أزمة المياه في العالم والمنطقة العربية في القرن الحادي والعشرين
الثلاثاء, 30-يونيو-2009
نائلة شرف - قصة الإنسان مع الماء قصة وجود؛ فمنه خُلق، وبه يعيش، وعلى ضفافه ينسج الحضارات، ولأنه كذلك؛ كان التنافس والصراع من أجل الاستحواذ عليه السمة الغالبة التي طبعت العلاقات بين الأفراد والجماعات، وبوجه خاص تلك التي قدر لها أن تعيش في مناطق يندر فيها الماء، وما حروب الكلأ والمرعى إلا صورةٌ من صور هذا التنافس الذي كان يحسم غالباً بالخيار الإنساني "المفضل" الحرب.
إن البشرية جميعها تدرك جيداً أهمية الماء وقيمته التي تفوق قيمة أغلى المعادن، ولأنها تفهم ذلك وتعيه بدأت تدق نواقيس الخطر .. ثروة الأجيال وكنزها الثمين مهدد بالنضوب، والمسألة ليست قضية نفط أو أي مصدرٍ آخر للطاقة يمكن تعويضه؛ فالقضية متعلقة بحياة الإنسانية وسر بقائها الذي لا يمكن أن تعثر على بديلٍ عنه، فهل يمكن أن نتخيل ما قد تؤول إليه الأمور من دون ماء - وعلى وجه الخصوص - في منطقة كالمنطقة العربية متخمة بأسباب الصراع والحروب المستمرة، و حيث الأصابع دائماً على الزناد، وسواءٌ قامت الحروب فيها من أجل المياه أو وظفت المياه في حروبها فلن يغير ذلك من أننا سنواجه حينها الكارثة لا محالة.
لقد تناقلت وسائل الإعلام العالمية مؤخراً تقريراً للأمم المتحدة يحمل عنوان "المياه في عالم متغير"، شارك في إعداده أكثر من 24جهازاً تابعاً للأمم المتحدة. التقرير الذي رأى النور قبل أيام من انعقاد منتدى المياه الخامس بإسطنبول، والذي بدأ أعماله الإثنين الماضي وسيستمر حتى تاريخ ال 22 من آذار/ مارس، وهو اليوم الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة كيومٍ عالمي للمياه لغرض التذكير بضرورة بذل الجهود من أجل توفير مياهٍ نظيفةٍ صالحةٍ للشرب. حذرت فيه الأمم المتحدة من أن العالم سيشهد أزمةَ مياهٍ خلال عشرين عاماً من الآن أي بحلول العام 2030 على أحسن تقدير؛ حيث سيعيش نصف سكان العالم تقريباً في مناطق تعاني نقصاً حاداً في ‏المياه، ولا بد من اتخاذ إجراءات سريعة لتفادي هذه الأزمة الناتجة عن ‏زيادة السكان وارتفاع مستويات المعيشة والتغيرات في الأنظمة الغذائية وزيادة إنتاج الوقود الحيوي كمصدر بديل للطاقة والذي يعتمد على استخدام المياه لإنماء ‏محاصيل مثل القمح وقصب السكر لإنتاج الإيثانول، ومالم تعالج علاقات هذه الأزمات المرتبطة بالمياه وتحل مشكلاتها في أنحاء العالم فإنها ‏ ستتفاقم، ومشكلات المياه المحلية يمكن أن تسوء متحولة إلى مشكلة عالمية، وقد تؤدي إلى اضطرابات سياسية ونزاعات دولية ناتجة عن الصراع حول تقاسم المياه خاصة مع وجود 563 حوض مائى مشترك بين الدول على مستوى ‏العالم، وتعد منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أبرز المناطق المهددة بحدوث هذه الاضطرابات بحسب التقرير.
ليست هذه المرة الأولى التي تحذر فيها الأمم المتحدة العالم من حدوث أزمة مياه عالمية، التحذير يتكرر دائماً من الأمم المتحدة ومن غيرها من المنظمات، والموضوعات التي طرحت فيه تطرح أيضاً بشكل متكرر في العديد من الدراسات ووسائل الإعلام المختلفة؛ ولكن أن تحظى هذه القضية باهتمام أعلى هيئة عالمية وتخصص لها يوماً عالمياً خاصاً، وتعلن كذلك الفترة من 2005 إلى 2015 عقد "الماء من أجل الحياة" فهذا مؤشر على مدى خطورة هذا الأمر وأولويته في جدول أعمالها.
أما في المنطقة العربية التي يعد فيها شح المياه المشكلة الأكثر خطورة وإلحاحاً مقارنةً بباقي مناطق العالم، حيث تقع أغلب الدول العربية تحت خط الفقر المائي بمعدل أقل من 1000 متر مكعب للفرد سنوياً، فمن المتوقع خلال العقدين القادمين أن تكون جميع الدول العربية تحت خط الفقر المائي والبعض الآخر تحت خط الفقر المدقع بحصة أقل من 500 متر مكعب للفرد سنويا.

الجغرافيا والأزمة المائية:
تؤثر الجغرافيا بشكلٍ كبير على تفاوت حدة هذه الأزمة من منطقةٍ لأخرى، ومن قدر الله أن جعل العالم العربي الذي تقدر مساحته ب10% من مساحة العالم يقع في منطقة تعاني معظمها من شدة الجفاف وندرة المياه، وموارده المائـيـة لا تتعدى 1% مـن الموارد المائية العالمية، وهي بالتأكيد لا تكفي لسد احتياجات عدد السكان الكبير ولا الزيادة المستمرة فيه، الأمر الذي خلق فجوةً كبيرة بين الطلب عليها وبين ما هو متوفرٌ منها.
