اليابان الغامضة .. صعود هادئ لقوة متجددة
الثلاثاء, 30-يونيو-2009
محمد عبدالله مجمد - قبل أكثر من نصف قرن، استطاعت اليابان أن تنتشل نفسها من رماد الحرب، وفي غضون سنوات قليلة أذهلت العالم بإنجازاتها الاقتصادية. ومنذ ثمانينيات القرن العشرين أعاد العالم اكتشاف اليابان مجدداً كقوة بازغة ونموذجاً عالمياً صاعداً يعتمد على القوة الاقتصادية الناعمة بدلاً من القوة العسكرية والسياسية الفجّة. فاليابان اليوم تمتلك صناعة عالية التعقيد والتقدم، ولديها ثاني أكبر اقتصاد قومي على المستوى العالمي، وهي ضمن مجموعة الدول الصناعية الثماني التي تنسق سياساتها لاستقرار الاقتصاد العالمي. وهي، أيضاً، من أهم دول العالم من حيث حجم الأرصدة النقدية، والاستثمارات الخارجية، والمساعدات الإنمائية. وفي مؤتمرات القمة الاقتصادية، ما فتئ العالم ينحني باتجاه طوكيو. وتعد اليابان من أكبر المساهمين في ميزانية الأمم المتحدة، وأجهزتها المختلفة، وهو ما يؤهلها للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن، وقد تقدمت بالفعل بذلك في أيلول/ سبتمبر 1994، أي أنها طالبت رسمياً بأن تكون القوة السادسة في العالم منذ عقد ونصف تقريباً.
لكن حضور هذا البلد العالمي يتناقض تناقضاً صارخاً مع غيابه الثقافي التام؛ فاليابان تُصدِّر إلى العالم قاطبة سلعاً تجلب الاستحسان والإعجاب ولكن شخصيتها تبقى مجهولة إلى حد كبير. وهذا الوضع استثنائي ونادر جداً في التاريخ، فكل الدول العظمى التي تعاقبت في القرون الماضية كانت تصدر ثقافتها وفنونها وطريقة عيشها وأيديولوجيتها قبل السلع والبضائع. ليس هذا فحسب بل إن عظمة الاقتصاد الياباني الذي صار نموذجاً ومدعاة للحسد لم تنتج - لسنوات طويلة - ثماراً في أي مجال من مجالات القوة الدولية الأخرى، السياسية أو العسكرية.
وتبدو اليابان من خلال معطياتها السكانية والجغرافية وحتى العسكرية دولة صغيرة نسبياً، ولا يمكن التصديق أن هذه القوة الصغيرة والناعمة والمحدودة في مواردها الطبيعية والتي تعيش وفق الفكر الشرقي القديم وعرفت تاريخياً بانعزالها وتقوقعها قد أصبحت قوة من القوى العالمية الجديدة، وربما كانت على وشك أن تتحول إلى قوة عظمى قريباً. فعدد سكان اليابان لا يتجاوز 127 مليون نسمة، أي 2% من إجمالي سكان العالم، وأقل من نصف عدد سكان الولايات المتحدة، بل إنها تأتي بعد البرازيل وإندونيسيا من حيث عدد السكان. أما من حيث المساحة فإن اليابان دول لا تزيد مساحتها على 380 كيلو متراً مربعاً، أي 0.3% من مساحة الكرة الأرضية، و3.8% من مساحة الولايات المتحدة.
وبسبب خلوّها من المعادن والثروات الطبيعية، فهي في حاجة دائمة لاستيراد المواد الأولية من الخارج، إذ إنها تستورد 99% من النفط، وهي ثاني أكبر مستوردة له في العالم، كما أنها تستورد 90% من الحديد و100% من النحاس والمعادن الرئيسية الأخرى. وبالمثل، تبدو قدرات اليابان العسكرية متواضعة قياساً بالقدرات العسكرية للقوى العالمية الأخرى. فعدد قواتها المسلحة لا يزيد عن 250 ألف جندي، أي ما يعادل 12% فقط من عدد القوات المسلحة الأميركية، كما لا يتجاوز إنفاقها العسكري السنوي 40 مليار دولار والذي يوازي 8% من الإنفاق العسكري الأميركي. إلا أن القوة العسكرية اليابانية، مع هذا، تعتبر الأحدث على مستوى القارة الآسيوية. ورغم أن لدى جيرانها الكبار كالصين والهند أسلحة نووية وعدداً أكبر من الرجال المسلحين، فإن العسكريين اليابانيين أفضل تجهيزاً وتدريباً، كما أن لديها القدرة التكنولوجية على تطوير الأسلحة النووية بسرعة إذا شاءت.
