تحولات التيار الجهادي في العالم العربي
الثلاثاء, 30-يونيو-2009
عايش عواس - منذ ظهور أولى حلقات التيار الجهادي في ستينيات القرن العشرين، وحتى اللحظة الراهنة يكون قد مضى من عمر الظاهرة حوالي نصف قرن، شهد خلالها التيار الجهادي العديد من التحولات الهامة سواء على مستوى النهج والممارسة أو على مستوى الانتشار الجغرافي. وسوف نحاول في السطور التالية رصد وتحليل أهم هذه التحولات، ومعرفة ما إذا كانت الظروف والمعطيات ما تزال مواتية لصعود هذا التيار وتنامي قوته أم أنه في طريقة إلى التلاشي والأفول.

أفكار مُميتة
لم تثبت الجماعات الجهادية على نهج ثابت ومحدد طوال الفترة الماضية وإنما اختلفت أهدافها وتوجهاتها من مرحلة إلى أخرى تبعاً للظروف والمتغيرات الزمنية، ففي المراحل الأولى لظهور التيار الجهادي كان الهدف الأساس والنهائي للتنظيمات الجهادية المصرية، وهي أقدم الجماعات ظهوراً، هو إقامة الأمة الإسلامية العالمية في ظل خلافة حقيقية تطبق كامل الشريعة الإسلامية، وحتى يتم إقامة هذه الخلافة على المجتمعات الإسلامية اعتقدت هذه الجماعات أن ذلك يستلزم تشكيل جماعة طليعية تقود الأمة الإسلامية في جهادها ضد الأعداء الداخليين والخارجيين، كما يستلزم الاستيلاء على السلطة في كل دولة إسلامية كخطوة أولية في اتجاه الهدف النهائي.
وبناء على هذا التوجه، فقد انصب اهتمام التنظيمات الجهادية المذكورة على مقاتلة الحكومات الوطنية باعتبارها حكومات كافرة لأنها لا تطبق الشريعة الإسلامية بصورة كاملة من وجهة نظر تلك الجماعات، وبالتالي يجب مواجهتها والعمل على إسقاطها. بيد أن احتلال القوات السوفيتية لأفغانستان نهاية فترة السبعينيات من القرن الماضي أفسح المجال لظهور نهج جديد مفاده إعطاء الأولوية لدفع العدوان عن أراضي المسلمين وتأجيل ماعداها من القضايا الأخرى بما في ذلك وقف المواجهات مع أنظمة الحكم الوطنية.
وعلى الرغم من تلقي عناصر التيار الجهادي خلال مشاركتهم في الحرب ضد السوفيت في أفغانستان تأسيساً أيديولوجياً في رؤية عالمية مشبعة بالروح القتالية؛ إلا أن ذلك لم يؤدِّ إلى توحيد نهج التيار الجهادي بمختلف فصائله، فعقب انسحاب السوفيت من الأراضي الأفغانية، وعودة المجاهدين إلى أوطانهم مطلع التسعينيات انقسم الجهاديون إلى اتجاهين رئيسين: الاتجاه الأول مثّله أسامة بن لادن وتابعيه من منطقة الجزيرة والخليج، وركز نشاطه حول ضرورة إخراج القوات الأميركية والغربية من أراضي المملكة العربية السعودية ومنطقة شبة الجزيرة العربية استناداً إلى حرمة الأراضي المقدسة ونص الحديث النبوي "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"، وربما أيضاً لقناعة هذا الاتجاه حينها بعدم جواز الخروج على ولي الأمر. وقد تجسد هذا النهج على أرض الواقع من خلال تركيز الهجمات التي تبناها بن لادن على رعايا ومصالح الدول الأجنبية، كما هو شأن الهجوم بالقنابل على فندق كان يقطنه الجنود الأميركيون في عدن أثناء التدخل العسكري الأميركي في الصومال عام 1992، والهجوم على مقار سكن الطيارين الأميركيين في مدينة الخبر عام 1996.