وتقدر مجمل الموارد المائية المتجددة السطحية والجوفية في الوطن العربي بحوالي 338 مليار متر مكعب في السنة، يذهب نصفها هدراً دون استغلال، والمفارقة أن أكثر من 65% من المياه العربية ترد من خارج أراضي الدول العربية، حيث أن معظم الأحواض المائية السطحية مثل نهر النيل، ونهر الأردن، ونهري دجلة والفرات، هي أحواض عابرة للحدود، وتنبع في الغالب من أراضٍ غير عربية لها احتياجاتها ومصالحها الخاصة من المياه، وبحكم الموقع الجيبولوتيكي فإن لدول المنبع ميزة استراتيجية في مواجهة دول المجرى والمصب، كما أن العديد من الأحواض المائية الجوفية هي أيضاً أحواض مشتركة مثل الحوض الرملي النوبي لمصر وليبيا والسودان وتشاد، وحوض شمال الصحراء لدول الجزائر وتونس وليبيا، والخزانات الجوفية لشبه الجزيرة العربية لدول السعودية والأردن والإمارات والبحرين والكويت وقطر واليمن والعراق، وكذلك الأحواض الجوفية الكلسية التي تمتد عبر لبنان وسوريا والأردن، وأي استهلاك غير مُرَشد من قِبل دولةٍ من هذه الدول سيؤثر بالتأكيد على مستوى منسوب المياه ونوعيته في تلك الأحواض وبالتالي في نصيب الدول الأخرى، خاصة مع غياب التنسيق بين بعضها حول تقاسم استخدام المياه والكيفية التي يمكن أن تستخدم فيها دون الإضرارٍ بالآخرين، وهو الأمر الذي جعل المنطقة من أكثر المناطق المرشحة لوقوع حروب المياه فيها كما تقدم.

يد الإنسان المدمرة:
ليست الجغرافيا العامل الوحيد في حدوث أزمة المياه العالمية، بل تبقى يد الإنسان العابثة سبباً رئيساً من أسبابها؛ فبالرغم من ندرة وضعف الموارد المائية عربياً، إلا أن العرب من أكثر الشعوب هدراً للمياه؛ فمثلاً معدل استهلاك الفرد اليومي من المياه المنزلية في مدينة عربية ذات مناخ صحراوي كالرياض يصل إلى 800 لتر يومياً، في حين أن استهلاك الفرد في بعض المدن الكبرى الغنية بالثروات المائية كنيويورك ولوس أنجليس يصل إلى 700 لتر في اليوم الواحد، كما أن الهدر يتجاوز الاستخدام المنزلي ليصل إلى الاستخدام الزراعي الأكثر استنزافاً للمياه؛ حيث مازال استخدام طرق الري التقليدية كالري بالغمر سائداً رغم محاولات نشر استخدام تقنية الري بالتقطير، وهو ما يرفع من نسبة الفاقد من المياه الصالحة للشرب بصورةٍ عامة.
ومن مظاهر الدور العبثي الذي ساهم به الإنسان في تفاقم هذه الأزمة ظاهرة الاحتباس الحراري، الناجمة عن التلوث البيئي المستفحل جراء الأنشطة الإنسانية والاقتصادية والتصنيعية المختلفة وتلويث الهواء والتربة والماء بمخلفات الصرف الصحي والعمليات الصناعية والإشعاعية مما أثر بشكلٍ سلبي على نوعية الكمية المتاحة أصلاً للشرب، وهو ما يعكسه تزايد أعداد الإصابات بالأمراض الخبيثة والوبائية وارتفاع معدل الوفيات سنوياً على مستوى العالم جراء عدم توفر مياه نظيفة، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإن ظاهرة الاحتباس الحراري رفعت من نسبة مساحة الجفاف والتصحر كنتيجة لارتفاع درجات حرارة الأرض، وبالتالي زيادة معدل استهلاك المياه وكذلك معدل التبخر.
ولو أضفنا إلى ما سبق سوء إدارة الملف المائي من قبل الحكومات خاصةً في البلاد العربية وغياب استراتيجية واضحة للتعامل معه، رغم كثرة طرح هذا الموضوع في المؤتمرات والندوات وتداول العديد من مقترحات الحلول لهذه الأزمة، الأمر الذي يعكس مستوى الاستهانة والاستخفاف بأمر هام وحيوي كأزمة المياه في العالم العربي، فضلاً عن الوعي بخطورتها ومن ثم العمل على تداركها، ولكن علينا ألا نتشاءم كثيراً فهناك بصيص أملٍ بتناولٍ أكثر جديةً وأكثر عمقاً، خاصةً مع إدراج مشكلة المياه على جدول أعمال القمة الاقتصادية التي عقدت مؤخراً في الكويت، والتي خرجت بالموافقة على مخطط تنفيذي لمواجهة التحديات المائية ووضع استراتيجية مائية في المنطقة العربية، وفي الحقيقة فإن هذه الخطوة مجرد خطوة أولية ينبغي أن تتبعها خطوات تطبيقية أكثر، وبتنسيق مستمر بين الدول ليس على مستوى المنطقة فحسب، بل على مستوى العالم، وهو ما قد يساهم في حل أزمة تزداد تعقيداً كل يوم، وتؤثر بشكل سلبي على مناحي الحياة المختلفة، ولا يقتصر تأثيرها على منطقةٍ بعينها، فقضية المياه تتشابك فيها المصالح وتتعدد فيها خيارات الحل، بين حلٍ قائمٍ على التعاون والمحاصصة العادلة التي تراعي مصالح الجميع، أو حلٍ آخر- إن صح أن نطلق عليه حلاً – يكون التنازع والصراع محوره.