صعود القومية العربية وانكسارها
الثلاثاء, 30-يونيو-2009
نائلة شرف - لا يمكن تدوين التاريخ العربي المعاصر بمعزلٍ عن تناول التيار القومي العربي كواحد من أهم التيارات الفكرية السياسية الحديثة التي أثارت حولها جدلاً كبيراً، واستطاعت خلال بضعة عقود من ظهورها الوصول إلى السلطة وقيادة الحراك الشعبي والجماهيري ليس على مستوى الدول العربية فقط بل على مستوى بلدان العالم الثالث وحركات التحرر العالمية بما تبنته من مفاهيم الوحدة والتحرر والعدالة الاجتماعية.
قبل الحديث عن التيار القومي العروبي، ينبغي علينا ابتداءً التمييز بين العروبة كانتماء لنسب وجنس وواقعٍ تاريخي، وبين القومية العربية (Nationalism Arab) كمصطلح سياسي ظهر أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين على يد بعض المفكرين العرب أمثال ساطع الحصري وزكي الأرسوزي وقسطنطين زريق، ويرى هؤلاء ضرورة أن يكون للأمة العربية - التي يجمعها لغةٌ مشتركة وإرث تاريخي وثقافي مشترك - حق تقرير مصيرها في دولة خاصة بها.

البدايات
ولدت الحركة القومية العربية في أولى مراحل ظهورها في العصر الحديث كحركة معارضة واحتاجاج ضد سياسة التتريك العنصرية التي حدثت في الدولة العثمانية بقيادة جمعية الاتحاد والترقي بعد تسلمها السلطة إثر انقلابها العسكري على آخر سلاطين الدولة العثمانية عبد الحميد الثاني في العام 1908، وتشكلت هذه الحركة في بدايتها كجمعيات ثقافية تأثراً بالجمعيات التي نشأت في تركيا حينها كجمعية العربية الفتاة والعهد والقحطانية(1)، ورفعت هذه الجمعيات أولاً مطالبها بالحكم الذاتي وألا يُطلب من المجندين العرب في الجيش العثماني أن يخدموا خارج أقاليمهم إلا في وقت الحرب.
ثم ما لبثت أن تشددت هذه الحركة في مطالبها مع الاستمرار في الممارسات التركية العنصرية والقمعية تجاهها، وبدأ الحديث عن إنشاء فيدرالية عربية مستقلة، وهو ما أخذ منحىً تصعيدياً بارزاً بتحريض بريطانيا العرب على الوقوف إلى جانبها في الحرب العالمية الأولى مقابل دعمها لقيام الدولة العربية الموحدة وذلك عبر مراسلات عرفت بمراسلات (الحسين- مكماهون) في العام 1915، الأمر الذي شجّع الشريف حسين بن علي على إعلان الثورة العربية الكبرى 1917، وليقع العرب بعدها رهينة اتفاقية سايكس بيكو والتقسيم الاستعماري البريطاني الفرنسي لإرث الدولة العثمانية، ووجد العرب أنفسهم من جديد في صراع من أجل تحرير الأرض وإثبات الهوية.
واندفعت النخب العربية بعدها لتشكيل الأحزاب والتنظيمات، ومع مطلع الأربعينيات نشأ في سوريا أحد أهم الأحزاب التي تؤمن بالفكر القومي العربي وهو حزب البعث على يد كل من ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، ونشأت له فروع في بعض الدول العربية كالعراق والأردن ولبنان، وجاءت نكبة العرب في العام 1948 لتعطي دفعاً للحركة القومية العربية التي ألقت على عاتق الحكام العرب آنذاك عبء الهزيمة وحملتها المسئولية، ولتنشأ واحدة من أهم الحركات العربية القومية وهي حركة القوميين العرب التي كان جورج حبش ووديع حداد أبرز مؤسسيها، وصنفت الحركة كحركة راديكالية نتيجةً لعقيدة الوحدة والتحرر والثأر التي انتهجتها وتبنيها للعمل المسلح والتصفية الجسدية لمن رأت فيهم سبباً من أسباب النكبة، وقد وجدت هذه الحركة أصداءً في عدد محدود من الدول العربية(2)، وحتى بداية الخمسينات ظلت الحركة القومية العربية أسيرة النخب الفكرية في بعض البلدان العربية، ولم تحضَ بالقبول الجماهيري والشعبي.

