كشف حساب «سياسة المحاور» العربية
السبت, 25-أبريل-2009
محمد سيف حيدر - لا يخفى على مُتابعي وضع المنطقة العربية وحال نظامها الإقليمي أن سياسة المحاور التي تُلقي اليوم بظلالها الثقيلة على المشهد السياسي العربي، لا تخرج عن ما هو مألوف ومعتاد في سيرورة هذا النظام، الذي اقترن ظهوره تاريخياً مع ظهور الجامعة العربية، وزوال الاستعمار وتحرر الدول العربية تباعاً من قبضته العسكرية العاتية، وتوجهها إلى بناء ذاتها كدول حديثة ومقتدرة على مواجهة التحديات على اختلافها، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً..الخ. وقد عرف النظام الإقليمي العربي منذ لحظة نشؤه هذا النوع من الانقسام والتكتل في محاور عبّرت عن نفسها من خلال انقسام العرب، خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بين قوى "تقدمية" وأخرى "محافِظة". وكانت السمة الأبرز لهذا الانقسام تكمن في دخول هذه الدول أو تلك ضمن دائرة الاستقطاب الأيديولوجي الذي ميّز النظام الدولي بين أميركا والغرب والاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية الدائرة في فلكه، وهو استقطابٌ أفرز حرباً عالمية باردةً طويلة استمرت نحو نصف قرن من الزمان. 

إن سياسة المحاور اليوم لا تختلف كثيراً عن سابقاتها بل هي امتداد طبيعي لها، وهي تجلٍّ جوهري ومتواصل للصراع العربي - العربي حول أجندة تبدو في الظاهر عربية خالصة، لكنها في واقع الأمر لم (ولن) تخدم سوى إستراتيجيات القوى الإقليمية والدولية وتوجهاتها بشكل أساسي. والمدهش في الأمر أن توصيف الانقسام العربي الراهن كما هو الحال مع الانقسامات السابقة، وفرز العرب بين قوى "اعتدال" في مقابل قوى "ممانعة" أو "متطرفة"، قد أتى من خارج المنطقة باعتباره فرزاً بين أصدقاء أميركا – القوة الأولى في العالم - وبقية دول الغرب وبين خصومها، وكما في الماضي فقد ساهمت إسرائيل في بلورة هذا التوصيف و/أو التصنيف، والنفخ فيه وترويجه بقوة على الصعيد العالمي. وبالفعل فقد تمكّن الأميركيون والإسرائيليون من تشييد سياسة محاور وتحالفات إقليمية ترتبط بأجندتهم الجيوستراتيجية أولاً وأخيراً. 

ولعل حرب غزة الأخيرة قد عكست ذلك النجاح بوضوح. فعلى سبيل المثال، أشارت وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني، في تصريح لها إبّان الحرب، إلى أن الصراع الدائر في منطقة الشرق الأوسط "ليس صراعاً بين العرب وإسرائيل، بل هو صراع بين قوى الاعتدال وقوى التطرف" فيها. وبالطبع، فإن إسرائيل تقف إلى جانب قوى "الاعتدال" العربية، كما أن أميركا ودول الغرب تشدّ على أيدي هذه الدول كذلك. 

والحال أن هذه المحاجّة الإسرائيلية، المدعومة أميركياً وأوروبياً، قد لقيت أصداءً واسعة النطاق، ضمنية حيناً وسافرة في أحيان أخرى، تؤيد مضمونها وتؤكد عليه. وهكذا أصبح الفرز حاصلاً، وأضحت سياسة المحاور الطابع الغالب على سياسات المنطقة. ففي معسكر "الممانعة"، وبتأييد مطلق من إيران الإسلامية، تقف كلٌّ من سورية وزوائد الدول الشاهرة للسلاح (حزب الله والحركات الفلسطينية المقاتلة). ولهذه القوى جميعاً مواقف واضحة من السياسة الأميركية في المنطقة، وهي ترفض عملية السلام في شكلها الحالي بين إسرائيل والفلسطينيين، وتؤيد إستراتيجية المقاومة المسلحة لـ "تحرير الأرض من الاحتلال". أما معسكر "الاعتدال" العربي فيقف على قمة هرمه دول كمصر والسعودية والأردن وتونس، وتنطوي سياساتها على "تفهّمٍ" للتوجهات الأميركية في المنطقة وإن كانت لا تتفق معها تماماً. 

وما بين كلا المعسكرين تتذبذب سياسات ومواقف لدول أخرى كقطر والإمارات والمغرب والجزائر والسودان واليمن وغيرها، وهي مواقف ليست وليدة قناعة سياسية محددة تؤيد رؤية هذا المحور أو ذاك، بل هي انعكاس مباشر لحاجاتٍ ذاتية وبرجماتية تفرضها إما أجندة السياسة المحلية وهاجس الشرعية المُستدام، أو تعزيز المكانة في ظل التنافس الإقليمي، أو متطلبات الدبلوماسية العامة ومراعاة روح المجاملة إزاء هذا الطرف أو ذاك. 

