الرئيس صالح: 30 عاماً من التسامح السياسي
الثلاثاء, 15-يوليو-2008
فخامة الرئيس علي عبدالله صالح
عبود الصوفي - برزت السماحة كمفردة تعد من خصال المرء الحميدة في حياة عرب الجزيرة العربية ، حتى أتى الإسلام فتممها كصنيعة مع بقية مكارم الأخلاق الأخرى، وقد أشتق منها مفردة التسامح التي هي نقيض التعصب " فالتسامح " هو أساس التعامل الذي يفترض أن يحكم علاقة الناس بعضهم ببعض، أما الإصرار على رفض التسامح فهو إصرار على إلحاق الأذى بالنفس قبل الآخرين، وهو إصرار على المعاناة الشخصية في مواجهة قلب يموج بذكريات مؤلمة عن الآخرين .
في كتابه "التسامح أعظم علاج على الإطلاق" يبدأ جيرالد جامبولسكي مؤلف الكتاب بمقدمة عن سبب وضعه لهذا الكتاب، وهي أن التسامح هو أهم الدروس التي ينبغي أن يتعلمها المرء لذا فقد كتبه لنفسه كتذكرة بأنه يودّ بالفعل أن ينهي المعاناة التي سببها لنفسه وللآخرين بسبب إصداره للأحكام ومكابرته لأن يتسامح.
لقد تعلَّم الكاتب أن التسامح يحرّرنا من الماضي ويجعلنا نعيش اللحظة بكل جوارحنا، ففي حياتنا اليومية نميل للنظر إلى التسامح على أنه شيء أكثر بقليل من مجرد تقبّل اعتذار الآخرين وأحياناَ نقبل الأعذار من منطلق التأدّب في حين أننا بحق لا نشعر بالتسامح، أو أحياناً نتمسك بالطريقة التي أَحبطْنا بها صديقاً أو شخصاً نحبه ، وكأننا نوقن بأن هذا هو الأسلوب الذي نحمي به أنفسنا, وأثناء تخبطنا في إدراك التسامح لا نتمسك فقط بالسبب الذي نجم عنه الكثير من الألم، ولكننا نغمض أعيننا عمّا يمكن أن يداوينا.
ونحن كمسلمين حين نتأمل الإسلام بمجمله نجده لا يطالب بالتسامح بل بالعفو أيضاً " وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم". لكن من يمعن النظر فيما يدور حولنا سيجد أن مظاهر التعصب موجودة في مجتمعاتنا ولا يمكن إنكارها مع ضعف واضح في ثقافة وتقاليد الحوار الديمقراطي الهادف وانتشار للأفكار غير المتسامحة.. بل انك أمام أشخاص رافضين للآخر تماماً ما لم يؤيدهم أو يمدحهم بل عدوانيون معه، إذاً مسألة التسامح التي يدعو لها الإسلام غائبة أو مغيبة على مستوى الكثير من الأصعدة.
التسامح السياسي في اليمن
أفرزت فترة الستينيات والنصف الأول من السبعينيات اضطرابات سياسية واختلالات اقتصادية واجتماعية وتراكمات لم يكن عام 1977 أفضل حالاً من الأعوام السابقة إن لم يكن أكثرها تعقيداً بحكم تعمق وتجذر المشكلات السياسية والاقتصادية بحسب رأي الأستاذ ناشر العبسي " الصفات الإيمانية والخصائص الإنسانية لحكيم اليمن ورئيسها علي عبداله صالح " كادت تلك العواصف أن تفقد صنعاء الفاتنة بريقها وأوشكت الرياح الهوجاء أن تقتلع ما أنجزته الثورة والنظام الجمهوري طيلة عقدين ونصف من الزمن وترمي باليمن في فوهة البركان. وعلى حد تعبير نزار خضير في كتابه
" علي عبدالله صالح تجارب السياسة..وفلسفة الحكم " لم يكن إدراك حقيقة ما يجري على الساحة اليمنية مفهوما بدقته طوال السبعينيات ولا حتى معقولا ً عند الكثير من الذين لم يصدقوا هذه الفوضى السياسية والانتكاسة التاريخية التي آلت إليها الثورة اليمنية بعد أن زجتها التطورات السريعة – المفاجئة في بعض فصولها- إلى نفق مبهم النهايات...".
