مجلس التعاون الخليجي: محاولة للتقييم ونظرة إلى المستقبل
الأحد, 31-مايو-2009
أحمد يوسف أحمد - في الخامس والعشرين من هذا الشهر منذ ثمانية وعشرين عاماً أُعلن عن إنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية. كانت الظروف في ذلك الوقت بالغة الخطورة، سواء من المنظور العربي عامة أو الخليجي خاصة، فقد كان النظام العربي آنذاك يشهد أخطر انقسام بين مصر والدول العربية بسبب السياسة المصرية الجديدة التي دشنها الرئيس أنور السادات اعتباراً من عام 1977 تجاه الصراع العربي-الإسرائيلي، أما منطقة الخليج فقد شهدت في العامين السابقين على نشأة المجلس تطورات بالغة الأهمية كان أولها وأبرزها نجاح الثورة الإيرانية في فبراير1979، وتبنيها منطق تصدير الثورة، ثم التدخل السوفيتي في أفغانستان في ديسمبر من العام نفسه، والذي أعطى صدقية أكبر للمقولات الغربية عن التهديد السوفييتي لأمن الخليج، ثم نشوب الحرب العراقية-الإيرانية في سبتمبر 1980 كأحد أهم تداعيات الثورة الإيرانية. ولم تكن الحرب في حد ذاتها خطراً على دول مجلس التعاون الخليجي، بل على العكس، فقد كان تورط القوتين الأكبر في الخليج في ذلك الوقت في صراع عسكري آلية مناسبة من وجهة نظر بعض المراقبين لتحييد خطرهما معاً على الدول الأصغر في المنطقة، لكن مشكلة الحرب أنها مثلت تهديداً للاستقرار الإقليمي، وللرفاهة الاقتصادية لدول الخليج العربية لأن تجارة النفط، سواء عبر مضيق هرمز أو الأنابيب الناقلة، كان من الممكن أن تتأثر على نحو كارثي بمجريات الحرب. كما أن تطورات الحرب كان من شأنها أن تمتد إلى دول المنطقة إما على سبيل الخطأ أو من قبيل الانتقام الإيراني من دول المجلس بسبب تأييدها المادي والمعنوي للعراق.

في تلك الظروف نشأ مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وعلى الرغم من أن وثائقه الأساسية لم تشر صراحة إلى وظيفة أمنية للمجلس، فإن وجود هذه الوظيفة كان يمثل في حينه أولوية واضحة، وقد أحدثت نشأة المجلس ردود فعل عربية حذرة أبدت خشيتها من أن يكون نقطة بداية لعزلة خليجية عن النظام العربي، وبداية تكون هوية خليجية على حساب الهوية العربية، ولاسيما أن النظام الأساسي للمجلس ليس به حرف عن اكتساب العضوية. وكان العراق بالذات مستاء من عدم دعوته إلى المشاركة في المجلس، وهو مطلب مشروع بطبيعة الحال لولا أن الاستجابة إليه كان من شأنها أن تخل بالتجانس القائم بين الدول المؤسسة.

واعتباراً من عام 1989 انتهت هذه الريبة العربية بعد أن امتدت ظاهرة التجمعات الفرعية عبر أرجاء الوطن العربي؛ فأنشئ في شهر فبراير من تلك السنة تجمعان جديدان هما مجلس التعاون العربي وضم كلاً من العراق ومصر واليمن والأردن، والاتحاد المغاربي وضم كافة الدول العربية في شمال أفريقيا عدا مصر، وجنباً إلى جنب مع هذه التطورات بدأ بروز تيار فكري يجاهر بأن هذه التجمعات تمثل نداء المستقبل العربي، وأن النهج العربي الشامل لتحقيق الوحدة قد أخفق، ليحل محله نهج التجمعات الفرعية القادرة على أن تحقق وحدتها على نحو أيسر من تحققها على الصعيد العربي الشامل.

والواقع أن هذا القول لم يكن صحيحاً بالضرورة؛ فالتجمعات الفرعية باستثناء مجلس التعاون لدول الخليج العربية كانت تعاني مما يعانيه النظام العربي ككل من عدم تجانس في البنى والسياسات، فانفجر مجلس التعاون العربي من داخله بفعل ألغام الغزو العراقي للكويت عام 1990، نتيجة التباين الحاد بين السياستين المصرية والعراقية، وتجمد الاتحاد المغاربي منذ نهاية 1995 كأحد تداعيات النزاع المغربي-الجزائري بشأن قضية الصحراء، ولم يبق في الساحة سوى مجلس التعاون الخليجي.

لكن صمود مجلس التعاون لدول الخليج العربية بمعنى بقائه في الساحة وانتظام انعقاد مؤسساته شيء، وتحقيقه الفاعلية شيء آخر، وثمّة خطوط ثلاثة رئيسية يمكن أن تبدأ محاولة قياس فاعلية المجلس وفقاً لها، وهي الخط السياسي والأمني الاستراتيجي والاقتصادي.

أما الخط السياسي فيمكن القول بأن المجلس لم يستطع حتى الآن أن يبلور موقفاً موحداً، أو حتى متناغماً، تجاه بعض القضايا السياسية الكبرى التي تجابهه، وإذا بدأنا بواحدة من أهم هذه القضايا، وهي تلك المتعلقة بالعلاقة من إيران، سنجد أن المواقف متباينة داخل المجلس ما بين اعتبار إيران عدواً أو خصماً لا شك فيه، أو اعتبارها صديقاً أو صديقاً محتملاً على الأقل. ويستند أصحاب وجهة النظر الأولى إلى الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية الثلاث، والنفوذ الإيراني الممتد في العراق بعد الاحتلال الأمريكي منذ 2003، ومخاطر البرنامج النووي الإيراني على أمن دول المجلس، والأطماع الإيرانية في البحرين التي تبرز مؤشراتها من حين إلى آخر في تصريحات هذا المسؤول الإيراني أو ذاك، أو في كتابة مقال في الصحف شبه الرسمية، فيما يشدد أصحاب وجهة النظر الثانية على القواسم المشتركة، وعلى أن خير طريقة لتحييد خطر إيران، إن وجد، هي التعاون معها في إطار خليجي.

