أميركا في القرن الحادي والعشرين: أن تعيش لِتُُهَيمِنْ!
السبت, 09-مايو-2009
محمد سيف حيدر - هذا الكتاب كما يذكر مؤلفه أناتولي أوتكين، العالم الروسي البارز في مجال الدراسات الأميركية، وكما هو واضح من عنوانه، مُكرّس "لتقييم الإستراتيجية الأميركية في القرن الحادي والعشرين"، وذلك من منظور باحث روسي يقلقه وضع ومكانة بلاده في عالم ما بعد الحرب الباردة الذي تعد الأحادية القطبية من أبرز مزاياه. ومن ثمّ فإن هذا التقييم يركز - بشكل أساسي- على تحليل أسس الاستراتيجية الأميركية وموقع روسيا في هذا الإطار من نواحٍ عدة: لعلاقات الثنائية، الدور الإقليمي لروسيا والقضايا الإقليمية المتعلقة بهذا الدور، المحور الأطلسي ومشكلات التحالف، التنافس في آسيا، والإشكاليات الجوهرية المتعلقة بديمومة الزعامة الأميركية في المنظومة العالمية. 

يرى المؤلف أن الولايات المتحدة، على الرغم من انتصارها الواضح في الحرب الباردة، والذي كان من المفترض أن يلقي عن كاهلها عبء القيام بدور الشرطي العالمي الذي تركزت مهمته الرئيسة في مواجهة "عدوانية" روسيا السوفيتية، غير أن هذا لم يحدث. ولم يخلق زوال الاتحاد السوفيتي من الوجود لدى واشنطن تحولات مشابهة؛ فالولايات المتحدة لم تغلق حلف الناتو، ولم تسحب وحداتها من ألمانيا أو كوريا الجنوبية أو اليابان، ولم تعد إلى سواحلها الأساطيل المتحكمة في بحار العالم، ولم تخفض ميزانيتها العسكرية، كما أن هذه الدولة التي تعترف بنفسها أنه لا يوجد من يهدد وجودها، وإن باغتها بعض المتعصبين بضربات قاسية في عقر دارها، تمتلك شبكة جبارة من القواعد في مختلف أنحاء الكرة الأرضية. 

وإذا كان من الصعب إعادة تقييم إمكانات القوة لدى الولايات المتحدة، إلا أنه يمكن ببساطة القول أن أميركا في الوقت الراهن تؤثر تأثيراًً بالغاً في السياسة الدولية، أكثر من أي دولة أخرى في التاريخ، وحتى أكثر المتشائمين تحفظاً، كما يشير المؤلف، يعترف بأن الظروف المواتية على نحو لا يوصف تضمن لأميركا عشرين عاماً من الزعامة دون جدال. ولا يملك أحد من علماء المستقبليات أن يتنبأ بما سيحدث لاحقاً، ولكن لا يوجد أساس للتشكيك في أن القرن الحادي والعشرين وليس الذي قبله، هو بحق قرن أميركا. 

وفي هذا السياق، يستعرض المؤلف آراء العديد من المفكرين الأميركيين كدافيد كاليلو ومايكل أوهانلون وتشارلز كرواتهامر وجوزيف ناي الذين أدركوا "الأحادية القطبية لعالم الغد" وما فتئوا يؤكدون حتمية وضرورة القيادة الأميركية للنظام العالمي الجديد. وبغض النظر عن هذه التحليلات والمقولات المغرقة في حتميتها، يذهب المؤلف إلى أن ثمة أمر واحد على أقل تقدير أضحى واضحاً، وهو أنه بدءاً من ظهور الولايات المتحدة على العالم بشكل حقيقي في عام 1942 لم يكن هناك أحد في هذا الكوكب بإمكانه بالفعل أن يقف في مواجهتها، وبالتالي أن يقف في وجه استراتيجيتها المحددة والحاسمة، والتي كانت تمتلك مزية البساطة ووضوح الهدف الذي تمثل في: "الهيمنة على العالم". لقد استخدمت هذه العبارة بشكل رسمي للمرة الأولى عام 1950 في الوثيقة الرئيسة للحرب الباردة والمعروفة باسم HCK68، ومنذ هذا التاريخ دأب آخرون – وعلى نحو أكثر دقة- في وصف هذه الاستراتيجية، التي كانت الحرب الباردة مجرد مشهد من مشاهدها. وهذا يعني ببساطة أن أميركا كانت ستخرج، سواء في وجود الاتحاد السوفيتي أو من دون وجوده، إلى الفضاء الجيوبوليتيكي العالمي، ولم يكن اختفاء هذا الخصم العنيد الواضح ليغير من جوهر نظر أميركا إلى العالم ودورها فيه. 