فيما مثّل الاتجاه الثاني تنظيميّ "الجهاد" والجماعة الإسلامية في مصر والجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر، وكانت الفكرة الرئيسية التي تحكم نشاط هذا الاتجاه هو أن مقاتلة العدو القريب أولى من العدو البعيد، وهو في هذه الحالة أنظمة الحكم في الدول التي تنتمي إليها تلك الجماعات كون إسقاطها المهمة الأولى التي يجب البدء بها. ولا شك أن وضع تلك الحركات لمفهوم الجهاد عنواناً لقتالها ضد الحكومات المحلية إنما يعكس، من ناحية، رؤيتها لها باعتبارها حكومات كافرة معادية للإسلام، ويسعى، من ناحية أخرى، للاستفادة من الشحنة المعنوية الايجابية التي يحملها المعنى الأصلي للجهاد.
وقد تجلى سلوك هذا النهج في تركز نشاط الجماعات المذكورة على استهداف القيادات والأهداف المحلية، فخلال الفترة من عام 1992 وحتى عام 1997 تمحور نشاط التنظيمات الجهادية المصرية حول اغتيال الشخصيات القيادية العليا في الدولة، ومنها محاولة اغتيال حسن الألفي وزير الداخلية المصري الأسبق، ومحاولة اغتيال الدكتور عاطف عبيد رئيس وزراء مصر الأسبق، أما أهم وأبرز العمليات في هذا السياق فكانت محاولة الاغتيال التي تعرض لها الرئيس المصري في إثيوبيا عام 1993.
وفي شباط/ فبراير سنة 1998 اندمج تنظيم "القاعدة" بزعامة أسامة بن لادن وتنظيم "الجهاد" المصري الذي يتزعمه الدكتور أيمن الظواهري في تنظيم واحد أسموه "الجبهة الإسلامية العالمية لمحاربة الصليبيين واليهود"، وعلى ما يبدو فقد اتفق التيار الجهادي بفصيليه الخليجي والمصري قبل إعلان الاندماج بينهما على تبني نهج وإستراتيجية جديدة مضمونها أن إقامة الخلافة الإسلامية وتحرير أراضي المسلمين لا يتم إلا عن طريق توجيه ضربات مؤلمة لأميركا والدول الغربية، حتى يتم إجبار هذه الدول على فكّ تحالفها مع أنظمة الحكم في المنطقة العربية والإسلامية لأن ذلك - إذا ما حدث - سيترك أنظمة الحكم في المنطقة مكشوفة، وبالتالي سيسهل إسقاطها.
وفي ضوء هذا التحول، أصبح الهدف الرئيس والأساس للتيار الجهادي منذ ذلك الحين هو ضرب العدو البعيد وتجنب المواجهة والصدام مع القريب، وكان من نتائج ذلك أن تلاشت المواجهات بين الحكومات المحلية وبين الجماعات الجهادية إلا في حدود ضيقة، وبالمقابل فقد تزايد عدد الهجمات العنيفة ضد المصالح الأميركية والغربية بشكل غير مسبوق ليس في المنطقة العربية والإسلامية، وحسب بل وفي داخل أراضي تلك الدول أيضاً. ففي عام 1998 تم تفجير السفارتين الأميركيتين في نيروبي ودار السلام، وبعد حوالي عامين تعرضت المدمرة الأميركية (كول) لهجوم في ميناء عدن نهاية عام 2000، ووصلت هذه الهجمات ذروتها في عام 2001 عندما هاجمت عناصر تابعة لتنظيم القاعدة مدينتي نيويورك وواشنطن بواسطة طائرات مدنية.
