الوعي التنموي والرخاء
السبت, 16-مايو-2009
د. محمود عمر محمد - الوعي التنموي يتشكل من منظومة قيمية فاعلة، يطلق عليها قيم الحداثة والثقافة المدنية بما فيها رأس المال الاجتماعي والتي تكون الثقافة التقدمية، وبين التنمية والتغيير كمطلب إنساني ملح يفرض نفسه على المجتمعات التي تسعى إلى تحقيق حياة أفضل تتسم بالنمو والرخاء.

فالتنمية المجتمعية لها شروط اجتماعية، فهي بحاجة إلى فاعلين على درجة عالية من الثقة والشفافية. وهي بحاجة إلى مجموعة من القيم والمعايير الحداثية. وهي بحاجة إلى أن يدرك الفاعلون الأفراد وجود بعضهم البعض وأن يكونوا قادرين على خلق شبكات اجتماعية تتخطى حدود العائلة والقبيلة والعشيرة. وهذا الرأسمال الاجتماعي بدوره رأسمال اقتصادي لأنه يوفر بيئة مواتية للإنتاج والادخار وصناعة الثروة، مع وجود الدافعية للعمل والالتزام الاجتماعي. فالوعي جملة من التصورات والمعتقدات والرؤى التي تعين موقف الإنسان من الحياة وتحدد سلوكه.

ومفهوم الحياة الذي استخدم يشير إلى الجوانب المتعددة لوجود الإنسان؛ حياته الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والجمالية والماورائية، الحياة بوصفها ظهور فاعلية البشر وسلوكهم.

هذه التصورات والمعتقدات والرؤى التي تكون الوعي الإنساني أهم ما فيها أنها تظهر في ممارسة الحياة اليومية للأفراد في مواقفهم من عالمهم المعاش. حيث يحدد الوعي التنموي في ضوء دلالات ذاتية اجتماعية. مثل القيم والاتجاهات والمعتقدات والتوجهات والافتراضات الأساسية التي تشكل ركائز لما هو سائد بين الأفراد داخل المجتمع.

ولكن ألا نفترض في ظل العولمة والحداثة بان هناك تأثيرات كونية. وأن العالم يشهد أزمة عميقة الجذور تجسدها حالة السيولة الفكرية. حيث جفت ينابيع التقليد بكل معانيه وأزمانه. وتداعت أركان النظم والنظريات المطلقة والأنساق الفكرية الجامدة.

وفي ظل حالة السيولة الفكرية يلتمس الفرد– المجتمع طريقه للخلاص هنا وهناك. ولكن في إطار من الشك وعدم اليقين. ويتجلى ذلك واضحا في العديد من النزعات الفكرية الموسومة بالبعدية مثل ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية وما بعد الاشتراكية..إلخ. وكلها تعني الانصراف عن ماض أي التقليد إلى مستقبل غير محدد المعالم والطرق. ومن ثم فإن الذات أو الوعي في المجتمعات غير الغربية يفترض أنها تتأثر بالتغيرات السريعة التي تسم هذه الحقبة.

وبذلك فإن الوعي والذات الموجودة خارج المجتمعات الغربية تعاني من نفس المشكلات، وتعايش نفس الظروف وتتحلى بنفس القيم الكونية. إن هذه النتيجة تبدو منطقية في ضوء الحديث عن الثقافة الكونية وعن تأثيراتها التي ليس لها حدود، ولكن هل الذات الفاعلة في المجتمعات غير الغربية تحمل نفس القيم المدنية الحداثية التي فرضتها فترة الحداثة؟ قد يكون هذا السؤال هو لب الإشكالية في وصف الوعي التنموي " الوعي بالحداثة".

