظام في الاتحاد السوفياتي الذي لم تصمد ثقافته في وجه ثقافة الإغراء والإثارة التي بثتها وسوَّقتها " صناعة الثقافة" الأمريكية.

والواقع أن ما يلاحظ بالفعل هو صعود مدو لأيديولوجية الليبرالية الجديدة، والذي تنتظم في كثير من أجزائها حول الحرية التي أصبحت اليوم شعار مجتمع المعلومات والتواصل في الألفية الثالثة، بحيث انقلبت الليبرالية الجديدة الحاضنة لها إلى وحش كاسر تريد القضاء على أشكال الفكر الأخرى، بل أصبحت استبدادية وديكتاتورية منذ أن تسيدت فكرة<< نهاية الأيديولوجية>> و<< نهاية التاريخ>>، إلا من أيديولوجية بعينها، وضعت نفسها وصية على العالم، فضلا عن كون حمى الخصخصة والمضاربات المالية أصبحت << أصولية >> جديدة.

والأهم من ذلك أن أيديولوجية الشفافية وحرية التواصل التي تستغل سلطة الصورة ومختلف وسائط الاتصال الجماهيرية، خلَّفت في حقيقة الأمر ضحايا عديدة وتداعيات مدمرة لا تقل بشاعة عما حصل من ذي قبل. لكن لا يتم الحديث عنها، على الرغم من أنه يمكن قياسها بما يقع من مجاعات وهجرات وإبادات وإفلاس العدد من اقتصاديات البلدان الإفريقية والآسيوية وأمريكا الجنوبية، كما التزايد الحاد في نسبة الفقر والمهمشين في بداية الألفية الثالثة... الخ

والحال إن أيديولوجية حرية التواصل ليس وليدة البارحة، فهي على العكس تماما مع ما يتم الترويج له من قبل خطاب الليبرالية الجديدة، لأنها أبعد من أن تنحصر في حرية تبادل المعلومات التي تبثها مختلف الوسائط، فهي تنخرط في أيديولوجية أعم، هي أيديولوجية الليبرالية التي تريد أن تجب ما قبلها من الأيديولوجيات، بحيث تفرعت كي تشمل مناحي عديدة في الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي: حرية التنقل، وحرية السفر، وحرية الهجرة وحرية التجارة وتنقل الأموال، وحرية الاستهلاك بحسب الحاجيات أو الرغبات " الموجهة من قبل الموضة أو الإشهار"، كما حرية الاكتشاف وحرية المعتقد وحرية الإعلام وحرية التعبير والحرية في الثقافة...الخ.

وواقع الحال أن رفع الستار على ما يجري حقيقة تحت كل فروع هذه الحريات وباسمها، سنجد أنه ليس للحرية فيه من نصيب. بطبيعة الحال، ليس القصد التنكر هنا للعديد من الإيجابيات التي صاحبت القيم البورجوازية في عصر التنوير بالذات، لكن لا يمكن السكوت على التداعيات التي خلفتها عوالم المُثل المرتبطة بالحرية بالمنظور الليبرالي الجديد، بعد أن تحولت إلى أيديولوجيا حصرية واستبدادية وإقصائية. لذا ينصب الغرض على فضح الشعارات التي أصبحت تتقمصها وتعبث بها:

- إذا أخضعنا مثلا حرية تنقل الأشخاص إلى مجهر النقد والفحص، سنجد أنها ساعدت في خلق مشاكل إنسانية واقتصادية وسياسية مزمنة، حيث يكفي النظر إلى ما هو عليه قوانين الهجرة وحال المهاجرين، سنجد أن حرية الهجرة غدت مشكلة وليست حلا بالنسبة لأوروبا وأمريكا...

وعلى عكس ما تمارسه سلطة الإشهار السحرية من استلاب على أذهان العديد من المرشحين للهجرة في البلدان الفقيرة، فإن سرعان ما تتحول الجنة الموعودة إلى جحيم يكتوون به صباح مساء بالنسبة لمن تخطوا حاجز الترسانات القانونية المتشددة. والواقع أن هؤلاء الذين يفرون من بلدانهم الأصلية وتطأ أقدامهم أرض الأحلام الموعودة، غالبا ما تلفظهم البلدان المستقبلة ولا يجدون ترحيبا بهم. هذا، إن لم تدفعهم البلدان المستضيفة إلى أن يتحولوا بالتدريج إلى غربان تتخلى عن ثقافتها، أو بالأحرى عن مشيتها الأصلية، فلا هي استطاعت أن تقلد مشية الحمامة، ولا هي استطاعت أن تعود إلى مشيتها الأصلية، بحيث تستمر هذه الصدمة أجيالا طويلة. وتكفي أن المشاكل من هذه الطينة لم تنفجر بشكل حاد مثلا في فرنسا إلا مع الجيل الرابع من الهجرة " سواء التي جاءت من إفريقيا أو البلدان العربية".

