أوربا .. قوة كبرى ولكن!
الثلاثاء, 30-يونيو-2009
محمد الكهالي - لقادة أوربا حلم قديم وهو أن تصبح قاراتهم قوة عظمى. في الخمسين السنة الماضية كان هناك جهد رسمي فرنسي-ألماني لجعل أوربا قوة مستقلة ومهمة، غير أن قسم من الأوربيين وعلى رأسهم البريطانيين يرفضون ذلك بحجة أن هذا التوجه قد يؤدي إلى صدام مع الأميركيين، بالإضافة إلى أن أوربا موحدة ستقضي على خصوصية الدول الوطنية وهذا له نتائج كارثية. وفي آخر موقف للشارع البريطاني، أيّد نحو نصف الناخبين البريطانيين قيام بلادهم بتخفيف روابطها مع الاتحاد الأوربي ووضع حدّ لسيادة محكمة العدل الأوربية على المحاكم البريطانية. وقال استطلاع للرأي أجرته مؤسسة يوغف ونشرت نتائجه صحيفة 'صندي تليغراف' الصادرة في 11 كانون الثاني/ يناير الجاري، إن الناخبين البريطانيين ما زالوا يعادون الاتحاد الأوربي بعد اعتماد معاهدة لشبونة، والتي زادت من صلاحيات بروكسل على حساب الحكومات الوطنية، ويرفضون العملة الأوربية الموحدة (يورو) رغم هبوط قيمة الجنيه الإسترليني حيالها. وأشار الاستطلاع، إلى أن محصلة المواقف تظهر أن 64% من الناخبين البريطانيين يُفضلون قيام بلادهم بتخفيف روابطها بالاتحاد الأوربي، بالمقارنة مع 22% أيدوا احتفاظها بعضويتها الكاملة في الاتحاد ومن بينها معاهدة لشبونة التي صادق عليها البرلمان البريطاني العام الماضي من دون استفتاء عام. وعارض 64% من الناخبين البريطانيين انضمام بلادهم إلى اليورو، في حين أيد 24% انضمامها للعملة الأوربية الموحدة، فيما أكد 45% من هؤلاء أن أياً من الأحزاب السياسية الثلاثة الكبرى في بلادهم يعكس آراءهم على نحو مناسب حيال مستقبل علاقات بريطانيا مع الاتحاد الأوربي.
ورغم أن الحلم الأوربي قد استحوذ على اهتمام كثير من المفكرين الأوربيين، الذين كان معظمهم مؤمنون بفكرة أوربا الموحدة والقوية إلا أن هناك أصوات كثيرة بدت تُحذر من الإفراط في التفاؤل.

أوربا القوية
المتفائلون بأن أوربا يمكن أن تصبح قوة عظمي تَرِث الإمبراطورية الأميركية يستندون إلى تاريخ القارة التي تعد أهم القوى التقليدية في العالم؛ فأوربا هي الأكثر تنوعاً والأكثر احتواءً لعناصر التفرق، والتوحّد في آن واحد، وهي الأكثر قدرة على الفعل، ومن رحمها خرج القطب الأميركي، وعبرها تم احتواء الدب الروسي العملاق في أوج فتوته، وهي القوة الجغرافية الأكثر قدرة على التجدد إذا ما أخذنا في الاعتبار وجهة النظر القائلة بعدم قدرة أميركا على تجديد نفسها. فالكاتب والمفكر البريطاني مارك ليونارد نشر قبل عامين كتاباً بعنوان: «لماذا ستقود أوربا القرن الـحادي والعشرين»، أما جيري رفكن، وروبرت ريد فقد قدّما في كتاباتهم حول الحلم الأوربي الكثير من الاستخلاصات المهمة أبرزها: أن أوربا تملك القدرة على التعاون، وهي في كيانها الجمعي والمفرد كيان وكيانات متعاونة تستطيع بسهولة النجاة من مصيدة الزمن التي تقع فيها أميركا، وسبق أن وقعت فيها روسيا. وبحسب مارتن ماليا فإن أوربا تشرع في تحديد نقطة انطلاقتها في الوقت المناسب، ومن ثمّ فإنها حددت أهدافها الراهنة باللحظة التي بدأ سكانها يشعرون فيها بأنهم جماعة متميزة عن الجماعات الأخرى.