وهكذا اندلعت الأحداث التي وصفت بقدر كبير من الخطورة ليس لارتباطها بالعنف السياسي فحسب كما يراها ناشرالعبسي وإنما لكون تلك الأحداث قد مثلت إفرازاً لمشاكل وتراكمات الماضي فضلا عن كونها قد مهدت لمرحلة يتم فيه تصفية حسابات سياسية وتداخل في نطاقها وما هو موضوعي وما هو ذاتي ماهو داخلي وما هو إقليمي ودولي .
ومع تزايد هذه الأحداث لم يكن هناك من يملك القدرة والشجاعة على قيادة البلاد وإنقاذها من هذا الوضع المتردي الذي يوشك أن يدخل البلاد في حروب أهلية طاحنة خاصة مع تزايد النشاط التخريبي في أكثر من مكان من قبل الجبهة الوطنية الديمقراطية .
وبوحي من نداء الواجب كما يقول قحطان الزبيدي في كتابه" الرئيس الصالح والدولة اليمنية الحديثة" فضلا عن الاستجابة للرغبة الشعبية العارمة توجت تلك الأحداث بانتخاب فخامة الرئيس علي عبدالله صالح من قبل مجلس الشعب التأسيسي في 17 يوليو 1978 رئيساً للجمهورية وقائداً عاماً للقوات المسلحة.
ويعتبر أول مرة في بلادنا يتم ترشيح وانتخاب رئيس للجمهورية عن طريق هيئة دستورية . وعقب انتخابه رئيساً أدى صالح اليمين الدستورية أمام مجلس الشعب التأسيسي ومن ثم وجه كلمة إلى جماهير الشعب اليمني تعهد فيها على تحمل المسؤولية بأمانة ووفاء لا هداف و مبادىء الثورة والعمل على إنقاذ الوطن من دوامة الصراع والتمزق وتحقيق الأمن والاستقرار والدفع بعجلة البناء والتنمية الشاملة ..لكن موضوعي هنا هو عن 30 عاما من نهج التسامح السياسي للرئيس صالح وعن تجربة الرئيس يقول نصرطه مصطفى( صحيفة السياسية العدد 20353) تجربة الرئيس علي عبدالله صالح كأنموذج ساطع لمنهجية التسامح السياسي الذي عاشته بلادنا طوال السنوات الثلاثين الماضية. فقد ظل التسامح السياسي طوال تلك السنوات الميزة الكبرى في السلوك القيادي للرئيس صالح وظل المنطق الأساسي في منهجيته ورؤيته لإدارة الحكم والسلطة في بلد عاش الكثير من ثارات السياسة وتقلبات الأنظمة! ولم يكن نهج التسامح في سلوك الرئيس علي عبدالله صالح نابعاً من ضعف أو كان اصطناعياً أو مداهنة من النظام بل كان قناعة وإيمانا وسلوكاًَ أصيلا قبل أي شيءآخر. أي أن الرئيس صالح عمل على تأسيس التسامح القوي والأمتن القائم على النحت في العقل والمفاهيم والمبادىء.
ومن تسامح الرئيس ذلك الموقف من ملف أحداث 13 يناير ، فعند التوقيع على اتفاقية إعادة تحقيق وحدة الوطن في عدن في 20 نوفمبر1989 قال الرئيس علي عبدالله صالح لا بد من طي صفحات الماضي التشطيرية بكل محتوياته حيث دخل مع قادة الحزب الاشتراكي في حوار مكثف كان من ثماره إصدار قرار بإغلاق ملف أحداث 13 من يناير وإصدار قرار عفو حول الأحكام التي طالت علي ناصر الرئيس الأسبق ورفاقه في عام 1992 وعادت كثير من القيادات المحسوبة على علي ناصر وانخرطت في صفوف الحزب الاشتراكي.
يقول الأديب المعروف أليكسندر بوب في القرن الثامن عشر :" أن تكون آثاماً فأنت إنسان، وأن تكون متسامحاً فأنت سماوي". لهذا يحاول الرئيس صالح أن يغرس فينا ثقافة التسامح فمثلما تنشب الحرب في عقول بعض الناس ففي عقولهم يجب أن تبنى واحات التسامح والمسالمة.