ولكن مع ذلك ومع ما تخبرنا الممارسات اليومية للأفراد بأن الذات الفاعلة في المجتمعات غير الغربية أسيرة ظروف خاصة تولد فيها سمات وآليات خاصة. إذ نفترض وجود ثقافة عالمية للتقدم. حيث تخلق نفس قيم السلوك الاقتصادي والاجتماعي، أيا كان أصلها، الازدهار في خلفيات جغرافية مناخية وسياسية ومؤسسية وبالطبع ثقافية مختلفة على نطاق واسع. فعلى حد علمنا، لا علاقة للجينات بالثقافة. ففي حين أن التغير الثقافي ليس مقترحا بسيطا ولا سهلا، فهو يحدث بشكل دائم في جميع أنحاء العالم، ولا يوجد سبب يستدعي أن تكون "قيم التقدم العالمي" بعيدة المنال لأي مجتمع إنساني. أو بمعنى آخر ما اصطلح على تسميته بالرأسمال الاجتماعي والذي يتكون من:

1- علاقات وشبكات يقيمها الأفراد لتحقيق أهداف معينة مثل النقابات ومؤسسات المجتمع المدني وغيرها من العلاقات والشبكات التي تؤسس لحياة مدنية.

2- منظومة قيمية تأتي على رأسها قيم الثقة والشفافية وتقبل الآخر. والرغبة في التعاون والمخاطرة والعقلانية وغير ذلك من قيم الحداثة. والحقيقة أن فهم هذه المصادر بمعزل عن سياقها السلوكي يحولها إلى أطر مثالية يقاس عليها السلوك الفعلي للأفراد.

وفي هذه الحالة لن نتجاوز كثيرا نظريات التحديث التي تفترض مجموعة من القيم المثالية المشتقة من الثقافة الغربية. وتؤسس لتحديث يصبو للوصول إلى هذه القيم. أما إذا اندمجت في إطار سلوكي فيمكن أن نكتشف جوانبها الإيجابية والسلبية. وأن نوسع من مفهوم الشبكات الاجتماعية ليشمل الشبكات التقليدية. ونوسع مفهوم القيم ليشمل القيم السلبية التي تهدر رأس المال الاجتماعي.

إن "الثقافة" محدداً مهما لقدرة الأمم على التقدم؛ لأنها تصوغ أفكار الأفراد عن الثقة والمخاطرة والجزاء والفرصة والإبداع انطلاقا من أن القيم الثقافية مهمة يقينيا في عملية التقدم البشري؛ لأنها تصوغ طرائق التفكير للمرء بشأن التقدم. وتشكل المبادئ الأساسية التي ينتظم حولها النشاط الاقتصادي. وبدون النشاط الاقتصادي يغدو التقدم مستحيلا. فالتقدم الاقتصادي يعتمد على تغير أسلوب الناس في التفكير بشأن خلق الثروة والرخاء.

ومعنى هذا تغيير الأسس المتمثلة في المواقف والمعتقدات والافتراضات التي صاغت قرارات صانعي السياسات والقيادات؛ والتي كان حصادها أداءً اقتصاديا بائسا. ومن هنا مال علماء المعرفة إلى محاولة فهم التصورات الذهنية التي يدرك من خلالها وفي إطارها الأفراد معنى العالم. وهذه هي البداية التي يجب أن ندركها في إحداث التغيير. وقد أطلق على هذه التصورات اسم "النماذج الذهنية" التي تعرف" بأنها افتراضات أو تعميمات أو حتى صور وتخيلات عميقة الجذور وتؤثر على كيفية فهم العالم. وكيف نتصرف إزاءه "؟