والحرية بهذا المقاس تنقلب من مصل إلى سم زعاف، إذا أخذنا في الاعتبار ما تفعله بهم بطون أرباب الصناعات والمؤسسات الاقتصادية الجشعة التي تستغل هؤلاء القادمين من الجنوب ـ باسم حرية التنقل ـ أبشع استغلال وبأتفه الأسعار ودون ضمانات وبدون حقوق في ظل شروط عمل مجحفة وغير إنسانية بالمرة. أما الوجه المقلوب في حرية التنقل، يتضح من خلال وجود أكثر من 50 مليون لاجئ في العالم، دون الإشارة إلى مشكلة النازحين الذين يعيشون على تخوم بلدان عديدة في وضع أشبه بالسخرة والعبودية وفي ظل شروط حياة تراجيدية.

- أما حين نتأمل ما يقع تحت شعار حرية التجارة والمبادلات وتنقل رؤوس الأموال، ننبه أن حرية المبادلات بين الأفراد كوسيلة لإشباع حاجياتهم المختلفة ليست جديدة، فهي منذ القدم علاقة اجتماعية تضمن تبادل السلع بين الأفراد والأوطان. إلا أن أهميتها في الوقت الحاضر تزايدت منذ أن أصبحت النقود الوسيط الذي تقوم عليه المبادلات الإنسانية، إن لم تكن أهم << وسيط >> في ذلك، بحيث أصبحت تعني في الأيديولوجية الليبرالية تحقيق مزيد من تراكم في الملكيات والبضائع وأدوات الإنتاج والرأسمال بين يدي قلة قليلة من الملاكين أو العائلات أو المؤسسات أو الشركات التي أتت كلها للحد من حرية المبادلات وتشجيع الاحتكارات وإقامة تقسيم دولي للعمل استنزف خيرات وموارد بلاد بأكملها لصالحها.

ومن يتأمل قمة هرم الرأسمالية الحالية سيجد أن كبريات الشركات الدولية توجد في الغرب، همها الوحيد الحالي العصف بما تبقى من السيادات الوطنية وجعل أسواقها مجرد أسواق فرعية مشرعة لها، بل إن الأخطر فقدان الدولة الوطنية فيها كمؤسسة للعديد من سلطاتها. إذ تخلت بضغط من سلطة الرأسمال والشركات المجهولة عن العديد من قطاعاتها، بل غدت مع العولمة عبارة عن شركة من الشركات يتم تدبيرها بعقلية الربح والخسارة وأصبح حكامها المحليين مجرد وكلاء فرعيين، منتفعين بدورة المال بين المركز والمحيط سواء عن طريق العمولات أو المناقصات والعروض المختلفة... الخ.

ويكفي ما شاهدناه من إفلاس للعديد من الدول كما وقع في آسيا سنة 1998 وفي أمريكا الجنوبية "إفلاس الأرجنتين سنة 2002" التي عصفت بها مضاربات مالية ظلت دول المركز مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا دول الاتحاد الأوروبي بمنأى عنها.

وهو ما دفع العديد من رجال الاقتصاد والسياسة إلى تقديم نقد حاد إلى الليبرالية الجديدة، والإشارة إلى المخاطر الناجمة عن المضاربات المالية وتحركها بأسرع من لمح البصر بحثا عن الربح في كل اتجاه، ما يهدد اقتصاديات البلدان في الصميم ويصيب حياة المواطنين بأضرار بليغة. والأغرب أنه على اختلاف المنطلقات بين كل من جيمس توبان الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد والملياردير جورج سوروس رجل الأعمال والمضاربات الشهير، سنجد أنهما توافقا معا بأن السوق الخالية من أية معايير وقوانين غير مبدأ حرية المنافسة، لا يمكنها بحال من الأحوال أن تقنن ذاتها بذاتها، بل ستجعل من المجتمع " غابة متوحشة" لا يقل إرهابها وجبروتها عن جبروت المتطرفين والعنصريين.