لقد أدرك الرؤساء جورج بوش (الأب)، بيل كلينتون، وجورج بوش (الابن) هذه الحقيقة تمام الإدراك، وأكدوها جميعاً – قولاً وفعلاً- عبر العديد من السياسات التي هدفت في مجملها إلى الحفاظ على وضع الولايات المتحدة بصفتها الدولة العظمى الوحيدة و"التي لا يمكن الاستغناء عنها" بحسب التعبير الشهير لمادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة.
ولكن ما الأدوات التي يستخدمها الأميركيون من أجل تحقيق أهدافهم (يتساءل المؤلف)؟، ويجيب من خلال استعارة وزيرة الخارجية السابقة أولبرايت، التي تعدد هذه الأدوات على النحو التالي: "المنطق البسيط، الحوافز الاقتصادية، المساعدة الفنية، المعاهدات الجديدة، تبادل المعلومات، استخدام القوة، التهديد باستخدام العنف، المقاطعة، التهديد بالمقاطعة، وأي تركيب من الأدوات السابق ذكرها". 
أما فيما يتعلق بالمنافسين الأقوياء لأميركا، فإن أولبرايت ترى من الضروري تحذيرهم: "إن زعماء العالم الذين يصرون على أن العالم ما يزال –أو يجب أن يستمر- متعدد الأقطاب، عليهم أن يراعوا أن دورهم الخاص ينبغي أن يتفق والمسؤوليات الملقاة على عاتقهم... فالتحالفات الفعالة ليست خياراً، وإنما تأتي تحقيقاً لزعامة الولايات المتحدة الأميركية". 

إن واشنطن تفكر في القرن الحادي والعشرين، عندما يصبح الصراع على الموارد الطبيعية أشد ضراوة، وعندما يتحول 60% من سكان المعمورة إلى سكان للمدن، وعندما تصبح 90% من نسبة زيادة السكان في العالم بسبب سكان العالم النامي، الساعي إلى تجاوز التخلف والقضاء على الأوبئة والانفجار السكاني. وإذا كان دخول القرن الحالي، يعني للولايات المتحدة، بشكل رئيسي، ثبات الأحادية القطبية واستقرار لحظة هيمنتها على النظام الدولي، وهي الهيمنة التي تجد لها أنصاراً كثيرين بداخلها ممن يشعرون بالغبطة والرضا لهذا الأمر، غير أن المؤلف يلفت أنظارنا إلى أن هذا الشعور – في الحقيقة- لا يغمر الجميع في الولايات المتحدة، إذ أن الهيمنة الأميركية –ببساطة- لا يمكن أن تستمر بلا نهاية. إن نصيب الولايات المتحدة في الإنتاج العالمي، وبالتالي تأثيرها العالمي، سوف يبدءان في التراجع حتى لو تجاوز الاقتصاد الأميركي أزمته العميقة الحالية، وهذا يعني بدوره: إن مرحلة الأحادية القطبية لا يمكن أن تستمر طويلاً. وفي هذا السياق، يشير أوتكين إلى وجود ظاهرتين تهددان زعيمة العالم– المحظوظة: تعاظم الطامحين إلى نيل لقب "الدولة العظمى"، وفقدان الاستقرار (الفوضى) في أهم مناطق العالم ذات الأهمية الاستراتيجية. 