بيد أن الالتزام بهذا النهج لم يدم طويلاً؛ ففي السنوات الأخيرة أبانت الكثير من الوقائع على نحو واضح وجلي أن هجمات التنظيمات الجهادية في العديد من المناطق لم تعد تفرق بين ما هو محلي وبين ما هو أجنبي، وصار الكل مستهدف: البعيد والقريب على حد سواء، بل ووصل الأمر ببعض الجماعات الجهادية كما هو حال تنظيم أبو مصعب الزرقاوى في العراق قبل وفاته أن قدمت قتل القريب على قتل البعيد، وشيء من هذا القبيل نلاحظه في اليمن من خلال تصاعد حدة المواجهات في السنتين الأخيرتين بين قوات الأمن والعناصر الجهادية المتطرفة، ويحدث الأمر نفسه في دول المغرب العربي ومنطقة القبائل في باكستان. وليس معلوماً على وجه اليقين حتى هذه اللحظة ما إذا كان هذا التحول بفعل تغير حقيقي في إستراتيجية القاعدة أم هو نتاج للترهل الذي أصاب الهيكل التنظيمي للقاعدة جراء الضربات الأمنية والعسكرية المتواصلة ضد التنظيم منذ أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر والتي أفضت في نهاية المطاف إلى ضعف سيطرة المركز وتواصله مع الفروع.

"الجهاد" معولماً
ظهرت أولى حلقات الجماعات الجهادية التي تدعو إلى تغيير أنظمة الحكم وقتال الكفار في الداخل والخارج في مصر أوائل عقد الستينيات من القرن الماضي، وعلى وجه التحديد في عام 1960 عندما التقى حينها كل من يحيى إبراهيم هاشم، وإسماعيل طنطاوي، وأيمن الظواهري لينشئوا أول مجموعة جهادية، ومنذ ذلك التاريخ وحتى نهاية سنة 1997 كانت الجماعات الجهادية، سواء من حيث تكوينها أو من حيث مجال نشاطها، تتسم بالطابع المحلي؛ فالتنظيمات المصرية والمغاربية وكذلك الخليجية خلال الفترة نفسها كانت تحصر عضويتها على مواطني الدول التي تنتمي إليها تلك الجماعات، وكذلك مجال نشاطها أي أن الجماعات المصرية كانت تنفذ عملياتها داخل الأراضي المصرية والمغربية داخل الأراضي المغربية وهكذا.
ومع حلول عقد الثمانينيات امتد النشاط الجهادي إلى آسيا الوسطى وتحديداً إلى أفغانستان، التي تركز فيها العمل الجهادي لحوالي عقد كامل، وهذا التوسع كما هو معروف كان سببه الرئيسي احتلال القوات السوفيتية للأراضي الأفغانية ٍالأمر الذي ولد مشاعر القلق والشك لدى الدول العربية والإسلامية المعادية للشيوعية وكذلك لدى الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية، ومن ثم فقد رأت هذه الدول ضرورة تقديم كل أشكال الدعم والمساندة للجهاديين الراغبين في الوصول إلى الساحة الأفغانية من أجل دحر السوفيت من ذلك البلد. وكان من بين التداعيات المترتبة على ذلك أن توافدت عناصر من جنسيات مختلفة استجابة لنداء الأخوة الإسلامية وواجب النصرة، فتوسعت عضوية التيار الجهادي وتضاعفت أعداد المنتسبين إليه على نحو غير مسبوق.
وفي واقع الأمر، فإن المشاركين في دحر السوفيت من الأراضي الأفغانية لم يكن يجمعهم وقتها هدف واحد كما قد يتصور البعض، وإنما كانت لهم مقاصد وغايات متباينة، فالعناصر الجهادية كانت تدفعهم نوايا حسنة أساسها ضرورة نصرة المسلمين الأفغان ضد عدوهم، واعتقد البعض الآخر من هؤلاء بأن تحرير أفغانستان سيمهد الطريق لتحرير فلسطين، وكان حماس الدول العربية والإسلامية للمواجهة تحركه رغبتها في احتواء الخطر الشيوعي من ناحية، ومن ناحية ثانية امتصاص الغضب الشعبي المتصاعد آنذاك جرّاء عجز الحكومات العربية والإسلامية عن تحرير الأراضي الفلسطينية إلى درجة رأت معها أن حرب أفغانستان يمكن أن تشكل متنفساً لتفريغ طاقات الشباب الغاضب خارج بلدانهم، أما الهدف الأساسي للولايات المتحدة فقد كان منع السوفيت من الاقتراب من منابع إنتاج البترول في منطقة الخليج.