ومن نماذج التسامح في نهج الرئيس صالح موقفه من حرب صيف 1994، فعقب صدور إعلان الانفصال من قبل قيادة الحزب الاشتراكي أصدر قراره بالعفو العام عن أولئك المغرر بهم ممن يقفوا في صفوف قوات الانفصال حرصاً منه على إعطائهم فرصة لتصويب مواقفهم ، بل قبل إعلان الانفصال وخاصة ما حدث في معسكر عمران، حيث عفا عن أولئك الذين ارتكبوا حماقة الخطأ في حق زملائهم ففوت بذلك الفعل الحكيم كما يقول ناشر العبسي ما نصب من شراك لجر البلاد إلى الانفصال والاقتتال الأهلي.. حيث بهذا النهج التسامحي تمكن فخامة الرئيس صالح من إخماد نار الفتنة معالجاً الأمر بحكمة وهدوء واقتدار وبعد ذلك بتسع سنوات أغلق الرئيس صالح آخر ملفات تلك الحرب بإلغاء الأحكام الصادرة بحق ما عرف بمجموعة الستة عشر في عام 2003.
ومرة أخرى يأتي نهج التسامح مع المغرر بهم – المتهمين بانخراطهم – في صفوف القاعدة حيث كلف فخامة الرئيس عدداً من العلماء الأفاضل بإجراء حوار فكري مع أفراد تلك المجموعة للوقوف على كامل الحقائق من جانب وتوضيح موقف العقيدة الإسلامية من أفعال وممارسات أي عمل إرهابي ضد الآمنين من جانب آخر وبعد زوال أسباب توقيفهم وجه الجهات المختصة بفورية إطلاق سراحهم لما لمس فيهم ومنهم من الإحساس بالندم لوقوعهم في الخطأ والتوبة الصادقة والعودة إلى جادة الصواب. وعن تمرد الحوثي وجماعته يقول نصرطه : " وهذا يقودنا إلى التوقف أمام الأسلوب الذي أدرات به الدولة الأزمة مع حركة الحوثي فالجميع يدرك أن المعارك التي خاضتها الدولة مع هذه الحركة كانت مضطرة إليها بسبب التعنت الذي واجهته ورفض الانصياع لسلطتها وإصرار هذه الجماعة على السيطرة على عدد من المناطق وهو أمر لا تقبله أي دولة في الدنيا تحرص على كرامتها وهيبتها وسيادتها، ومع ذلك وتأكيداً لنهج التسامح الذي أتسم به عهده أصدر الرئيس علي عبدالله صالح عفوين عامين ووجه بصرف التعويضات وإطلاق المعتقلين وإعادة أعضاء الجماعة إلى وظائفهم ، كما قبل الرئيس صالح وساطة خارجية في أمر داخلي لا ثبات حسن النوايا وإعطاء الفرصة لهؤلاء الشباب للعودة عن تمردهم بما يحفظ ماء وجوههم".
إن خطر غياب التسامح موجود في كل مكان ، وليس مقتصراً على دولة أو فكر أو دين بل هو خطر عالمي لأن البديل الوحيد للتسامح هو العنف من قبل أولئك الذين يرغبون في إجبار الآخرين على قبول فكرهم وطريقتهم ونظرتهم إلى الحضارة بالقوة.
ومن صور التسامح عند الرئيس صالح يحضرني – كلام نصر طه- نموذج لمنهجية التسامح يتمثل في إعادة أكثر من 35 ألف عسكري إلى الخدمة في الجيش كمعالجة لازمة المتقاعدين التي حدثت خلال عامي 2006-2007الماضيين ، رغم ما قيل أن ذلك مخالف للقوانين المنظمة لعملية التقاعد، ومع ذلك فقد جاءت المعالجات التي جرت لتؤكد منهجية التسامح لا غنى عنها لأي وطن يبحث عن أمنه واستقراره ويريد تعزيز وحدته الوطنية وسلمه الاجتماعي.
لنتذكر جميعا في مقام التسامح وصية حكيم:" نتعاون على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه". ولكي يعم الأمن والحب والوئام علينا أن نغرس هذه الثقافة وهذا النهج الذي رسخه فخامة الرئيس صالح في ابناء ولابد من التوعية والتثقيف على مستوى الأفراد والمجتمع فضلاً عن أنها ثقافة تحتاج إلى تبنيها الدول والحكومات والأحزاب.