محنة الإسلاميين العرب بين الصنمية الأيديولوجية والمراهقة السياسية
الأحد, 31-مايو-2009
نبيل البكيري - صراع الأيديولوجيا والسياسة كظاهرة عامة في واقعنا السياسي والثقافي والفكري, تكاد تكون بمثابة القاسم المشترك بين النخب السياسية والفكرية في العالم العربي بمختلف توجهاتها الفكرية والأيديولوجية, والإسلاميون كمكون رئيس ضمن هذه النخب لا يمثلون استثناءً في هذه الظاهرة التي كلفت مجتمعاتنا العربية الكثير من الإخفاقات والانتكاسات على امتداد فترة ما بعد قيام الدولة الوطنية وحتى اليوم.
فالتيار الإسلامي أو ما عرف بالإسلام السياسي – بحسب التوصيف الغربي – كتيار يتخذ من الإسلام مرجعيته في العمل السياسي, مارس السياسة كأحد الحلول للخروج بالأمة من حالة الأزمة التي تعيشها في كل المجالات, وهو هنا - أي التيار الإسلامي- لاشك ابن لبيئته العربية الفقيرة تماماً لأي من مفاهيم العمل السياسي الحديثة كالديمقراطية، والدستور, والتداول السلمي والانتخابات والمجتمع المدني وغيرها، والتي بلا شك كان لجدتها وغيابها معاً عن حقل مرجعيته الدينية, انعكاساً سلبياً لدى هذا العقل الإسلامي السياسي في التعامل معها.
وبالتالي فإن خلو وافتقار المجال المعرفي وتحديداً الفكر السياسي الإسلامي, الذي يعد حقيقة أفقر مجالات المعرفة الإسلامية, قد أثر تأثيراً سلبياً, انعكس من خلال تعامل العقل والمخيال الإسلامي معها منطلقاً من دائرته الفقهية البحتة (الحلال والحرام)، وهو بلا شك ما أخّر الإسلاميين كثيراً في العمل السياسي, وهو ما حاول البعض تلافيه دون رؤية واضحة، مما أحدث الكثير من الإرباكات والإشكاليات الفكرية والسياسية, والتي تمثلت بصراع مرير بين الأيديولوجيا (الدين) والسياسة (تدبير الشأن العام).

البيئة المحيطة
كما أسلفنا سابقاً فإن البيئة العربية بمختلف تلويناتها الأيديولوجية والفكرية والعقائدية, أنتجت تجارب سياسية غير ناضجة بل "مراهقة" - إن صح التعبير- لمختلف الاتجاهات الفكرية من قومية ويسارية واشتراكية, وإسلامية أيضاً، هذه الأخيرة لم تتضح معالمها بعد لحداثة التجربة واختلال ظروفها المحيطة.
لكن في العموم, إخفاقات هذه التجارب وفشلها, الذي يعود بشكل أكبر إلى التفسير الحرفي إن لم يكن البليد لصنمية المعتقد الأيديولوجي لدى أصحاب هذه التجارب, التي ما زال بعضها ماثلاً أمامنا كجثة هامدة, فيما البعض الآخر منها صارت حديثاً تاريخياً للعبرة والاستفادة كالتجربة الاشتراكية في جنوب اليمن سابقاً والتجربة القومية الناصرية في مصر والبعثية في العراق وسوريا, والتي انطلقت جميعها عن رؤية علمانية معادية ومؤدلجة في نظرتها للدين والمجتمع.
على الطرف المقابل فإن التجربة السياسية في الحكم لما بات يعرف بمدرسة الترابي الإسلامية في السودان ذات المرجعية الإسلامية, كأول تجربة سياسية إسلامية تصعد إلى السلطة عن طريق الدبابة والبيان رقم واحد - بغض النظر عن طرحها الفكري الرائع -, إلا أنها في الأخير تحسب على الإسلاميين, وفشلها هو فشل لهم، وإن كان التعميم دائماً لا يؤدي إلى حقائق مطردة وقابلة للقياس عليها, ولكنه - أي التعميم - في عالمنا العربي يبقي دليل إدانة, وإن أُثبِت العكس بحكم التراشق الأيديولوجي المسيس بين فرقاء السياسة والأيديولوجيا, يساراً ويميناً.