وعقب انسحاب القوات السوفيتية وانتهاء الحرب عام 1989 بدأ المجاهدون من جنسيات مختلفة يعودون إلى أوطانهم وقد تلقوا - كما أشرنا إلى ذلك سالفاً - تأسيساً أيديولوجياً في رؤية عالمية، بيد أن النشاط الجهادي مع ذلك ظل يمارس حتى نهاية عام 1997 في أطر محلية بعيداً عن أي أفق عالمي إلى أن حلّ عام 1998 بعدها بدأ الجهاد يأخذ طابعاً كونياً متجاوزاً الحدود والحواجز، وتبدى ذلك من تشكيلة "الجبهة الإسلامية العالمية لمحاربة الصليبيين واليهود" (القاعدة). فبخلاف كل التنظيمات الجهادية التي شُكلت قبل هذا التاريخ لم تقتصر عضوية الجبهة على عناصر من دولة بعينها، وإنما ضمّت تحت مظلتها قيادات وعناصر من مختلف دول ومناطق العالم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن نشاط الجبهة، كما أعلن قادتها وأكدته الوقائع على الأرض فيما بعد، بدأ يمتد إلى مختلف مناطق وقارات العالم واليابس والماء ولم يعد ينحصر في بقعة جغرافية بذاتها كما هو الأمر في الفترة السابقة، وبذلك فقد راح التيار الجهادي ممثلاً بتنظيم القاعدة ينفذ هجماته في مناطق العالم المختلفة في إندونيسيا والسعودية واليمن وشرق أفريقيا وشمالها وفي أميركا وأوربا.
غير أن التحول من العالمية إلى الإقليمية أصبح في السنوات الأخيرة ظاهراً بغير خفاء، ونلمس مؤشرات ذلك من ظهور فروع تنظيم "القاعدة" الجديدة في جزيرة العرب وبلاد الرافدين والمغرب العربي، مما قد ينذر بضعف الارتباط المركزي داخل الشبكة في الفترة القادمة، وربما عودة النشاط الجهادي مع مرور الوقت إلى الطابع المحلي خصوصاً إذا ما استمر المجتمع الدولي في ضرب ومحاصرة النشاط الجهادي بنفس الوتيرة القائمة اليوم.


المراجع:
- محمد حسنين هيكل، المقالات اليابانية، القاهرة، دار الشروق، ط5، 1999.
- فريد زكريا، "الإسلام الراديكالي حقيقة من حقائق الحياة، كيف نتعايش معه"، مجلة نيوزويك - النسخة العربية، 10 آذار/ مارس 2009.
- رضوان احمد شمسان الشيباني، الحركات الأصولية الإسلامية في العالم العربي، القاهرة، مكتبة مدبولي، ط1، 2005.
- مجموعة الأزمات الدولية، يوم 9/11 في الأردن: التعامل مع الإسلامية الجهادية، التقرير رقم 47حول الشرق الأوسط، 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2005.
- ممدوح الشيخ، الجماعات الإسلامية المصرية المتشددة في آتون 11 سبتمبر.. مفارقات النشأة والتحول، القاهرة، مكتبة مدبولى، 2005.
- ياسر الزعاترة، "مراجعات الجهاديين بين الدليل الشرعي وفقه المقاصد"، موازين، الكتاب الثالث عشر، مؤسسة الفلاح للنشر، بيروت، تشرين الثاني/ نوفمبر 2007.
- هاني نسيرة، القاعدة والسلفية الجهادية: الروافد الفكرية وحدود المراجعات، كراسات إستراتيجية، العدد 188، القاهرة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، حزيران/ يونيو2008.