وفيما عدا الخلاف داخل مجلس التعاون حول "الخطر الإيراني" يوجد عدد من قضايا الخلاف الأخرى، كالموقف من العلاقة مع عراق صدام حسين بعد تحرير الكويت، ومن قضية التطبيع مع إسرائيل، والخلاف حول الموقف من المقاومة والقمة الاستثنائية التي اقترحتها الدوحة لمواجهة العدوان الإسرائيلي على غزة في نهاية 2008 ومطلع 2009، ناهيك عن الخلافات الثنائية بين عدد من الدول الأعضاء، والتي احتاج واحد منها إلى محكمة العدل الدولية للفصل فيه. وقد يقال إن الاتحاد الأوروبي نفسه الذي يعتبر أنجح نماذج التكامل في التاريخ المعاصر لم يستطع حتى الآن أن يبلور سياسة خارجية مشتركة، فلماذا نطالب مجلس التعاون الأحدث منه عمراً بذلك؟ وهو قول صحيح، غير أن الاتحاد الأوروبي نجح في تحييد أثر الخلافات السياسية بين أعضائه في عملية التكامل الاقتصادي، وهو أمر لا يبدو متحققاً في حالة مجلس التعاون الخليجي.

وثمّة قصور أكبر دون شك في المجال الاستراتيجي الأمني. صحيح أن الوثائق المنشئة للمجلس لم تتحدث بحرف عن تكامل دفاعي بين دول الخليج العربية، لكن التحديات الهائلة منذ نشأته وحتى الآن تستدعي هذا التكامل، وقد كانت لعُمان مبادرتها بشأن إنشاء قوة دفاعية، لكنها لم تقابل بحماسة من الدول أعضاء المجلس. وهناك من لا يعترف أصلاً بجدوى وجود قوة دفاعية خليجية في ظل الخلل الكبير في ميزان القوى بين الدول التي تمثل مصادر للخطر من ناحية والدول الأعضاء في المجلس من ناحية أخرى. والواقع أن هذا القول صحيح وغير صحيح في الوقت نفسه، فهو صحيح إذا كان أحد يتصور أن الحديث يقصد به الاكتفاء الذاتي الدفاعي من قبل الدول الأعضاء في المجلس، وغير صحيح إذا اعتبرت هذه القوة جزءاً من منظومة دفاعية شاملة يكون للقوة الخليجية فيها دور المتصدي للعدوان، وإيقاف تقدمه حتى تأتي نجدة الحلفاء.

وأخيراً فإن الخط الاقتصادي يحتاج إلى متخصص حتى يقيّم أداء المجلس عبر ثمانية وعشرين عاماً، ومع ذلك لا يستطيع المثقف غير المتخصص أن ينحي جانباً هواجسه بشأن تعثر مسيرة التكامل الاقتصادي بين دول المجلس، وإذا قارنا المجلس بالاتحاد الأوروبي نلاحظ أن السنوات العشر الأولى من عمر الاتحاد (وهي تساوي في حالة مجلس التعاون المدة من 1981 إلى 1991) قد شهدت نقلة كبرى في اتجاه إقامة اتحاد جمركي، وأنه قد تم الانطلاق بعد ذلك مباشرة إلى إقامة سوق مشتركة وصولاً إلى الاتحاد النقدي الذي يمكن القول بأن المجلس غير متخلف عن الإيقاع الأوروبي فيه، على الرغم من التعثر الأخير الذي أصاب جهود التوصل إلى عملة خليجية موحدة بانسحاب الإمارات من هذه الجهود، لتكون الدولة الثانية التي تنسحب بعد عمان؛ إذ لم يتم إقرار خطة التوصل إلى نظام نقدي موحد للاتحاد الأوروبي إلا في عام 1991، أي بعد قرابة ثلث قرن من معاهدة روما، وهو ما يعطي الأمل في إمكانية تجاوز عقبات التكامل الاقتصادي بين دول مجلس التعاون الخليجي إن توفرت الرؤية السليمة.

يعني ما سبق أن ثمّة حاجة حقيقية وملحة إلى تفعيل مجلس التعاون لدول الخليج العربية وهو يقترب من ثلث القرن عمراً، إذ لا يمكن القول بأن المجلس قد بلور حتى الآن رؤية سياسية مشتركة تجاه القضايا الكبرى التي يواجهها، وهي رؤية ضرورية من ناحية أخرى لتحقيق التكامل في مجالي الدفاع والاقتصاد اللذين رأينا أن درجة الإنجاز فيهما لا ترقى إلى مستوى التحديات التي تحيط بمنطقة الخليج العربي. ولكي يحدث هذا التفعيل لا بدّ، من ناحية، من ضمان أن يكون توزيع الأعباء والمنافع مرضياً لكافة أعضاء المجلس، وذلك حتى نضمن درجة كافية من الحماسة لدفع مسيرته قدماً، ومن ناحية أخرى، أن يُعمق البعد العربي للمجلس، وليس المقصود بذلك ضم دول جديدة إلى عضوية المجلس قد تقلل درجة التجانس القائمة فيه، وإنما من خلال اعتبار النظام العربي عمقاً سياسياً ودفاعياً واقتصادياً، إذ إنه بدون ذلك لن يكون ممكناً أن يتم التصدي الفعال للتحديات والمخاطر وعلى رأسها معضلة العلاقة مع إيران.