الأيديولوجيا منطلقاً
في الحالة الإسلامية, يمثل الإسلام شريعة وتجربة تاريخية مرجعية أيديولوجية لكل أصحاب الطرح والمشروع الإسلامي, وهو ما يحدث إرباكاً وإشكالاً فكرياً لا يمكن الفكاك منه في إطار التقوقع الأيديولوجي العقائدي البحت, دون الخروج عن هذه الدائرة الإشكالية التنظيرية إلى المجال الأرحب وهو الشأن الإنساني وتدبير واقعه اليومي. فالشريعة الإسلامية كمرجعية, يسعى الإسلاميون جميعهم نحو تحقيقها, والشريعة هنا بالمعنى العام العائم تعد إشكالية كبيرة, لما يدور من جدل وخلاف كبير حول أحكامها ونصوصها، فهماً وتنزيلاً وتشريعاً, تتباري فيه الكثير من الاتجاهات الإسلامية الفقهية, وهو ما قد يمثل الاختلاف الفقهي حولها نقطة لعدم الاتفاق المرجعي حولها أيضاً في ظل تعددية المجتمعات الإسلامية، فقهياً وإثنياً وعشائرياً.
أما ما يتعلق بالتجربة التاريخية (الخلافة الإسلامية الراشدة) التي ترى فيها الحركات الإسلامية بمثابة الهدف الأسمى الذي يجب العمل من أجل إعادة تحقيقه, وهو هنا طرح لا يخلو من طوباوية ويوتوبية زائدة هي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة والواقع؛ لتجاهل الكثير من التغيرات والتطورات البشرية الهائلة فكراً وممارسة؛ فالتطورات سُنّة إلهية لم يغفلها الإسلام بقرآنه وسنّة نبيه, بل دعا إلى مراعاة هذه السنن والقوانين الإلهية.
ولكن الصنمية الأيديولوجية لدى أصحاب الطرح الإسلامي كغيرهم تأبى إلا أن يستمروا في خيالهم مُحلّقين حول الماضي والحنين إليه, دون محاولة مغادرة هذا المربع الماضوي نحو الحاضر المعاش, وهو ما يلاحظ بشكل واضح في الكثير من أدبيات الحركات الإسلامية, والتي لم تستطع حتى الآن العمل على تلافيه - رغم تحولاتها الهائلة في الواقع السياسي- من أدبياتها التربوية والحركية بين أتباعها ومحازبيها, وهو ما يمثل تسطيحاً ساذجاً للأفكار والحقائق.
فتجربة الإسلاميين السياسية، على حداثتها، فيها الكثير من الأمثلة والعبر على حديّة الطرح الأيديولوجي بل وتغليبه في الخطاب والممارسة على ما سواه, ويتجلى بشكل فاقع في علاقة هذه الحركات مع فرقاء الساحة السياسية التي يحكمها في بعض حالتها الخصام والمفاصلة, والتكفير والتخوين, والذي يتطور في مرحلة لاحقة إلى المواجهة والاقتتال, والكثير من التجارب لا تزال ماثلة أمامنا. وهو - أي هذا الطرح المؤدلج للإسلاميين - استفاد منه خصومهم كثيراً, والذي هو بالأسس ناتج عن حداثة عهدهم بالسياسة التي زهدوا عنها طويلاً, ولم يدركوا خطأهم إلا متأخرين, وفي نفس الوقت لم يصححوه بالشكل المطلوب, تجنباً للاستمرار في الخطأ, بل هناك كما هو حال ما بات يعرف بالسلفية الحركية, من لا زال سادراً في تكرار نفس الأخطاء التي وقع فيها غيره من الإسلاميين.
وكان من نتاج هذا التأخر في العمل السياسي لدى الإسلاميين, ذلك الخلط الواضح بين الدعوي والسياسي في عملهم مما أدى إلى خلط الكثير من المفاهيم وتسطيحها تسطيحاً مخلاً لا يخدم دعوة ولا يصلح لعمل سياسي، فضلاً عن تداخلات واشتباكات الديني بالسياسي, والمدنس بالمقدس, ما خلق نوعاً من الفوضى والفشل في إدارة الواقع الاجتماعي للناس.

آليات الصراع
الصراع الدائم بين الديني والسياسي يتجلى بصور وأشكال شتى, بدأت بالريبة والتوجس التام تجاه كل مسميات ومصطلحات العمل السياسي القادمة من منظومة الحضارة الغربية من قبيل الديمقراطية وأخواتها من الحزبية والانتخابات والترشح والتبادل السلمي للسلطة وحرية التعبير والصحافة والمجتمع المدني إلى ما هنالك من مسميات لم تكن يوماً من نتاج الخطاب الإسلامي. ولم تتوقف هذه الريبة هنا بل أدت إلى تكوين ما يشبه حاجز صد فكري ضدها للوقاية منها، باعتبار أنها موفدات غربية لا حاجة لنا بها، ومن هذا القبيل كان الموقف الواضح من قضية التعددية والحزبية التي حرمها مؤسس المدرسة الإخوانية الأستاذ حسن البنا في النصف الأول من القرن العشرين.
