أزمة بخمسة رؤوس: ماكشفه الجدل القائم عن حال الصحافة في اليمن
الثلاثاء, 30-يونيو-2009
عبد الغني الماوري - هناك ما يدعو للفزع. فقد صارت الصحافة تشبه القبيلة البدائية أكثر من أي شيء آخر، ويمكن القول أن الحيوية التي تعد من أهم سمات الإعلام قد فُقدت بشكل مطلق. لا أحد يحاول أن يسمع الآخر، ففي حين وصفت الصحافة الحكومية وتلك التابعة للمؤتمر الشعبي العام قرار وزارة الإعلام بحجز بعض الصحف الأهلية إدارياً بأنه تطبيق للقانون وانتصار للوحدة، رأت بعض الصحافة الأهلية وتلك التابعة للقاء أحزاب المشترك في هذه الخطوة إعتداء سافر على الحريات وتراجع عن الديمقراطية.
وفي الواقع، إن هذين المنطقين برغم حشدهما للمبررات التي تؤيد ما ذهبا إليه يفتقدان إلى الموضوعية، يفتقدانها بصورة تثير الدهشة. هناك الكثير من الأدلة التي تثبت أننا نتعامل بفوقية غير مبررة ومبالغات غير منطقية، ولسوء الحظ أن هذه الممارسات الخاطئة تعد أعمالاً بطولية.
بالعودة إلى قرار وزارة الإعلام بحجز بعض الصحف الأهلية إدارياً قبل ثلاثة أسابيع على خلفية ما حصل في بعض المحافظات الجنوبية من مظاهرات واشتباكات مسلحة، تبدو القضية أكبر من الصورة التي حاول إعلام الحكومة اظهارها، أو تلك الصورة التي حاول الإعلام المعارض تسويقها.
بوضوح، الأزمة أكثر عمقاً وسوف تزداد اتساعاً في المستقبل إذا ظل كل معسكر على موقفه الصارم. لسنا بصدد ادعاء الحكمة، لا، هذا ليس دوري على أية حال، ولا أظن أنني أحصل على راتب شهري مقابل أداء مهمة كهذه، منذ فترة ليست قصيرة، وهناك ما يشبه الحرب بين جزء من الصحافة وجزء من الحكومة، وبين جزء من الصحافة وجزء من المعارضة، وجزء من الصحافة وجزء اخر من الصحافة.
لقد أصبح من المهم أن نفهم ماذا يجري، ودون مواربة هناك تصفية حسابات سياسية تُستخدم فيها الصحافة إلى أبعد مدى. يمكنك أن تصل إلى هذا الاستنتاج من خلال تحليل مضمون أي صحيفة بغض النظر عن انتماءها السياسي أو الفكري. هناك بالطبع استثناءات، لكنها تؤكد القاعدة، لكن هذا السطو السياسي على الصحافة لا يعني أن الجسم الصحفي صار موبوءاً ويجب مكافحته، سيكون هذا خطأ فادح. فالبلدان التي تخلو من صحافة حرة تكون معرضة للانهيار أكثر من غيرها، وتبدو خطوة إنشاء محكمة خاصة بالصحفيين خارجة عن السياق الديمقراطي التي اختارته اليمن منذ 1990، لذا يجب إعادة النظر في إنشائها، ذلك أن محاربة العشوائية والانتهازية في الصحافة لا يمكن أن تتم من خلال المحاكم، فضلاً عن محكمة خاصة ستضر بصورة اليمن خارجياً، فالعالم لا ينظر باحترام إلى تلك الدول التي تحاكم صحفيين على آرائهم وقناعاتهم.
ربما أراد الذين فكروا في إنشاء هذه المحكمة محاسبة بعض الصحفيين الانتهازيين. حسناً، بمجرد أن يذهب هؤلاء إلى المحكمة سيصبحون أبطالاً، وسوف يحصلون على دعم وتقدير خارجيين، وسيكون علينا أن نعترف بهذا الواقع المزيف. لماذا إذن تضع الحكومة نفسها وتضعنا معها في مأزقٍ واضحٍ كهذا؟!
قد يقول البعض أن وجود محكمة خاصة بالصحفيين ستؤدي إلى سرعة البت في القضايا، بالإضافة إلى أن القضاة الذين سيختارون للعمل في هذه المحكمة سيتفهمون أكثر من غيرهم العمل الصحفي وما ينطوي عليه أحيانا من أخطاء، لكن المشكلة أن كثير من الصحفيين الذين يتجاوزن معايير المهنية والموضوعية سيسارعون إلى التسجيل في هذه المحكمة، وبالتالي الحصول على شهرة لم يكونوا يحلمون بها.