واستطراداً، يُبين المؤلف أن تحديد هوية المنافسين المحتملين للولايات المتحدة في عالم ما بعد الحرب الباردة، أصبح واحدة من المهام الرئيسية المطروحة أمام علم السياسة الأميركي. وقد لقيت آراء الأميركيين بشأن القدرات المختلفة للدول تأثيراً متبايناً؛ فها هو صامويل هنتنجتون أحد أبرز المواهب الأميركية، والذي توفي قبل أسابيع قليلة، يلفت الانتباه منذ عقد ونصف من الآن إلى "صدام الحضارات"، بينما راح ب. تشويت وأ. لوتفاك يبحثان عن منطقة الصراع في التطور الآسيوي. أما س. إيمرسون فقد ركز جهده على قضية الإسلام الأصولي. وفي الوقت نفسه فقد رأى عدد كبير من المنظرين أن الصين الناهضة تمثل القوة العالمية الموازنة. ويؤكد ريتشارد هاس أن التهديد لا يكمن في شخص بذاته، وإنما في اندفاع الأحداث وعدم القدرة على التنبؤ بالتطور العالمي. ويعتبر بريان إيتوود مدير وكالة التنمية الدولية إن الفوضى السائدة في العالم الثالث قد احتلت مكان الشيوعية باعتبارها التهديد الأكبر للولايات المتحدة الأميركية. وفي المقابل، يحدد أنطوني ليك مستشار كلينتون لشؤون الأمن القومي، المرشحين لدور الخصوم المحتملين على النحو التالي: "إنهم القوميون المتطرفون والمتعصبون القبليون والإرهابيون وأصحاب الجريمة المنظمة والمتآمرون، الذين لا يضعون اعتباراً لجيرانهم من الدول الأخرى، وكذلك كل من يود لو أن الدول التي نالت استقلالها قريباً عادت إلى ما كانت عليه". وبناءً على هذا التعريف الواسع للعدو المحتمل، فإن مقاومة هذا العدو واتخاذ إجراءات الضمان اللازمة تتطلبان عولمة السياسة الخارجية وفرض الهيمنة على كل مكان في العالم، ويتساءل رونالد ستيل: "من الذي لا يمكن اعتباره عدواً للولايات المتحدة الأميركية على ضوء هذا التعريف الفضفاض للعدو المحتمل؟". 

إن عدداً قليلاً من أقطاب السياسة العالمية هم الذين يملكون قوة عسكرية واقتصادية وسياسية مشابهة. وبطبيعة الحال فإنه ليس بمقدور كل منافسي أميركا أن يصبحوا مرشحين لأداء دور المنافس الحقيقي لها. إن قادة المؤسسة السياسية مقتنعون أن عالم المستقبل سوف يضم بين جنباته أربع دول فقط يمكنها، على ضوء ظروفها الملائمة، الخروج من دائرة الوصاية الأميركية، وتوسيع نطاق نفوذها الخاص والتحول بذلك إلى مركز يتمتع بالاكتفاء الذاتي، وهذه الدول الأربع هي: ألمانيا (وإجمالي إنتاجها 2.2 تريليون دولار)، اليابان (4.3 تريليون دولار)، الصين (تريليون دولار)، روسيا (نصف تريليون دولار). 

وأياً كان الأمر، يشدد المؤلف على أن التاريخ يعلمنا أن الزعامة والهيمنة يولدان حتماً المقاومة. وهناك ثلاثة عوامل بإمكانها أن تجعل من أسس الجبروت الأميركي أسساً قابلة للاهتزاز:
أولاً: أنه ليس من طبيعة الدول ذات السيادة أن تضع أمنها في أيدٍ غريبة، وأن وجود قوة عظمى واحدة، في النتيجة، يحفز الخوف لدى الدول المحيطة، وأن أصدقاء اليوم ليسوا بالضرورة هم أصدقاء الغد، فالدول المستقلة تسعى لتأمين مستقبلها لا بإعلان نيتها على الملأ، وإنما بتقدير عوامل القوة الكامنة في الأفعال والسياسات. وإذا كانت النيات متقلبة فالقوة تظل دائماً على ما هي عليه.
ثانياً: أن إصرار الأميركيين على دفع ثمن مقابل بقاء الولايات المتحدة دولة عظمى (مادياً وبشرياً) يمكن أن ينتابه الضعف، وهو ما يبدو جلياً هذه الأيام. فالدور العالمي – بطبيعة الحال- يتطلب إنفاقاً ضخماً للموارد، كما يتطلب تفاؤلاً وفعالية كبيرين، والأميركيون عادة ما يشعرون بعدم الارتياح لكونهم متوحدين مع فكرة أن بلادهم تستغل مكانتها للتدخل في كل شؤون الدنيا، بهدف توطيد أمنها. وبشكل خاص فإن التدخلات العسكرية الأخيرة قد أظهرت بالفعل أن الشعب الأميركي لديه الاستعداد لأن يدفع ثمناً محدوداُ فقط من أجل احتفاظه بالقوة المطلقة. إن لدور أميركا العالمي ثمن، والمواطن الأميركي ودافع الضرائب ليسا على استعداد لدفعه حتى ولو من أجل الهيمنة العالمية. لقد ولى الزمن الذي كان سقوط الضحايا فيه (كل الضحايا تقريباً) كان وراءه ما يبرره.
ثالثاً: أصبحت بلدان العالم الثالث أكثر تمرداً ونزوعاً نحو التحدي، وخاصةً تلك التي تمتلك أسلحة الدمار الشامل، والتي تسمح أحجامها ومؤشراتها الديموجرافية أن تطمح لاحتلال مكانة مهيمنة، ومن ثم فقد أضحت الخصم الرئيسي للوضع الراهن. 

