أمن الخليج والصراع العربي-الإسرائيلي: حدود الاشتباك بين النفط والسياسة
الثلاثاء, 07-يوليو-2009
سقاف عمر السقاف - لم تشهد أية منطقة في العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية كمّاً هائلاً من التوترات والصراعات والحروب مثلما شهدت منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي تحديداً. ويكفي أن نشير إلى أن أطول حروب القرن العشرين كان طرفاها دولتين تنتميان إلى النظام الإقليمي الخليجي هما العراق وإيران، إذ استمرت هذه الحرب ثماني سنوات كاملة.
من الواضح أن الخليج الغني جداً بالنفط، غني أيضاً بعوامل عدم الاستقرار والاضطراب المستمر والمتجدد. فالحروب الثلاث الكبرى التي وقعت في منطقة الخليج في أقل من ثلاثة عقود تؤكد أن هذه المنطقة بكل أبعادها الجغرافية والتاريخية والسياسية والاقتصادية تمّثل بؤرة للصراعات وعامل جذب لكل القوى الطامحة للسيطرة والتوسع، وهي بالتالي - أي منطقة الخليج - مليئة بمسببات التأزُّم ومُولِّدة له في أحيانٍ كثيرة، الأمر الذي يجعل أمنها على المحك دوماً. 

والثابت، في هذا الإطار، أن مفهوم أمن الخليج واسع وشامل ويحمل بين طياته أبعاداً كثيرة ومختلفة إلا أنه في معناه الضيق يعني أن تتمتع الدول التي تشكل النظام الإقليمي الخليجي بقدر من الأمن والاستقرار والطمأنينة، وأن تكون لديها القدرة على ممانعة كل ما يهدد أمنها واستقرارها. ومن المعلوم أن القدرة على الممانعة والشعور بالأمن لا يأتيان إلا وفق مجموعة من الإجراءات والتدابير المتخذة بصورة جماعية من قبل هذه الدول، وفي حدود قدراتها وإمكاناتها الفعلية بهدف الدفاع عن نفسها والحفاظ على كيانها ومصالحها المشروعة في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وأيضاً من أجل تعزيز قدراتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية. وبما أن دول الخليج تنتمي إلى المجال العربي الأوسع نطاقاً، فمن الطبيعي أن يكون أمن الخليج جزءاً لا يتجزأ من الأمن القومي العربي، وأن معظم المشكلات والتحديات التي تواجه الأمن القومي العربي هي ذاتها التي تواجه أمن الخليج، وأخطرها تلك الناجمة عن الصراع العربي–الإسرائيلي؛ فدول الخليج كانت ولا تزال حاضرة في الصراع العربي–الإسرائيلي تؤثر فيه وتتأثر به. 

غير أن المحطة المفصلية التي صهرت دول الخليج في الصراع العربي مع إسرائيل كانت حرب أكتوبر 1973 عندما استخدمت الدول العربية في الخليج سلعة النفط الاستراتيجية سلاحاً رفع في وجه العالم الغربي الذي انحاز إلى إسرائيل وقدّم الدعم لها؛ ورغم أن دول الخليج ساهمت في المجهود الحربي على الجبهتين السورية والمصرية إلا أن سلاح النفط الذي غامر الخليجيون باستخدامه ربما كان دوره أقوى من المدافع والدبابات على أرض المعركة؛ فقرار خفض الإنتاج ومن ثم فرض المقاطعة النفطية على الدول الغربية الداعمة لإسرائيل في الحرب كان لهما الأثر الأقوى في تغيير مجرى الأحداث وسير المعارك الحربية، إذ سارعت الولايات المتحدة الأمريكية إثر ذلك القرار إلى التدخل للفصل بين القوات المصرية والإسرائيلية في سيناء، أما الأوروبيون، الذين شعروا بخطورة أزمة الطاقة، فقد أصدروا بياناً مشتركاً في نوفمبر عام 1973 طالبوا فيه إسرائيل بالانسحاب من الأراضي المحتلة، وأشار البيان ذاته إلى الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني بعد أن تم تجاهلها طويلاً. 