أسباب كثيرة تدعو الأوربيين إلى أن يشعروا بالانتصار، فإنجازات أوربا فاقت منذ عقود الكثير والكثير من ما حققته أية حضارة أخرى؛ فعبقرية أوربا عند ماليا - مثلاً - هي أنها قد اخترعت العالم الحديث الذي أنتجته أميركا في وقت لاحق بالجملة. يضيف ماليا: صحيح أن الكتابات التاريخية الحديثة تؤكد أن أوربا قد أنجزت هذه الأعمال الملحمية المتمثلة في قهر الأميركيين بنهب واستبعاد القارات الأخرى، ولكن النهب والاستبعاد كانا من الممارسات الشائعة في الحضارات كافة، ولقد كانت المفاهيم المعاصرة في أوربا عن حقوق الإنسان والديمقراطية هي التي جعلتها توازن إنجازاتها بالاعتراف بجرائمها. وفي كتابه عن "الحلم الأوربي"، يُصِر يوت إن. رايد على أن أوربا لديها أفضل الطرق وأسرع القطارات وأرخص أسعار الطيران. وأجل بالتأكيد أن الاتحاد الأوربي كما وصفه رفكن، أقرب إلى "نبض التغيير الذي يحول العالم إلى مجتمع عولمي"، ولكنه ليس كاملاً بأية حال من الأحوال.
إن دور القوة ومكانتها حتى اليوم ما زالت محوراً مهماً ونقطة تقف عندها كل الخطى في كل مسارات البناء والتحول لدى مختلف القوى، والمقصود هنا القدرة على أحداث التغيير أو وقفه أو تحريك اتجاه القوى الأخرى، وخاصةً إذا ما انطلقت هذه القوة من محاور وطنية وأُسنِدت بروح شعبية. فالوظيفة القتالية على الطراز الأميركي، كما يلاحظ جارتون آشن، نادرة في أوربا المعاصرة. إن هذه الكراهية للنزعة القتالية تتجاوز الميل التقليدي للسلام،لم يعد الأوربيون يفكرون حتى مجرد تفكير بأسلوب عسكري فيما يخص علاقات الدول ببعضها، وهذا يجعلهم- خلاف ما يظنه النقاد الأميركيون - أكثر تأثيراً وليس أفل في معالجة الأزمات الدولية المعاصرة.
إن الاتحاد الأوربي - والكلام لتوني يوت- يتكلم بقوة وسوف يتحدث مستقبلاً بقوة أكبر، ليس لأن الاتحاد غني أو كبير رغم أنه يملك كلتا الضفتين. الولايات المتحدة الأميركية غنية وكبيرة، ويوماً ما قد تكون الصين أغنى وأكبر، ولكن أهمية أوربا تكمن في مسألة اضمحلال الحدود بين الدول والتي تتمحور حولها أوربا المعاصرة؛ فالعولمة ليست في الأساس تخص التجارة والاتصالات والاحتكارات الاقتصادية، أو حتى تكوين إمبراطورية. لو كان الأمر كذلك فلن يكون هذا شيئاً جديداً، فقد تم (عولمة) مجالات الحياة هذه منذ مائة سنة، ومظاهر ذلك متمثل في اختفاء الحدود الثقافية والاقتصادية والطبيعية واللغوية، وتحدّي تنظيم عالمنا في غياب هذه الحدود، وبتعبير جان ماري جوينو مدير الأمم المتحدة لعمليات حفظ السلام: "بعد فقدان الراحة التي توفرها الحدود الجغرافية يجب أن نعيد اكتشاف ما يوثّق العروة بين البشر ويكون مجتمعا". وقد بدأ الأوربيون، حسب توني يوت، يفعلون ذلك بكثير من الدهشة لأنفسهم وبعض الرعب أحياناً. العملة الموحدة (اليورو)، واتساع السوق الأوربية، وعدد السكان الكبير، والتاريخ المليء بالإنجازات الإنسانية الكبرى؛ كلها مقومات تجعل الذين يتفاءلون مُحِقُّون أكثر من غيرهم.