مرحلة المد القومي
شهد العام 1952 واحدة من أهم الثورات العربية وهي ثورة تموز/ يوليو في مصر حيث حكم عبد الناصر مصر حاملاً معه القومية العربية، معتبراً مصر جزءاً من الأمة العربية، وهو ما خدم الفكر القومي وساهم في انتشاره بسبب الثقل الحضاري لهذا البلد ودعمه لحركات التحرر العربية وغير العربية.
وجاء العدوان الثلاثي على مصر في 1956 ليكسب الحركة القومية مداً جماهيرياً وشعبياً هادراً، وهو ما دفع بحركة القوميين العرب أن تضع نفسها تحت تصرف جمال عبد الناصر وتياره بعد أن كانت تنظر له كمغامر عسكري، ومع قيام الجمهورية العربية المتحدة وإعلان الوحدة المصرية السورية في 1958 بين قطبين من أقطاب التيار القومي حزب البعث في سوريا و التيار الناصري في مصر وبدعم لا محدود من القطب الثالث حركة القوميين العرب ظن الجميع أنهم على طريق تحقيق الهدف الأكبر للقوميين العرب وهو الوحدة العربية، لكن سرعان ما تلاشت ظنونهم بقيام فصيل بعثي في سوريا بإعلان الانفصال عام 1961، ويدخل بعدها أقطاب القومية فيما بينهم وداخل فصائلهم في انقسامات وصراعات مسلحة بين مؤيدٍ للانفصال ورافضٍ له، وفي خضم ذلك يتم إفشال محاولة وحدة أخرى بين كلٍ من مصر وسوريا والعراق عام 1963، وتبدأ أفكار الحركة القومية بالتراجع وليكون ما أطلق عليه عام النكسة نكسةً حقيقية لصورة الزعيم الملهم ولفكره وأهدافه، وليطوى العام 1970 برحيل عبد الناصر، ويطوى معه أهم رموز هذا الفكر بما مثله من إنجازات وإخفاقات.

القومية العربية بين الفكر والممارسة
رفعت التيارات القومية شعارات الوحدة والتحرر والعدالة الاجتماعية وتبنت مبادئ الاشتراكية وفصل الدين عن الدولة بغرض إقامة المشروع الحضاري للأمة العربية، وعلى الرغم من المكاسب التي شهدتها الطبقات الفقيرة والكادحة إبّان حكم القوميين العرب خاصة في مصر إثر توزيع الأراضي على صغار الفلاحين وتأميم قناة السويس وغيرها من ممتلكات القوى الإقطاعية والثورة التعليمية والصناعية، إلا أن هذه المكاسب لم تكن كافية لتحقيق كل ما وعدت به هذه الحركات؛ لقد رسخ الفكر القومي ما أطلق عليه الشرعية الثورية أو الانقلابية محل الشرعية الديموقراطية والدستورية(3)، وهو ما جعل الأنظمة العسكرية الثورية والتي تحمل الفكر القومي أسيرة نفسها والحفاظ على بقائها مستخدمة القمع والتهميش للآخر وإقصاء الجماهير عن الممارسة الديموقراطية، وبين الانشقاقات والانقلابات والانقلابات المضادة وجدت القوى القومية نفسها تتراجع عن دورها وتواجه فشلاً حقيقياً لمشروعها، ولعل هزيمة العام 1967 واحدة من النتائج المباشرة لمثل هذا الواقع.
قد يدعي البعض أن فشل المشروع العربي إنما هو ناتج عن مؤامرات حاكتها وتحيكها قوى استعمارية وإمبريالية عالمية وأعوانها في المنطقة، وعلى قدر ما يحمله هذا القول من واقعية إلا أن تبرئة التيار القومي سواءً على مستوى الفكر أوالممارسة من أسباب فشله لا يمثل أكثر من محاولة للتملص من تحمل المسئولية.
لقد حمل التيار القومي دائماً هم الوحدة وشكلاً واحداً من أشكالها ألا وهو الوحدة الاندماجية، مستهيناً بكل أشكال القطرية على اعتبار أن الحدود صنيعة الاستعمار ويجب إزالتها والقضاء عليها، ولم يراعى في ذلك خصوصية كل قُطر ومشاكله وظروفه المختلفة، لذا فشلت التجربة الوحدوية المصرية السورية وكذلك كان نصيب غيرها من المحاولات.
كما أن أبرز المآخذ التي تلقى على عاتق التيار القومي من قبل الكثيرين - وعلى رأسهم التيار الإسلامي- أن القوميين أخذوا من الاشتراكية واستفادوا منها، ولم يحصل أن استفادوا من الإسلام والحركات الإسلامية بل على العكس من ذلك قامت الخصومة بين التيارين لعقود عدة.
لقد ساهم المسيحيون في تأسيس الفكر القومي العربي والتنظير له، وربما لعب هذا الأمر دوره في تحييد الدين وتبني العلمانية لدى بعضهم، على اعتبار أن مكونات الأمة العربية لا تقتصر على المسلمين فقط، أما الإسلاميين فيرون أن الإسلام جاء بهوية جامعة هي هوية الدين ولا يمكن تجاهل المسلمين من غير العرب ولا دورهم وإسهاماتهم الحضارية، وبين أن تكون عربياً أولاً ومسلماً ثانياً، أو تكون مسلماً أولاً وعربياً ثانياً ظل الخلاف بين القوميين والإسلاميين حد التأزم بل حد التناحر.
في النهاية خرج التيار القومي من السلطة في مصر بموت صاحبه، أما حركة القوميين العرب فقد تعرضت هي الأخرى لانشقاقات حادة إلى أن وصل الأمر لمن تبقى منها تبني النهج الماركسي بدلاً من النهج القومي الذي نشأت بموجبه، وتعرض البعث لأزمة حادة وانقسامات كبيرة بين فصيلين كبيرين أحدهما حكم في العراق والآخر في دمشق بعد معارك دموية حادة وعداء استمر لفترة من الزمن، واليوم يغيب فصيل العراق بعد إلغائه على يد الاحتلال الأمريكي لهذا البلد عام 2003.
لم تكن سنوات حكم التيار القومي إذاً بالمثالية، وحُمّل التيار فيها أعباء النكبات والنكسات التي مرت بها الأمة خلال تلك المرحلة، كما أن حضوره على الساحة الآن ليس كما كان، "لقد أخذ فرصته" هكذا يرى بعضهم.