والمفارقة أن ينعتها الملياردير جورج سوروس "مضارب سابق" بالأسواق<<الأصولية>> التي تنذر شرورها بأخطار كبيرة، ستنتهي حتما بأن تخرج عن نطاق السوق، لكي تصيب العديد من القطاعات الحيوية الإنسانية في الصميم " الأزمة الاقتصادية الحالية"، بحيث تبتلي كل القيم الإنسانية الأخرى بعدواها، هذا إن لم تهدد بخصخصة الروح المدنية والأخلاقية والديموقراطية ويفقد معها الإنسان معنى الانتماء إلى الأسرة والوطن وبالتالي انتماؤه للإنسانية، جريا نحو تحقيق الربح والكسب بكل الوسائل وعلى جماجم الآخرين.

والواقع أنه إذا فحصنا مبدأ حرية التعبير وحرية الثقافة وحرية المعتقدات وحرية السلوكات الاجتماعية وأنماط العيش والحق في الحفاظ على تعدد المنظومات الرمزية واللغوية والثقافية، ثمة حرب ضارية بين من يريد تسويق الثقافة وجعلها مجرد بضاعة، تنسحب عليها قواعد العرض والطلب فحسب. إذ لم يخل ذلك من آثار سلبية نجدها خلَّفت في العديد من البلدان كوارث حقيقية، منها تداعيات ناجمة عن مثاقفة سلبية تم إسقاطها من بيئة اجتماعية غير بيئتها الأصلية وفي غياب تام لأسسها ومعاييرها وفلسفتها، بحيث أسفرت عن إضعاف الثقافات المحلية وطغيان النزعة الاستهلاكية وتغليب النزعة الفردية وتنمية الوصولية في مجتمعات لا تقر للفرد بأي حرية! كما التخلي عن صيغ العيش التقليدية والقضاء على العديد من المهارات الحرفية والتقليدية، ما جعل من الشعوب المغلوبة على أمرها، مجرد "بروليتاريا رثّة" في سوق نخاسة الرأسمالية الدولية.

ناهيك أن سيادة أنماط العيش الليبرالي الاستهلاكي في دول الجنوب، أضعف الارتباط المدني وانعدمت المسؤولية، وكان من نتائجه أن تم عصف بالمنظومة الأسرية وارتفعت معدلات الطلاق العائلية وتناثر التضامن بين أجيالها، ما أدى إلى ظهور أطفال الشوارع وثقافة النصب والاحتيال ووكالات الزواج التجارية... كما ظهرت على إثره عدة أمراض خطيرة كأمراض نقصان المناعة وجنون البقر وأنفلونزا الطيور والخنازير وآفة المخدرات... والاختلالات النفسية والحمق والجنون التي تعد من صميم أعراض " قلق الحضارة" كما يقول سيغموند فرويد.

بالإضافة أنه في مجتمع إعلام الجماهير والإشهار والاستهلاك والتسلية وصناعة اللذة، أصبحت القيم المهيمنة فيه كناية عن ثقافة الفاست فود ـ الوجبة السريعة ـ والإثارة وموضة الافتنان بالجديد يقضيان على كل قيم مغلفة بالثبات أو الديمومة، بحيث من الصعب جدا أن يجد أحد من المواطنين موضعا قارا في المجتمع، فالوظائف المعروضة في سوق الشغل وضعها هش وغير مستقرة على حال من أمرها، ما يجعل من شخصية من يزاولها شخصية ينتابها القلق باستمرار وعدم الثقة في نفسه والتوجس والخوف من المستقبل والآخرين على نحو يجعل من ثقافات الأفراد ثقافات غير أصيلة ومعرضة لتأثيرات عديدة، بحيث تحاول على الدوام تقمص أقنعة عديدة بحسب طبيعة "المسرح" الاجتماعي الذي يظهر فيه الأفراد. كـ<< عرائس>> يحركها السوق بحسب مزاج المتحكمين والمستفيدين منه.

يبقى أن هذه "الأقنعة" مجرد ترجمة اجتماعية للاغتراب الفكري والروحي، إن لم تكن كناية عن الشرخ والانفصام الذي تعيشه هذه الشخوص من بؤس ثقافي وفكري حاد دفعتهم إلى تبني سلوكيات مرضية واستعراضية. كما السقوط في حبال الصنمية وعبادة الاستهلاك والصرعات المقلدة بغاية التعويض عن النقص والحرمان والتنفيس عن "بؤس الحاجة" كما يقول ماركس. لكنها في استهلاكها الحرن، لا تستطيع حماية هذه "الأجنحة المتكسرة" ولا "القلوب المعذبة".

