أريتريا: تعويم دور دولة صغيرة ثم إغراقه
الأحد, 02-أغسطس-2009
محمد سيّد رصاص - لاقت الدولة الإريترية الناشئة، في أيار1991 بعد الاستقلال عن إثيوبيا، رعاية وغطاء أميركيين، لم تنلهما الحركة الإريترية المسلحة من واشنطن أثناء سعيها للإستقلال عن حكم أديس أبابا حتى عندما حكم حليف موسكو الكولونيل منغستو هيلا ميريام بين عامي 1977 و1991 هناك وجلب المستشارين والجنود الكوبيين للقرن الافريقي. كانت هذه الرعاية الأميركية لإريتريا مرتبطة برؤية واشنطن (الخارجة للتو من انتصارها في الحرب الباردة على موسكو) لأهمية منطقة القرن الافريقي حيال الجوار (= السودان ـ البحر الأحمر ـ الجزيرة العربية ـ المحيط الهندي) وذلك في وقت كانت فيه دول هذه المنطقة بحالة فوضى (الصومال منذ سقوط نظام زياد بري عام1991، الذي حالفته الولايات المتحدة في حرب1977 ـ 1978ضد حلفاء موسكو الإثيوبيين) أو عدم استقرار (إثيوبيا، منذ أيار 1991 لما تحكمَت أقلية قومية التيغري بالسلطة، مزيحة قومية الأمهرا الحاكمة التقليدية تاريخياً) أو من الصغر الجغرافي بحيث لا تستطيع القيام بدور فاعل ومؤثر (جيبوتي). 

خلال عقد التسعينات، أخذ الرئيس الإريتري أسياس أفورقي غطاءً دولياً، امتد من واشنطن إلى تل أبيب مروراً بلندن وباريس وروما، أتاح له المجال لكي تقوم العاصمة الإريترية بدور "هانوي" ضد النظام الاسلامي في الخرطوم، الداخل في صدام مباشر مع (القطب الواحد للعالم) بعد انفكاك تحالف الحركة الاسلامية العالمية مع واشنطن إثر سقوط السوفييت، بحيث أصبحت مقراً لزعيم التمرد الجنوبي العقيد جون غارانغ وكذلك للتحالف الشمالي، الممثل في"التجمع الوطني الديمقراطي"، وأيضاً للتنظيم العسكري للأخير الذي قام بعملياته انطلاقاً من الحدود الإريترية في منتصف التسعينات، وهذا ما أتاح لإريتريا أن يكون دورها محورياً في داخل منظمة (الإيغاد)، التي رعت منذ عام 1993، برضا أميركي، مفاوضات حكومة الخرطوم مع المتمردين الجنوبيين، على حساب دولتين كبيرتين في تلك المنظمة، هما إثيوبيا وكينيا، الشيء الذي أخذته أيضاً مع إريتريا دولة صغيرة كانت موجودة في إطار (الإيغاد) هي أوغندا، التي تعاظم دورها، كذلك برعاية أميركية، في أزمة منطقة البحيرات الكبرى (= رواندا ـ بوروندي ـ زائير)، مثلما كان الحال أيضاً في أزمة جنوب السودان. 

من دون هذا، لايمكن فهم فتح الرئيس الإريتري لنزاع مسلح مع اليمن عام 1996 على جزر حنيش المتحكمة بمداخل البحر الأحمر الجنوبية، وفتحه أيضاً لنزاع حدودي مع جيبوتي منذ منتصف التسعينات، حيث يبدو أن اطمئنان أسياس أفورقي إلى قوة الغطاء الدولي له من أجل ترتيب أوضاع السودان قد دفعه إلى استغلال ذلك من أجل تحقيق أجندات إريترية خاصة، الشي الذي أوصله على مايبدو إلى حدود اشعال حرب حدودية مع إثيوبيا في شهر أيار1998، كادت أن تعيد سيناريو 1977 ـ 1978 لما أشعل الرئيس الصومالي زياد بري القرن الافريقي من خلال حربه مع إثيوبيا حول اقليم أوغادين، ولكن مع الفرق أن ذلك كان يتلاقى مع هوى أميركي (واقليمي) دفع باتجاه مواجهة ماركسيي أديس أبابا الجدد الموالين لموسكو والمستولين على السلطة قبل أشهر قليلة (شباط 77) فيما لم يكن هذا الهوى الأميركي متوفراً لأسمرا في عام 1998 ضد أديس أبابا.

هنا، كان شهر أيار 1998 نهاية لسبع سنوات من الرعاية الأميركية للدور الإريتري الاقليمي (الذي فاق بحجمه وأبعاده حجم تلك الدولة الصغيرة الناشئة والوارثة لحطام حرب مع الإثيوبيين منذ 1961) وبداية لإلتفات أميركي نحو العاصمة الإثيوبية، في وقت بدأ حكم الرئيس ميليس زيناوي يترسخ هناك إثر حرب 1998 بعد التفاف معارضيه من أكثرية الأمهرا وميلهم إلى ضرورة تحقيق الاستقرار الداخلي في دولة كبيرة بدأ جيرانها الصغار ينتصرون عسكرياً في مواجهات نظامية مع جيشها كما حصل في تلك الحرب. في الوقت نفسه، قاد هذا الوضع الجديد، بعد إدارة الظهر الأميركي للرئيس الإريتري، إلى اتفاق مصالحة إريتري ـ سوداني في شهر آذار 1999، وإلى بداية دور إريتري جديد لم يعد يصب الزيت على النار السودانية، وإنما الماء، كماحصل من خلال مابذلته أسمرا لتحقيق اتفاق مصالحة تنظيم (جبهة الشرق)مع حكومة الخرطوم في تشرين أول 2006، أوماحاولته مع (حركة تحرير السودان) بدارفور، بعد اشتعال الاقليم الغربي السوداني بشهر شباط 2003، حتى أثمر ذلك بالتعاون مع ليبيا ونيجريا ومن دون رضا غربي عن (اتفاقية أبوجا) في شهر أيار2006، ولو كان هذا مترافقاً مع انشقاق هذا التنظيم بين أمينه العام مني أركي مناوي ورئيسه عبد الواحد محمد نور الرافض لتلك الاتفاقية. 

ظهر، خلال السنوات الثلاث الماضية وبالقياس إلى عقد التسعينات، مقدار وحجم تغير النظرة الأميركية إلى أدوار دول القرن الافريقي، وبالذات في الأسبوع الأخير من عام 2006 لما أعطت واشنطن الغطاء للغزو الإثيوبي للصومال بعد ستة أشهر من تحكم "المحاكم الاسلامية" بمقديشو، فيما رأينا العاصمة الإريترية تصبح في 2007 مقراً للإسلاميين الصوماليين المعارضين لأديس أبابا وواشنطن، ثم مقراً لجناح أسمرا من "تحالف إعادة تحرير الصومال" المصادم للمعتدلين في هذا التحالف بزعامة شيخ شريف أحمد، الذي انتقل في صيف 2008 إلى جيبوتي، قبل أن يأتي في بداية 2009 لمقديشو ويصبح، برعاية دولية امتدت من واشنطن والغرب الأوروبي إلى منظمة الإتحاد الافريقي، رئيساً للصومال، فيما مدَ الرئيس الإريتري يد المساعدة للقوى الصومالية الموجودة في اقليم أوغادين الخاضع لأديس أبابا بعد عودتها لحمل السلاح عام 2007، بينما كانت أسمرا أول عاصمة تستقبل الرئيس السوداني في مرحلة ما بعد صدور"مذكرة أوكامبو" بإعتقاله في شهر آذار الماضي.