إلا أن هذه النظرة الحدية العقائدية للأمور هي نتيجة طبيعية في الحركات الناشئة وفي مراحلها الأولى التي يغلب على خطابها الجانب العقائدي الأيديولوجي, إلا أنها في مراحلها المتأخرة والتي تصل إليها الحركة لاحقاً بعد مشوار سياسي عصيب تصطدم خلاله الحركة بكل إشكالات الواقع وتعقيداته تصل حينها الحركات إلى مرحلة الاعتدال والنضج الفكري والسياسي، وهو ما بات ملاحظاً في جميع حركات المدرسة الإخوانية التي تؤمن بالديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة. فالمتأمل "للظاهرة الإخوانية" سيجد الفرق الشاسع بين ممارسة هذه الحركة في مراحل التأسيس الأولى وما هي عليه الآن، رغم إشكالات وإعاقات الظروف السياسية المحيطة بها حالياً.
ومع ذلك، يبقي الاختلاف والتباين بين مدارس هذه الحركة وتوجهاتها سمة طبيعية ملازمة للطبيعة البشرية بالأساس, ففي الحالة اليمنية مثلاً نجد الوعي السياسي المبكر لهذه التيار والذي لم يستمر على نفس وتيرة الوعي المبكر المحسوب له, بل على العكس ظل الخلط وعدم وضوح الرؤية السياسية في قضية الجمع بين العمل السياسي والدعوي هي إشكالية حاضرة لديه حتى اليوم, رغم ما قلنا عن حالة وعي متقدم بالنسبة للعمل السياسي والشراكة السياسية مع فرقاء العمل السياسي, الذين خاض مع بعضهم صراعاً أيديولوجياً مريراً بفعل هذا الخلط والتصادم بين الديني والسياسي. وهو - كما قلنا سابقاً - ربما يكون نتيجة طبيعية لإشكالية البيئة الحاضنة التي لا تزال تعاني أمية مركبة بأبجدية العمل السياسي, فضلاً عن الوعي السياسي ذاته, وهذا ليس في اليمن فحسب، بل ربما هو قاسم مشترك لدى إسلاميي العالم العربي كلهم, الذين تميّز عنهم إسلاميو تركيا وماليزيا كثيراً وسبقوهم رغم تتلمذهم على أيديهم, وهو بلا شك راجع إلى البيئة الحاضنة بشكل رئيس.

رؤية مستقبلية
لا شك أن حداثة التجربة السياسية للإسلاميين كانت وراء كل هذا التخبط والخلط الواضح لديهم بين الديني والسياسي, إلا أن قساوة الواقع السياسي المستبد، ومرارة التجربة قد أدت إلى ما يشبه حالة من الوعي غير المدروس لديهم, والذي تفتق عن حالة من المراجعة الغير منهجية التي تقترب من برجماتية العمل السياسي منها إلى حقل المراجعة الفكرية. وهو ما تجلي من خلال حالة شبه المصالحة بين هذه التيارات ومحيطها الفكري والسياسي والاجتماعي وخاصة في ظل نجاحات إسلامية هنا أو هناك تفرض عليهم مزيداً من الحكمة والتعقل, بل مزيداً من العمل السياسي الجاد البعيد عن تعقيدات وإشكالات النظرة الحدية المؤدلجة لفرقاء الساحة السياسية.
لا شك أن هول الاستبداد السياسي الجاثم على صدور المجتمعات العربية كان عاملاً رئيسيا في مراجعة الإسلاميين لتصوراتهم ورؤاهم السياسية التي تقتضي بعدها عن التوصيف العقدي الاجتهادي، الذي لم يعد صالحاً لمرحلتنا الراهنة لغياب الكثير من المفاهيم والقيم التي كانت موجودة حينها ولم تعد موجودة الآن. هذا من جانب, ومن جانب آخر حجم التطورات في حياة الناس والمجتمعات التي تتطلب اجتهادات جديدة وفقه جديد بعيد عن الفقه التقليدي لمجتمعات الدولة العباسية والأموية, في ظل عصر العولمة والمعلومة والعلمانية والحداثة وما بعدها.