فتغير الثقافة هو تغير على المستوى الكلي، ولكن تغيير النماذج الذهنية هو على المستوى الجزئي، ويصدق تطبيقه على الأفراد والجماعات، فالثقافة تعكس جماع النماذج الذهنية الفردية، وتؤثر بدورها على هذه النماذج الذهنية لدى الأفراد، ويرتبط الاثنان داخل منظومة دائمة التطور، حيث إن النقطة الأساسية بالنسبة للقوة الدافعة والفعالة لخلق التغير يمكن أن تساعد على تغير النماذج الذهنية على المستوى الفردي بداية بأسلوب الفرد في التفكير بشأن حياة أفضل؛ وهذه علاقة مهمة بين النماذج الذهنية وتحقيق التقدم والرخاء، ولكنها لا تفترض بالضرورة تجانسا على ثقافة كوكبية واحدة، لأنه يمكن أن يكون هناك اقتصاد واحد وثقافات أو حداثات متعددة، مع وجود قيم عالمية للتقدم والرخاء، والواقع أثبت ذلك من خلال بعض التجارب التنموية في العالم.

لقد مثل هذا الإطار الفكري الجديد، والذي يركز على نظرية الاستبطان للواقع أو النظر إلى باطن الواقع، بتركيزه على القيم والمواقف الثقافية، رد فعل على التفسير الذي تمثله نظرية الاعتمادية Dependency Theory أو ما يعرف بنظرية "التبعية" في تفسير ظاهرة التخلف والتنمية. حيث كانت دول أمريكا اللاتينية تحمل فيها دور الريادة في التعبير عن هذا الإطار الفكري. ولكن بعد حدوث تجارب عديدة ناجحة، وخصوصاً في دول شرق آسيا، انقلب التفسير العلمي إلى التركيز على الثقافة. وأصبح رواد اتجاه نظرية التبعية يواجهون اليوم السؤال التالي: إذا لم تكن نظرية الاعتمادية والإمبريالية مسئولتين عن تخلفنا الاقتصادي. وعن تقاليدنا السياسية. وعن المظالم الاجتماعية المفرطة. فمن المسئول إذن؟

إن علاقة النماذج الذهنية بالعوامل الديموجرافية والجغرافية. أو المهنية كانت ضعيفة، بل أيضا العلاقة بالمعتقدات الأساسية والافتراضات والمواقف إزاء موضوع التغيير وخلق الثروة. فالثقافة مهمة وتوليد العمل على صعيدها مهمة جبارة أيضا.

فالعمل على تغيير النماذج الذهنية التي تصوغ أفكار الأفراد والجماعات أمر ممكن ومهم ودعامة أساسية للتغيير؛ حيث إن الأفراد غالبا ما يقبلون الحجج العقلية؛ ويتفهمون حاجتهم إلى التغيير، ويعربون عن التزامهم بعمل التغيير. ولكنهم بعد ذلك يلوذون بما هو مألوف. وهذا الميل للردة إلى المألوف ليس خاصية ثقافية في ذاتها؛ وإنما هو مؤشر يكشف عن بعض التحديات الأعمق التي يواجهها الراغبون في دعم رؤية مختلفة وأكثر ازدهارا عن المستقبل. ولكن هنا يثور سؤال هل يعني ذلك أن الشعوب النامية لكي تحقق التغيير وتتلاءم مع الاقتصاديات المتقدمة مطالبة بتغيير ثقافتها؟

الإجابة على هذا السؤال بالتأكيد صعبة. ولكن حتما لها علاقة بالثقافة. وذلك لا يعني محوها أو تغييرها؛ لأن الواقع أثبت إمكانية تحقيق اقتصاد متقدم بثقافات متعددة.

فالمحور المهم يتركز حول توزيع منظومات المعتقدات الفردية من حيث علاقتها بأبعاد التغير. وإحدى الخطى المهمة لضمان التقدم البشري في توجيه الجهود لخلق وعي تنموي من خلال فهم وتحديد النماذج الذهنية. ومحاولة تغيير رؤيتها للعالم. وغرس قيم ونماذج وتصورات حداثية تحدث التقدم والرخاء. وتجيب على الأسئلة حول كيف تتخذ قراراتك؟ وكيف تخاطر؟ وكيف تبدع بشكل حداثي ومتقدم؟.




المصدر: العرب أونلاين