على أن قوة اليابان الحقيقية تكمن في تفوقها الصناعي والتقني. فاليابان هي الأولى في العالم في إنتاج الحديد والصلب وإنتاج السفن وأجهزة الكمبيوتر والإلكترونيات والأجهزة المنزلية بكل أنواعها والتي هي الأكثر رواجاً في العالم، بل إنها الدولة الثانية بعد الولايات المتحدة في إنتاج السيارات والتي هي واحدة من أضخم الصناعات وترتبط بها مجموعة متكاملة من الصناعات الدقيقة والثقيلة وتوظف أكبر عدد من الأيدي العاملة الماهرة والمتخصصة. والأهم من ذلك أن اليابان هي الدولة الأولى من حيث المكننة والأتمتة الصناعية وإنتاج الإنسان الآلي الصناعي، الذي أخذ يحل محل الإنسان العادي في معظم المجالات الصناعية المهمة.
كل ذلك عزز التفوق الياباني المالي والصناعي والعلمي، وحوّل اليابان من دولة مقلدة إلى دولة مبتكرة، ومن متعلم مبتدئ إلى معلم عملاق ونموذج مبهر وملهم لدول العالم، في ظل نهضة يابانية متجددة وصعود مستمر للنموذج الياباني الذي يستند إلى القوة الاقتصادية الناعمة. ولهذا أصبح اليابانيون اليوم أكثر ثقة بأنفسهم في الداخل والخارج كأمة وكأفراد، وأخذوا يعيدون اكتشاف بلادهم كقوة عظمى مؤثرة ولاعب أساسي في صياغة القرن الحادي والعشرين. والحقيقة أن هذا ينسجم مع سجل البلاد المثير للإعجاب في مجال إعادة اكتشاف نفسها. فقبل قرن ونصف، أصبحت اليابان أول بلد غير أوربي يتكيّف مع العولمة الحديثة. فبعد قرون من العزلة، تحولت اليابان من دولة إقطاعية إلى دولة دستورية حديثة بإشراف الإمبراطور موتسو هيتو (المعروف باسم ميجي) في القرن التاسع عشر، ثم راحت تأخذ من باقي أنحاء العالم بشكل انتقائي. وفي غضون نصف قرن بلغت من القوة ما جعلها تدحر قوة أوربية كبرى في الحرب الروسية اليابانية. ونهضت من رماد الحرب العالمية الثانية بعد سنة 1945. وفي الآونة الأخيرة (وتحديداً في العام 2000) طالبت لجنة شكّلها رئيس الوزراء حول أهداف اليابان في القرن الحادي والعشرين، بأن تعيد اليابان اكتشاف نفسها من جديد.
ونظراً لضعف العملية السياسية، والحاجة إلى إزالة القيود الحكومية، والسكان الزاحفين إلى الشيخوخة، ومقاومة الهجرة، فإن مثل هذا التغيّر لن يكون سهلاً، وقد يستغرق استكماله عشرة سنوات أو أكثر. ولكن بالنظر لاستمرار مهارات شعب اليابان، واستقرار مجتمعها، واضطلاعها بالقيادة في بعض مجالات التكنولوجيا (مثل تطبيقات الإنترنت المتنقلة)، وامتلاكها المهارات الصناعية، فإن التقديرات الحالية تشير إلى أن اليابان ستحظى بموقع متقدم في هيكلية النظام العالمي خلال الفترة المتبقية من القرن الحالي.
فهل يمكن أن تواصل اليابان نهضتها لتصبح بعد عقد أو عقدين من الزمان متحدية عالمية للولايات المتحدة، اقتصادياً أو عسكرياً، كما تنبأ لها البعض منذ عقد مضى؟ في الواقع يمكن استشراف الدور المستقبلي لليابان من خلال فهم الحقيقتين التاليتين: تتمثل الأولى في ظهور تطلعات جديدة لليابان للقيام بدور خارجي؛ فقيامها بإرسال قواتها خارج حدودها والمشاركة في قوات التحالف في العراق عام 2004، ومطالبتها بمقعد دائم في مجلس الأمن يتناسبان مع تنامي نفوذها الاقتصادي في العالم. أما الحقيقة الثانية فتتمثل في أن أُسُس نجاحها الحالي يرجع إلى نموها الباهر (والذي أعاقته الأزمة المالية العالمية مؤخراً بشكل مؤقت)، ويعد هذا النمو أبرز مؤشر يؤهلها للاضطلاع بدور بارز في النظام العالمي المستقبلي.
وفي ضوء ذلك، يمكن تحديد الخيارات المتاحة أمام اليابان في السنوات والعقود المقبلة بما يلي:
أولاً: سيكون بمقدور اليابان توظيف قدرتها الاقتصادية وأموالها في ظل المتغيرات العالمية الجديدة للتأثير في السياسات العالمية بالاتجاه الذي يخدم مصالحها الوطنية. فاستمرارها بإقراض الدول النامية واحتلالها لمركز الصدارة بين الدول المُقرِضة في العالم سيساعد على تطوير روابطها التجارية والاقتصادية والسياسية مع هذه البلدان بالشكل الذي يؤدي إلى تحول اليابان إلى مركز استقطاب تدور حوله أجرام صغيرة هي بأمس الحاجة إلى المساعدة الأجنبية، في حين ستتمكن اليابان من الحصول على المواد الخام منها لسد النقص الذي تعاني منه.