واعتباراً من تلك اللحظة، دخلت دول الخليج العربية بشكل مباشر وقوي على خط الصراع مع إسرائيل؛ إذ شعر الإسرائيليون وقتها بأن الاستخدام السياسي للنفط من قبل الدول العربية يضعف موقفهم التفاوضي وذلك جراء الضغط الأمريكي والأوروبي عليهم. ليس هذا وحسب فالاستخدام السياسي للنفط جعل الفكر الاستراتيجي الأمريكي الذي أُصيب بـ (صدمة النفط) يُعيد النظر في مجمل سياساته ورؤيته للمنطقة ويربط لأول مرة بين أمن الطاقة والأمن القومي الأمريكي والغربي عموماً. وعندها فقط بدأ الحديث في الأوساط السياسية الرسمية وغير الرسمية وفي مراكز الأبحاث والدراسات الأمريكية عن إمكانية (احتلال آبار النفط) في الخليج وما يرتبط بذلك من إجراءات تأديبية بحق العرب الذين استخدموا النفط سلاحاً. 

وفي هذا السياق، تحدثت بعض التقارير وقتها عن تجارب تجريها وحدات عسكرية أمريكية للإنزال في بعض المناطق داخل الولايات المتحدة التي تشبه في خصائصها الطبيعية المنطقة العربية في الخليج. وذكرت دراسة أخرى نشرتها مجلة (فورتشن) الأمريكية في مايو 1979 بعنوان (التدخل العسكري في منابع النفط)، أنه منذ بداية السبعينات وخاصة بعد حرب أكتوبر 1973 بين العرب وإسرائيل، بدأت المصادر العسكرية الأمريكية تتحدث بوضوح عن أنه (إذا تعاظم اعتمادنا على النفط الخارجي أو تدهورت سيطرتنا على السياسة الخارجية والنفوذ الدولي، فإن البديل قد يكون إرسال حملة عسكرية إلى الشرق الأوسط تجعل من حملة فيتنام تبدو بالمقارنة معها كنزهة). 

ولكن مع مجيء الرئيس رونالد ريغان إلى الحكم في البيت الأبيض ظهر تغير ملحوظ في السياسة الأمريكية وفي لهجة الخطاب التي ركزت على أن الاتحاد السوفييتي هو التهديد الأكبر لأمن الخليج، ولم تعد مسألة احتلال آبار النفط تطرح على أنها عقوبة توجه إلى دول الخليج التي تجرأت على استخدام سلاح النفط في الصراع العربي-الإسرائيلي، وإنما بات الوجود العسكري في المنطقة يُطرح على أنه نتيجة لأطماع السوفييت في السيطرة على الخليج. وهكذا اتجهت الدعاية السياسية الأمريكية لترسيخ فكرة جديدة مفادها أن الوجود الأمريكي في المنطقة ليس إلا لحماية دول الخليج، غير أن الهدف المخفي والأهم الذي سعى إليه الأمريكيون، ومن ورائهم الإسرائيليون، هو الفصل بين أمن الخليج وتطورات الصراع العربي-الإسرائيلي، وذلك عبر إعادة برمجة لمشكلات المنطقة، والادعاء بأن التهديد السوفييتي هو الذي يجب أن توجه إليه الجهود، وعندها - وهذا هو الأهم - ينتقل عصب الصراع في المنطقة من القضية الفلسطينية إلى مشكلة أمن الخليج و(الخطر الأحمر) القادم من أقصى الشمال البارد إلى مياه الخليج الدافئة.
والواقع أن أخطر ما أخاف أمريكا وإسرائيل في حرب أكتوبر 1973 ولا يزال هو مشهد تظافر الإمكانيات العربية في مواجهة إسرائيل، وتحديداً من ناحية توظيف القدرات الاقتصادية الضخمة لدول الخليج في الصراع مع إسرائيل. وعلينا ألا ننسى، في هذا الإطار، أن العقل الإسرائيلي عقب حرب أكتوبر بدأ ينظر إلى صراعه مع العرب من خلال ثلاث دوائر أمنية، الأولى مع الفلسطينيين في الداخل، والثانية مع دول الطوق، والأخيرة مع دول الأطراف وأهمها بالطبع الدول العربية في الخليج. 

ولكي يتحقق الأمن للدولة العبرية كان لا بد من عزل كل دائرة على حدة وفكّ الارتباط فيما بينها؛ وبالفعل نجح الإسرائيليون إلى حدٍّ كبير في ذلك؛ فقد تمكنوا من عزل الفلسطينيين من خلال فرض حصار شامل عليهم ومنع أي دعم أو مساندة قد تصلهم من المحيط العربي، ودول الطوق العربية كُبّلت باتفاقيات ومعاهدات سلام ثنائية كتلك الموقعة مع مصر والأردن والمحاولات جارية لتوقيع مثيلاتها مع سوريا ولبنان. أما دول الخليج العربية فقد مورست حيالها سياسة الترغيب والترهيب؛ الترغيب عبر المحاولات المستمرة لربطها بشبكة علاقات ومصالح اقتصادية وتجارية وسياسية ضخمة، والترهيب من خلال الوجود العسكري الأمريكي المكثف في المنطقة.