.. وأوربا الهامشية
في المقابل، هذا الشعور الهائل بمستقبل واعد لأوربا بدأ في التراجع إلى درجة جعلت إحدى كبريات الصحف الأميركية وهي صحيفة "واشنطن بوست" تتساءل عما إذا كانت أوربا سوف تشارك في قيادة القرن الحادي والعشرين. وبحسب الصحيفة الأميركية، إن هذا الأمر لا يتعلق بمسألة رفض أيرلندا معاهدة لشبونة التي تعيد تنظيم الاتحاد الأوربي فقط، بل إن المسألة تتعدى ذلك إلى ما يعرف بالنقص المتزايد في الثقة بأوربا، مُعيدةً ذلك إلى افتقاد القيادة القوية. فغوردون براون يُنظر إليه على أنه شخصية ضعيفة، كما أن أنجيلا ميركل محصورة في تحالفها الكبير. والعديد من الأميركيين والإيطاليين مثل سيلفيو برلسكوني منفتحون على التعاون الأوربي، أما نيكولا ساركوزي، فيُنظر إليه على أنه قائد فرنسي وليس قائد أوربي، وهذا الأمر ضاعف من قتامة رؤية أوربا الموحدة والقوية في نفس الوقت.
يوشكا فيشر، وزير خارجية ألمانيا ونائب مستشارها في الفترة (1998-2005) نشر مقالاً هاماً نهاية العام الماضي تحدث فيه عن ما يجب على أوربا أن تقوم به حتى لا تجد نفسها خارج النظام العالمي الجديد. يقول فيشر "لقد أصبحت قوى شمال شرق الباسيفيكي (الصين، اليابان، كوريا الجنوبية) من أكثر دائني الولايات المتحدة الأميركية بالفعل، ولسوف تتعاظم أهمية هذه القوى نتيجة الأزمة المالية العالمية الحالية. وبالنسبة للمستقبل المنظور، فإن أعظم فرص النمو تتم في هذه المنطقة، ولسوف تتحول أميركا لأسباب اقتصادية وجغرافية سياسية نحو منطقة الباسيفيكي على نحو متزايد، الأمر الذي يعني انحدار منزلة علاقاتها عبر المحيط الأطلسي.
بالنسبة لأوربا كل هذه أنباء سيئة؛ فبمجرد انفراج هذه الأزمة العالمية، سوف تتضاءل أهمية القارة ببساطة. وما يدعو إلى الأسف أن أوربا لا تفعل شيء لتأخير أو وقف انحدارها، بل إنها في الواقع تُعجّل بالعملية من خلال سلوكها. هناك خطر حقيقي في أن تُفَوِّت أوربا ببساطة ذلك المنعطف التاريخي الاستراتيجي نحو عالم متعدد الأقطاب؛ فالقافلة العالمية سوف تمضي قدماً متوغلةً إلى داخل القرن الحادي والعشرين، مُخلّفةً الأوربيين وراءها إذا لم يتنبهوا إلى ما أصابهم من ضعف بحسب ما يقوله السياسي الألماني. وفي هذا الإطار، يحلو للبعض أن يصف أوربا بالقارة المُنهكة والعجوز، ويُشكك هؤلاء في فكرة أوربا الموحدة والحلم الأوربي، ويقولون أن أقوى شيء تمتلكه أوربا وهو هويتها مُعرّض للتغيير. ماذا تعني أوربا دون هوية أوربية، إن هذا التحدي يبدو الأقوى والأهم الذي يُعرقِل قيام كيان أوربي قوي ومؤثر في العالم.