والحق انه بجانب أيديولوجية " حرية التواصل" ومجمل أنماط السلوك الجاهزة التي تعلبها "صناعة الثقافة" في أدبياتها أو برامجها التنميطية، يجب الإشارة أيضا إلى خطر الردود ذات الأيديولوجية المضادة، والتي تجد في العنف ملاذها للاحتجاج على ديكتاتورية ووهم "شفافية " تصور عالما غير عالمهم وتقدم لهم فردوسا مفقودا بينهم.

فما يعيشه الشباب العاطل أو الشباب الذي ينزح من القرى إلى المدن وما يعقبه من تصدع في حمولة الأفكار التي جيئ بها من القرية من جهة، والشك الكبير في القيم التي يتعلمها الطلاب في الجامعة من جهة أخرى، مقدمة اغتراب ينذر بالانفجار أو العدمية.

ناهيك عما هم مجبرون على تعلمه من <<مدرسة الواقع>> هروبا من <<واقع المدرسة>> بحكم ضرورة التأقلم المفروض عليهم عنوة وقسرا. فضلا عن ضعف الأواصر العائلية وانفراط عقد لحمتها المعطوبة بحكم مصاعب العيش وقلة الحيلة وانتشار البطالة، يعجل بظهور مَرْجل حي لثقافة العنف بكل أنواعها… الخ

والأهم ما نجده اليوم من ردود فعل حادة تعاني من التمزق، تدفع من جهة البعض الاحتماء بالموروث وبأزياء بعينها وبقشور الدين وتقاليد بالية والانغلاق والانكفاء والعزلة، وتدفع بالمقابل البعض الآخر العيش في عالم سحري قوامه الاغتراب والافتنان بالموضة والصرعات الجديدة. غير أن ما يجمع بينهما في ظل مجتمعات متخلفة، محاولة هروب من غسق "الشفافية وحرية التواصل". فلا الأولى قادرة بأن تنتشلهم من بؤس الحاضر وعنفه، ولا الثانية تستطيع أن تنتشلهم من ثقافة الاستلاب وداء الاغتراب.

وإذا كان ذلك من صميم الآثار السلبية للتحوير الذي أصاب أسس الليبرالية بعامة، وحرية الإعلام والتواصل بخاصة، لا مناص من الاعتراف بأن الإعلام السمعي البصري بعامة، ووسائط الاتصال بخاصة، أصبحت تلعب دورا كبيرا في تعميم الخبر ونشره وتوسيع تلقيه، حيث يندر اليوم أن تجد قطاعا من القطاعات الاجتماعية والصناعية والاقتصادية والثقافية والسياسية قادرا عن الاستغناء أو العمل بمعزل عنه.

على ضوء ما تقدم، تصبح إشكالية التواصل مثار أسئلة أساسية لكل قضايا المجتمع، كالسلطة والإنتاج الاقتصادي وحيازة المعرفة وسلامة تواصل الأشكال الاجتماعية ، كي تطال معنى الوجود بالنسبة للفرد والجماعة على نحو سيان. فالتواصل بهذا المعنى متضمن بشكل من الأشكال للسلطة والمعرفة والملكية الاقتصادية والتحولات الاجتماعية وحياة الجماعات بالإضافة إلى أنه أحد عناصر مجتمع التقنية.

مؤدى ذلك أنه بشهادة الجميع لا يمكن إنكار أنه رافعة أساسية لتطوير الحياة وتنمية المجتمعات، نظرا لمساهمته الفعالة في تعميم نشر المعلومات وتبادلها ونشرها على أوسع نطاق ممكن بين الناس، كما إنه في نفس الوقت أداة قوية للتأثير في الرأي العام سواء بغسل العقول عن طريق الدعاية أو بتجفيفها بدعاية مضادة حتى لا تسقط صريعة حرب نفسية تُشن لتكييف الأذواق وتنميطها نحو هذا الاتجاه أو ذاك.

لذلك لا يجب على التضارب الكبير بين منطق "اقتصاد السوق" ومنطق "الديموقراطية" أن يحجب عنا أن كلاهما من أعمدة مشروع الحداثة الغربي، بل يحملان أيضا فلسفة قيم ومبادئ مشتركة، أي أن ما يجمع بينهما يتمثل في قيمة الحرية بالمنظور الليبرالي.

لكن ما حقيقة هذا الخطاب في مجتمع الطفرة التكنومعلوماتية؟ لذلك حاولنا قدر المستطاع تقديم رؤية نقدية له من خلال رصد أبرز عناصره وموضوعاته الإشكالية.

باحث جامعي، مركز تاريخ أنظمة الفكر المعاصر، جامعة السوربون 

نقلاً عن
   العرب إونلاين