المراجعات الفكرية للتيار القومي
ينتقد البعض التيار القومي بأنه لا يقف أمام أخطائه ولا يعترف بها، لكن من الإنصاف القول إن هناك بوادر إصلاحات وتجديد يسعى لها هذا التيار، ولعل في المراجعات الأخيرة التي يقوم بها عدد من المفكرين القوميين العرب ويتولى مركز دراسات الوحدة العربية الإعداد لها في محاولة لصياغة رؤية جديدة لمشروع حضاري نهضوي عربي مستفيدين من أخطاء الماضي ودروسه ما يستحق الوقوف أمامها، كما أن إنشاء المؤتمر القومي العربي ومخيمات الشباب العربي 1990عام خطوات متقدمة في هذا السياق باعتبارها أطر للتحاور والتشاور في سبيل ذلك(4).
ومن أبرز هذه المراجعات ما يتعلق بقضية الوحدة العربية؛ إذ لم يعد ينظر لحتمية أن تكون الوحدة العربية وحدة إندماجية تذوب فيها الكيانات والحدود، بل يمكن أن تكون الصيغة الاتحادية هي الصيغة الأكثر ملاءمة ولا يشترط في هذه الوحدة أن تكون فورية بل يمكن أن تتدرج وتكون في مستويات مختلفة اقتصادية وسياسية واجتماعية ودفاعية، ولا يشترط كذلك أن تشارك كل الأقطار فيها على كافة المستويات بل يمكن لبعضها المشاركة في مستوى دون الآخر على غرار تجربة الاتحاد الأوروبي، وكل ذلك مرتبط بتحقيق الديموقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها(5).
وفي خضم هذه المراجعة أيضاً تم "إعادة الاعتبار للعلاقة الخاصة بين العروبة والإسلام، الأولى كهوية قومية جامعة للعرب، مسلمين ومسيحيين، والآخر كعقيدة لأغلبية العرب وكحضارة وتراث لهم جميعا" على حد تعبير معن بشور الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي(6).
إن إدراك التيارين الإسلامي والقومي- المعتدل منهما على الأقل - أنهما في معركة مشتركة يواجهان فيها نفس الأعداء ونفس التهديد، ومع المخاطر الكبيرة التي شهدتها وتشهدها المنطقة، وفي ظل الاستقطاب الحاد بين مشروعين كان لابد لهذين التيارين الذين يتبنيان التوجه المقاوم أن يلتقيا معاً على أرضيةً واحدة، وأن يعلنا الصلح فيما بينهما، ولعل أهم مؤشرات هذا التصالح هو تأسيس المؤتمر القومي- الإسلامي في العام 1994، والذي انعقد مؤتمره السابع في بيروت تحت اسم "دورة غزة" بتاريخ الخامس والسادس من شباط/ فبراير 2009، كما أن ما شهدته من المنطقة من مؤخراً من مؤتمرات ومؤتمرات مضادة مثل مؤتمر شرم الشيخ لإعادة إعمار غزة مقابل مؤتمر طهران لنصرة فلسطين الذي شارك فيه التيارين إلى جانب قوى الممانعة والمقاومة الأخرى دليل آخر على أن المرحلة اللاحقة قد تشهد اصطفافاً أكبر سواءً بينهما معاً أو مع أطراف أخرى، كما قد تشهد أيضاً مزيداً من المراجعة والتقييم.

الهوامش:
1. شكلت هذه الجمعيات نواة للأحزاب العربية القومية وكان لضباط الجيش العثماني من العرب دورهم فيها. لمزيد من التفاصيل حول ذلك يمكن مراجعة: رسلان شرف الدين، أحزاب السياسية العربية، بيروت، دار الفارابي، ط1، 2006، ص 174-190.
2. لإلقاء الضوء على تاريخ حركة القوميين العرب، يمكن الإطلاع على كتاب: محمد جمال باروت، حركة القوميين العرب: النشأة - التطور- المصائر، دمشق: المركز العربي للدراسات الاستراتيجية، ط1، 1997.
3. عبد العزيز الدوري، "تعريف المشروع الحضاري وتجاربه وتطوره"، المستقبل العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 296، 7/2001، ص53.
4. معن بشور، "تأثيرات هزيمة الخامس من حزيران/ يونيو 1967 في الحركة القومية العربية"، المستقبل العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، العدد280، 6/2002، ص 19.
5. انظر: خير الدين حسيب، "بمناسبة الذكرى الخمسين لوحدة مصر وسوريا: بارقة أمل من الخليج"، المستقبل العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 348، 2/2008، ص 6-12.
6. معن بشور، مرجع سابق، ص19.