*****
قليلاً من الهدوء والتواضع. لا يمكن لصحيفة أهلية أن تعتذر على لسان رئيس تحريرها بسبب مقال ناقش موضوع زواج الصغيرات لمجرد أن البعض فهم منه إساءة مزعومة له، في حين أن هذه الصحيفة ذاتها لم تفكر في احتمال ولو ضئيل أنها قد نشرت فعلاً ما يساهم في تكريس حالة انفصالية مقيتة. في المقابل، لا يبدو أن الإعلام الحكومي أفضل حالاً، فهو مستعد لوصم جميع المعارضين بالخيانة، وهو أمرٌ لم يعد مقبولاً، فتهمة التحريض ليست حكراً على البعض الصحف الأهلية والحزبية، بل إن بعض الإعلام الرسمي يمارسه دون أن يسائله أحد.
يبدو مناسباً الدخول إلى تفاصيل أزمة الصحافة من خلال الإجابة على الأسئلة الثلاثة التالية: هل هناك أزمة صحافة؟ من أطرافها؟ وما هي الحلول الممكنة للخروج من هذه الدوامة؟
دون تردد، نعم، هناك أزمة صحافة. لا يجب إدعاء غير ذلك، لكن على غير ما قد يعتقده البعض تساهم خمسة أطراف في صنع هذه الأزمة، وهي على النحو التالي: الجسم الصحفي، ونقابة الصحفيين، والحكومة، والمجتمع، والقانون، وما لم يتم مراجعة دور كل طرف من هذه الأطراف وتصويب ما يرتكبه من أخطاء، فإن الوضع الصحفي سيزداد سوءاً.
يبدو الجسم الصحفي، ونعني به الصحفيين والصحف من كل الاتجاهات، مهتم بالدعائية أكثر من الإعلام. مشكلة الأراضي في المحافظات الجنوبية - على سبيل المثال- تم التعامل معها بدعائية مفرطة، فالصحف الموالية لم تلقِ بالاً لهذا الموضوع، وفي المرات القليلة التي تناولته بالنقاش لم تكن بعيدة عن اتهام الآخرين بالمبالغة والكيدية، فيما بدت الصحف الأهلية والمعارضة أكثر عجزاً، فقد جعلوا من هذا الموضوع مانشيت دعائي، "هناك أشخاص استولوا على مساحات شائعة من الأراضي"، من هؤلاء الأشخاص؟ غير مهم معرفة اسمائهم!.
إذا كانت الصحافة الموالية لأسباب كثيرة لم تولِ هذه القضية اهتماماً كافياً، كيف يمكن تفسير اكتفاء الصحف المعارضة بعناوين فضفاضة لا تشمل أسماءً وأرقاماً وتواريخ. لقد كان الفشل نصيب الجميع، وهذا الفشل يعود بالأساس إلى خلل في فهم وظائف الصحافة، إذ ما يزال هناك من ينظر إلى الصحيفة على أنها منبر عكاظي، أو منصة لإطلاق الشتائم والاتهامات، فيما وظيفة الصحافة الحديثة الأساسية اليوم هي البحث عن المعلومة، واطلاع الجمهور عليها. وفي هذا السياق، من المهم التأكيد على أن تحقيقاً واحداً يتناول مشكلة الأراضي مستنداً على أسماء وأرقام وحقائق يُغني عن ألف مقال وعشرات الآلاف من الصفحات، ويكون أكثر تأثيراً.
كنت قد أجريت مقابلة مع الصحفي المصري إبراهيم هلال، نائب رئيس قناة الجزيرة الدولية في 2006، ونشرتها صحيفة الأسبوع، وقد قال لي "لم نعد نحتاج إلى برامج الصوت العالي، لقد تجاوزنا هذه المرحلة، نحن بحاجة إلى صحافة المعلومة".
هنا كل شيء على حاله، نبدو غير مكترثين لهذا الأمر، وهذا ما يجعلنا نبدو وكأننا صحفيون عقائديون، وهذا يجعل من أخطاءنا أعمالاً جيدة للغاية.

*****
نقابة الصحفيين، هي الأخرى، تبدو غير مكترثة بتطوير الصحافة، والمحافظة على المهنة، فقد اكتفت طوال الفترة الماضية بحصر أسماء أعضائها – ولم تنجح إلى الآن في هذه المهمة - وإصدار البيانات المؤيدة أو المنددة. يبدو أن هذا هو كل ما يمكن أن نقوم به.
الجدل الدائر حول موقف النقابة من الأزمة الأخيرة انحرف عن مساره كالعادة، لكن هذا الانحراف مفيد إلى حدٍ كبير في إعادة تعريف وظيفة النقابة. ماذا كان يجب على النقابة القيام به؟
دون تردد، كان ينبغي على النقابة أن تتعامل مع ما يُنشر في الصحافة الرسمية والحزبية والأهلية من موقع الحريص على القواعد والمبادئ الأساسية للمهنة. كان يجب أن تمارس دور المراقب المهني، نحن لسنا بحاجة إلى رقابة سياسية أو أمنية. فهذه وصاية لن يقبل أحد بها.
