وداعاً عصر الغذاء الرخيص!
الأحد, 06-يوليو-2008
أحمد أحمد مطهر -

يعيش عالمنا، من أقصاه إلى أقصاه، في الوقت الراهن أزمةً اقتصاديةً حادة وخانقة، أدت إلى ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية في دول العالم أجمع وإن اختلفت تأثيراتها وفقاً لمستويات الدخول؛ فالدول ذات الأفراد الأقل دخلاً أكثر معاناة، والدول ذات الأفراد الأكثر دخلاً أقل معاناة، والقاسم المشترك أن الكل يُعاني.
فارتفاع أسعار النفط لمستويات قياسية، وانخفاض سعر صرف الدولار الأميركي أمام العملات الرئيسية والاعتماد على المنتجات المستوردة التي ارتفعت أسعارها، هي الأخرى، بطبيعة الحال، والأحوال المناخية المتقلبة وتأثيرها في المنتجات الزراعية من حيث تدميرها أو تقليل عائدها الإنتاجي، وزيادة عدد سكان الكوكب لاسيما في البلاد الفقيرة التي تنتمي إليها بلادنا "السعيدة" (ولا فخر!)؛ كلها أسباب أدت - بشكل أو بآخر - إلى الارتفاع المستمر للمواد الغذائية، ومن المتوقع أن تظل أسعار المحاصيل الزراعية مرتفعة في عامي 2008 و2009، قبل أن تبدأ في الانخفاض. إلا أن من المرجح أن تظل أعلى من مستوياتها في عام 2008 حتى نهاية عام 2015 بالنسبة لمعظم المحاصيل الزراعية وذلك حسب تقرير أصدره البنك الدولي مؤخراً، والذي يؤكد بأننا بِتنا على أعتاب مرحلةٍ جديدةٍ أهم ملامحها نهاية عصر الغذاء الرخيص وبداية رحلة من المعاناة الشديدة أبرز ضحاياها أولئك المنتمين إلى القاعدة العريضة المكونة للطبقة الوسطى في كثير من البلدان، لاسيما النامية منها، بل وقد تنال من رأس هرم الطبقة الوسطى والمتمثلة في العلماء والباحثين وأساتذة الجامعات والمعاهد العليا وأصحاب المهن المتميزة كالأطباء والمهندسين والقضاة والمحامين، ويبدو واضحاً أن الأغنياء فقط هم الناجون من هذه المحنة.
ومما قد يزيد الأمور تعقيداً والمعاناة اتساعاً التحذير الصارخ الذي جاهر به صندوق النقد الدولي صراحةً في اجتماعه الفصلي الأخير، بأن ارتفاع أسعار المواد الغذائية في العالم قد يؤدي إلى نشوب حروب وصراعات مدمرة وانتشار المجاعة في عدد كبير من الدول. ولا نحتاج إلى أدلة كثيرة حتى ندق ناقوس الخطر مع الصندوق، فبوادر التدهور واضحة للعيان في بلدانٍ شتّى؛ فقد وقعت أحداث شغب وصدامات عنيفة، دافعها الاحتجاج على مظاهر الأزمة الاقتصادية التي لم تعد تُطاق، في كُلٍّ من مصر والكاميرون وساحل العاج والسنغال وإثيوبيا وإندونيسيا ومدغشقر والفلبين وهاييتي الشهر الماضي، وفي باكستان وتايلاند تم نشر الجيش لتفادي الاستحواذ على الأغذية من الحقول ومخازن السلع.
وكاستجابة لهذه التطورات، أطلقت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) "مبادرة مكافحة ارتفاع أسعار المواد الغذائية" لتقديم مساعدات تقنية، ودعم لصياغة السياسات في البلدان الفقيرة التي تضررت من جرّاء ارتفاع أسعار المواد الغذائية، من أجل تمكينها من حماية المزارعين الأشد تعرضاً لتهديد ارتفاع الأسعار ومساعدتهم على زيادة الإنتاج المحلي من الأغذية. وبينما بدأت أنشطة ميدانية على هذا النموذج في كُلٍّ من بوركينا فاسو وموريتانيا وموزنبيق والسنغال، تُخطط المنظمة أيضاً لمساعدة الحكومات في إعداد إجراءات واستراتيجيات مخصصة لزيادة الإنتاج الزراعي الوطني لديها.
ولا شك أن البلدان الفقيرة، كاليمن وغيرها، من أكبر المُتضررين من جنون ارتفاع الأسعار. ويُجمِل رئيس دائرة النظام العالمي للإعلام والإنذار المبكر لدى المنظمة، هنري جوسيراند، الوضع المأساوي لهذه الدول بقوله "إن تضخم أسعار المواد الغذائية قد أحدث أشد الأضرار بحق الفقراء سيما وأن نصيبهم من الغذاء في مجمل مصروفاتهم يُعد أعلى من نصيب السكان الأكثر ثراء. فالغذاء يمثل نحو 10% - 20% من حجم الإنفاق بالنسبة للمستهلك في البلدان الصناعية، وأكثر من 60%- 80% في البلدان النامية التي يُعد العديد منها بلداناً مستوردة صافية للمواد الغذائية".
غير أن الفجيعة الحقيقية والتي لا تُحتمل، كما يراها الفقراء، تكمن في الارتفاع الهائل وغير المعقول في سعر القمح (المادة الغذائية الأساسية لهؤلاء). وتُلخِّص الأرقام التي توردها مذكرة البنك الدولي هول المأساة الحاصِلة؛ فقد ارتفعت الأسعار العالمية للقمح بواقع 181% على مدى 36 شهراً الأخيرة التي سبقت شهر شباط/ فبراير 2008.
ويبقى السؤال الذي قد يُداهم أذهان الكثيرين حاضراً بقوة: من هو الرابح والخاسر في كل ما يحصل أو سيحصل في قادم الأيام، وهل من سبيل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان؟ إن جميع الشواهد تؤكد أن ارتفاع الأسعار يعود بالنفع على الأُسَر التي تعتبر مُنتجةً صافية، وللأسف الشديد فإن معظم الأُسر اليمنية - إن لم تكن كلها - أُسر مستهلكة صافية لذلك فإن نصيبنا من الفقر أعظم وسيتعاظم أكثر ما لم يتغير الوضع الاقتصادي المزري، الذي يُعاني منه مجتمعنا، سريعاً. وهنا تحديداً تظهر أهمية وحيوية الدور المناط بالحكومة من أجل تجاوز المحنة الراهنة؛ فعندما يصل الأمر إلى درجة تهديد رغيف الخبز ولقمة العيش، فإن وقفةً جادةً للمعالجة العاجلة والعمل على كبح الارتفاع الجنوني لأسعار المواد الغذائية الأساسية، تكون ضرورية للغاية وغير قابلة للتسويف أو التأجيل. وفي هذا الإطار، يبدو حتمياً على الحكومة أن تُعيد النّظر في مجمل سياساتها الاقتصادية، وبشكل خاص سياستها المتعلقة برفع الدعم عن السلع الأساسية، والعمل بصورة دءوبة على تطوير الأنظمة الاقتصادية والتجارية لتواكب حجم الطلب المتزايد، وإلغاء الاحتكار في استيراد السلع، وتشجيع المنافسة، وتحقيق الاكتفاء الذاتي بتعزيز الإنتاج المحلي؛ وهي أمورٌ متى تحققت ستُساهم، بلا أدنى شك، في التخفيف من تسونامي الغلاء الذي يعصف بالجميع في كل مكان.