ثانياً: إن اعتماد اليابان على استيراد المواد الخام، سيما مواد الطاقة، سيزيد من تطلعاتها الخارجية واهتمامها بدور عالمي انطلاقاً من حرصها على الحفاظ على أمنها القومي, لاسيما أمنها الاقتصادي.
ثالثاً: ستشجع سياسة تقاسم الأعباء الأميركية اليابان للقيام بدور إقليمي هام في آسيا، مما سيُضفي على دورها الإقليمي أهمية مضافة، وتالياً سيساعد على ظهور قوةٍ يابانيةٍ مُتطلِّعة. فضلاً عن أن تطوير علاقاتها مع الدول الصناعية الجديدة في آسيا سيخلق قوة اقتصادية وتكنولوجية ذات وزن سياسي كبير في آسيا.
رابعاً: إن بروز قوى كبرى في العالم سيفتح منافذ شتى أمام الساسة اليابانيين لبناء جسور من التعاون معها. فالصين وأوربا الموحدة كلها قوى مرشحة كبرى تتطلع للتعاون مع اليابان، القوة الاقتصادية الكبرى، من أجل تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة. ومن ثمّ سيكون من مصلحة هذه القوى فتح المنافذ للتعاون مع اليابان لتقليل الضغط الأميركي عليها.
خامساً: من الواضح أن التكنولوجيا في القرن الحادي والعشرين ستلعب دوراً أساسياً في تحديد طبيعة ومستقبل العلاقات الدولية. وبما أن اليابان دولة مُتألّقة في إنتاج التكنولوجيا المتقدمة، لذا سيكون بمقدورها أن تؤدي دوراً فعالاً في هذا المضمار، علماً بأن لليابان قدرة فائقة على تحويل إمكانياتها وإنتاجها المدني إلى القطاع العسكري، وليس غريباً أن تقوم الولايات المتحدة اليوم بطلب التكنولوجيا من اليابان في الوقت الذي كانت هي في البداية مصدر تكنولوجيتها.
وفي كل الأحوال، فإن دراسة خيارات اليابان المستقبلية ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار حقيقة أساسية وهي أن اليابان لم تعد دولةً عدوانية كما كان الأمر في مطلع القرن العشرين، إذ قطعت اليابان شوطاً كبيراً في تطبيق التعددية والديمقراطية التي أصبحت من التقاليد الراسخة في الحياة السياسية لليابان. فضلاً عن أن رسوخ علاقاتها بالغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة، يدفعنا - وبعض المحللين كذلك - إلى الاعتقاد بأن ظهور اليابان كقوة كبرى، في المستقبل المنظور، سيكون في إطار تكميلي للإستراتيجية الغربية ومساهم رئيسي في تحمّل جزء من أعباء القوة الأميركية وإستراتيجيتها الكونية، وليس نداً أو منافساً جدياً لها. وسيكون للنخبة السياسية اليابانية دور أساسي في مساعدة بلادها للاضطلاع بدور عالمي خلال العقود التالية من القرن الحادي والعشرين.

للاستزادة:
- باتريك سميث، اليابان: رؤية جديدة، ترجمة سعد زهران، سلسلة عالم المعرفة؛ 268 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، نيسان/ أبريل 2001).
- ريتشارد كاتز، "اقتصاد اليابان المتجدد دوماً"، ترجمة حسام حسني مدار، الثقافة العالمية، العدد 124 (الكويت: أيار/ مايو – حزيران/ يونيو 2004).
- أحمد بهي الدين قنديل، "اليابان الجديدة: إعادة التفكير في الدور الخارجي"، السياسة الدولية، العدد 167 (القاهرة: كانون الثاني/ يناير 2007).
- ملف حول "اليابان والعالم"، في: السياسة الدولية، العدد 101 (القاهرة: تموز/ يوليو 1990).
- غسان العزي، سياسة القوة: مستقبل النظام الدولي والقوى العظمى (بيروت: مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث والتوثيق، 2000).
- عبد الخالق عبدالله، حكاية السياسة (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 2006).
- جوزيف س. ناي (الابن)، مفارقة القوة الأميركية، ترجمة محمد توفيق البجيرمي (الرياض: مكتبة العبيكان، 2003).
- سعد توفيق حقي، النظام الدولي الجديد: دراسة في مستقبل العلاقات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة (عمان: الأهلية للنشر والتوزيع، 2002).