تمتلئ صحافتنا باختلاف توجهاتها بالأخبار الملونة، وبالمصادر المجهلة. مهنياً، لا أحد يستطيع أن يوافق على ذلك. قد يكون من المهم للنقابة أن تمارس دور المراقب لما يُنشر دون تحفز، ومحاسبة المتجاوزين، فيما يتعلق بجرائم النشر، ليس هناك جهة غير النقابة تستطيع أن تحاسب وفق معايير مقبولة. وذلك لأنها لن تنطلق من روح ثأرية أو سياسية، كما أنها باستطاعتها أن تفرّق بين الاتهامات الحقيقة وتلك الكيدية التي تحاول الحد من حرية الصحافة.
استقالة عبد الله الصعفاني من رئاسة لجنة الإعلام والثقافة بالنقابة، واستماتة أعضاء آخرين في التعبير عن مواقف أحادية على الجانب الآخر، دليل على أن النقابة ما تزال كائناً سياسياً وليس مهنياً، وقد يكون من المناسب فتح نقاش عام حول دور النقابة في تقييم ما يُنشر. ما زلت اعتقد أنها الجهة الأقدر على فعل ذلك.

*********
وزارة الإعلام ومن خلفها الحكومة هي أيضاً مسؤولة عن هذا الواقع المرير. ومن جهة، لا يجب على الوزارة اعتبار الصحف المعارضة لتوجهات الحكومة عدواً يجب محاربته، يجب أن لا ننسى أننا دولة ديمقراطية، وهذا يعني أن هناك آراءً كثيرة سوف نسمعها ولن نكون راضين عنها. يجب أن لا نقلق من الحرية، ما يدعو للقلق هو انعدام الحرية.
من جهة ثانية، لا ينبغي التصريح لأي صحيفة ما لم تتوافر شروط التأسيس كاملة كما هو موضحٌ في القانون. إن التغاضي عن هذه الشروط يجلب ضرراً إضافياً للصحافة، فهناك عشرات الصحف تم الترخيص لها بمجرد أنها محسوبة على هذا التيار أو ذاك. وليس خافياً على أحد أن هذه الصحف جزء من المشكلة، فهي تمارس الدعائية إلى أقصى الحدود.
وفي هذا الاطار، يجب إعادة النظر في قانون الصحافة. إن القانون هو الرأس الرابع لهذه الأزمة، فهو يقول الشيء وضده، وبالتالي لن يكون باستطاعة الوزارة أو النقابة أو الصحف المتضررة من أية اجراءات ضدها أو الصحفيين أن يكونوا حاسمين عندما يستندون إلى القانون. يجب أن يُصار إلى أن يكون القانون مختصراً ومحدداً، مرة أخرى. من غير المفيد أن يمتلئ القانون الجديد الذي يجري إعداده بالممنوعات، إنما بالمعايير والضوابط المهنية والمعترف بها في العالم، وهذا جهد تقوم به الجماعة الصحفية على وجه الحصر.
وهناك أمر في غاية الأهمية يجب أن يلحظه القانون الجديد هو ضمان وصول الصحفي إلى المعلومات. إن هذا في حال حصل، سيقضي على طابور من الأخبار المبنية على تكهنات غير مسؤولة.
أما رأس الأزمة الخامس، فهو المجتمع. إلى وقت قريب كان يمكن اعتبار المجتمع بأنه الأقل تأزماً، لكن لأسباب مختلفة، بدا أنه الأكثر تطرفاً في أفكاره وقناعاته، وبالتالي صار مساهماً دون أن يدري في ما يمكن تسميته "صحافة الغرائز". فالصحفي الذي يكتب موضوعه بلغة بعيدة عن التحريض والإثارة يجد نفسه في خانة التواطؤ مع النظام، فيما الصحفي الذي يستخدم قاموس الشتائم والاتهامات يعد في قائمة الوطنية. هذا الخلل في فهم الجمهور لوظيفة الصحفي، لا يساعد في بناء صحافة حقيقة تساعده على فهم الأحداث التي تدور حوله. كل ما سوف يحصل عليه، موضوعات إنشائية لا تستند إلى حقائق، وهذا النوع من الصحافة لم يعد موجوداً إلا في الدول المتخلفة.
أخيراً، لم يكن هدف المقال القفز على قرار وزارة الإعلام بالحجز الإداري على بعض الصحف، وإنما كان الهدف المساهمة في فتح نقاش حول ماهية الأزمة، والتي تكمن - بحسب تصوري - في عدم القدرة على تحديد الممنوع والمسموح مهنياً، لا سياسياً ولا أمنياً. فالالتزام بالمعايير المهنية سيؤدي إلى التخلص من كثير مما نشكو منه الآن وغداً.