وبطبيعة الحال، نستطيع القول إن بُعد الصراع العربي – الإسرائيلي وارتباطه بأمن الخليج كانا وما زالا حاضراً في المُدرك الإسرائيلي أكثر منه في الذهنية العربية للأسف، وهذا الصراع هو الذي يصوغ الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه منطقة الخليج العربي، وهي الاستراتيجية التي تؤثر بدورها وبحكم تماهيها مع الاستراتيجية الأمريكية بصورة أو أخرى في تشكيل طبيعة العلاقات ومسار التفاعلات في بنية النظام الإقليمي الخليجي. 

وكما نعرف جميعاً، فإن الاستراتيجية الإسرائيلية للمنطقة العربية ككل تقوم على تجزئتها إلى دويلات وكيانات صغيرة هامشية وعديمة التأثير في النطاقين الإقليمي والدولي، وقد صبّت الحروب المتعاقبة في منطقة الخليج ابتداءً من الحرب العراقية – الإيرانية مروراً بحرب تحرير الكويت من الغزو العراقي وصولاً إلى حرب العراق واحتلاله من قبل الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا في عام 2003؛ صبّت كلها في خانة إضعاف دول المنطقة واستنزافها، وبالتالي تغيير موازين القوى لصالح إسرائيل، التي يهمها أن تظل منطقة الخليج والوحدات السياسية المكونة لها معرضة باستمرار لضغط هائل من التوترات والصراعات كي تنشغل بهمومها ومشكلاتها الداخلية، ومن ثمّ تنصرف بعيداً عن تعقيدات الصراع العربي - الإسرائيلي. 

وفي ضوء هذا، يمكننا فهم أسباب الامتعاض الخفي والمعلن الذي تبديه إسرائيل جراء أي خطوة من شأنها أن تعزز من تنامي العلاقات الخليجية – الأمريكية، خاصة تلك المتعلقة بصفقات السلاح الأمريكية لدول الخليج. والحال أن الامتعاض الإسرائيلي لا ينبع من خشية إسرائيل على مكانتها ودورها الوظيفي ضمن الاستراتيجية الأمريكية للمنطقة فقط، وإنما من رؤيتها الخاصة لأمنها القومي وموقع دول الخليج داخل منظومة الأمن القومي العربي وخاصة ضمن دائرة الدول التي تهدد أمن إسرائيل، لذا تسعى إسرائيل دائماً إلى الحفاظ على مستوى تفوق عسكري كمّي ونوعي على كل الدول العربية بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي. 

وفي التحليل الأخير، نستطيع القول إن التحديات التي تواجه أمن الخليج كثيرة ومتعددة، ولكن أخطرها اليوم تلك المتعلقة بإرهاصات المواجهة العسكرية المحتملة بين أمريكا وإيران والتي ترتبط في أحد أبعادها بالصراع العربي–الإسرائيلي؛ إذ إن أحد أهم دوافعها، إلى جانب الصراع على الثروات والنفوذ في المنطقة، هو ضمان أمن إسرائيل وتعزيز دورها الإقليمي، وذلك عبر تخليصها من ألد أعدائها في المنطقة كالنظام الإيراني الذي يقيم علاقات استراتيجية مع سوريا، ويدعم حركات المقاومة ضد إسرائيل في كل من فلسطين ولبنان. 

والسؤال الأهم هنا، أين سيكون موقع دول مجلس التعاون الخليجي في أي حرب مقبلة أمريكية-إيرانية أو إسرائيلية - إيرانية أو إسرائيلية - أمريكية مشتركة ضد إيران؟ وهل ستتمكن دول الخليج من لعب دور أساسي لمنع هذه الحرب أو على الأقل الخروج بأقل الأضرار في حال وقوعها؟ أسئلة كثيرة، وحده المستقبل القريب كفيل بالإجابة عنها ولكن إلى حين تتضح الرؤية نأمل بأن تتكاتف دول المنطقة مع بعضها، وأن تعي جيداً أن مزيداً من تساقط حلقات النظام الإقليمي في منطقة الخليج سيؤزم الأوضاع أكثر في المنطقة وسيُضعِف الجميع عدا إسرائيل التي ستكون الرابح الوحيد في مثل هذه الأحوال.

المصدر: مركز الخليج للأبحاث.