ولكن، هل ستثني هذه العوامل الثلاث الولايات المتحدة من المضي قدماً في "مشروعها" نحو تسيد الساحة العالمية في القرن الحادي والعشرين. نستطيع أن نقول بثقة أنها لن تكبح جماح هذا المشروع؛ قد تبطئه أو تصيبه ببعض الارتباك لكنها بالتأكيد لن توقف التطلع الأميركي إلى جعل القرن الحالي "قرناً أميركياً" بامتياز، ومن ثم ستتركز الاستراتيجية الأميركية للقرن الحادي والعشرين في تحقيق الأهداف التالية:
أولاً: الحفاظ على موقع الزعامة العالمية التي تتمتع به الولايات المتحدة وتدعيم مكانتها كمساهم رئيس في الثورة العلمية التكنولوجية وقوة مسيطرة في منطقة شمال الأطلسي وشرق آسيا.
ثانياً: تحاشي ظهور أي منافس تصعب السيطرة عليه (أو على الأرجح اتحاد من المنافسين) يمكنه مع حلول منتصف القرن الحالي أن ينتزع الصدارة في السباق العالمي من أيدي زعماء الغرب: الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وأسبانيا، ويؤسس عالماً جديداً يتخلف فيه الغرب ولأول مرة منذ خمسمائة عام عن مقعد الزعامة.
إن الجدل العام المحتدم في أميركا ونحن في مطلع الألفية الجديدة يعكس عظمة هؤلاء الذين وصلوا إلى القمر، إلا أنه يعكس أيضاً الشكوك المنطقية التي تساور من ينظر إلى مصير زعماء العالم السابقين عبر التاريخ الذين أنفقوا طاقاتهم وجهودهم الهائلة لتحقيق السيطرة على العالم، وعن شكوك في جدوى وإمكانية التأثير في هذا العالم الذي ينمو على نحو تسوده الفوضى. 

فهل الولايات المتحدة مستعدة لتحمل عبء التضحية أم أن الميل الطبيعي الدائم لتحقيق الذات والاستمتاع بملذات الحياة والمبدأ الأبيقوري سوف يقضي على قوة التقاليد المحافظة وإنكار الذات الذي تميز به الرواد ويمحو آثارهم في إخضاع القارة وتأسيس عالم جديد؛ هؤلاء الرواد والآباء المؤسسين الذي مثلوا طليعة التحول المادي والاجتماعي؟.
إن السؤال الرئيسي هو سؤال الثمن، أي مدى الاستعداد للتضحية وإنفاق الثروات المادية وأرواح المواطنين الأميركيين، فإلى أي مدى سوف تستمر الهيمنة الأميركية المعاصرة، وإلى متى سيظل العالم تابعاً لهذا الزعيم. إن الشعب الأميركي هو أول من يمكنه الإجابة على هذا السؤال.

عنوان الكتاب: الاستراتيجية الأميركية للقرن الحادي والعشرين.
تأليف: أناتولي إيفانوفيتش أوتكين.
ترجمة: أنور محمد إبراهيم ومحمد الجبالي.
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة (القاهرة).