وفي ظل هذا التنافر يبدو النظام الإقليمي العربي في حالة فوضى شاملة، ربما أكثر من أي وقت مضى، لاسيما وأن العرب قد انقسموا في نظرتهم لما اعتبروه زمناً طويلاً "قضيتهم المركزية" أي قضية فلسطين، والموقف من إسرائيل التي ما تزال تحتل أراضٍ عربية وتهدد الكيانية العربية في الصميم بامتلاكها ترسانة عسكرية هائلة تتضمن المئات من القنابل النووية. 

والثابت أن هذا التنافر، وتلك الفوضى، قد تعززا خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، وانعكسا سياسياً على الوضع العربي برمته وعلى نحو سلبي تماماً تمظهر في شكل حلولٍ توفيقية قابلة للنكوص تارةً، وتارةً في صورة تسوياتٍ غير سويّة وغير مُرضية، كما تبدت تارةً أخرى في صورة نكسات اقتصادية ونزاعات سياسية ما انفكت تتفاقم، واهتراء فكرة التضامن لصالح فكرة التنافس والصراع الشديدين على الاستفراد بمقود القاطرة العربية، بل وتجاوز الأمر أحياناً مجرد التنافس على القيادة وهو ما ألفه النظام الإقليمي العربي طوال تاريخه، إذ أن التنافس كان يتم عادةً وفق قواعد مقبولة بالتبادل من أطراف النظام العربي، ولا يتضمن نية الإضرار بالآخر، فيما تنطوي العلاقات العربية - العربية الآن على ممارسات غير مألوفة لم تتعارف عليها أطرافها كافة، بالإضافة إلى الإعلان الصريح عن نوايا إفساد مساعي الآخرين والاعتزاز بالنجاح في تحقيق ذلك. 

والأخطر من هذا كله، تبلور توجّه يقضي بـ "رفع اليدين" عن التدخل بشكل إيجابي وبنّاء في قضايا عربية عدة مُلِحّة وجوهرية، وترك الساحة للاعبين آخرين من ذوي التطلعات والطموحات الغابِرة، العابِرة للحدود، للعب دور جيوبوليتيكي محوري في المنطقة. وبالتأكيد، فإن هذا لن يكون إلا على حساب الدول العربية ذاتها، مهما حاولت المقاومة أو حتى إبداء عدم اهتمامها بما يحدث. 

والمحزن أن هذا التشظِّي القائم على مستوى سياسات الدول قد انعكس بصورٍ مختلفة على مواقف شعوب المنطقة والنخب المثقفة، والعلاقات الطائفية السائدة، وتعمّقت على إثره المشاعر القومية الشوفينية الضيقة، التي لم تكن موجودة في الماضي بهذه الحِدّة، في صفوف قطاعات غير قليلة من الجماهير العربية. 

لكن كيف سيخرج العرب من هذا النفق؟ يظل هذا هو سؤال الساعة، والإجابة عليه ليست جاهزة للأسف، وتشوب المحاولات الكثيرة التي تحاول صوغها تضاربات وتناقضات صارخة في التحليل وتشوش كبير في الرؤية، لكن الخطوة الأولى والأكثر أهمية حالياً - كما تبدو لي- تكمن في لمّ شعث التنافر الحالي بشأن قضية العرب المركزية وتجاوز النظرة الخلافية حولها، ولعل التوافق على صوغ مقاربة عربية موحدة ومنسجمة إزاء القضية الفلسطينية العتيدة قد يُسهم بقوة في التخفيف من حالة الاحتقان الراهن، لاسيما وأن هناك إقرار عربي، رسمي وشعبي على حدٍّ سواء، بأهمية وضرورة إعادة الأمور إلى نصابها في هذا الموضوع تحديداً. 

صحيح أن هذا الحل يبدو جزئياً وربما مُبسّطاً، لكنه يُمهِّد بالفعل للخروج من عنق زجاجة سياسة المحاور التي تأخذ وهجها من دبلوماسية "الكيد والكيد الآخر"، والارتماء في حضن القوى الإقليمية والدولية المتوثبة والتي لا همّ لها - وهذا ليس إثماً أو عيباً - سوى الحفاظ على مصالحها الوطنية وتلبية طموحاتها القومية، بغض النظر عن موقف العرب، اتفقوا أم اختلفوا. 

وفي المرحلة التالية، سيكون من المهم - بالنسبة لصُنّاع القرار العرب - أن يعملوا على مراجعة وتقويم سياساتهم الراهنة، وعلى رأسها سياسة المحاور الإقليمية، والنظر - من ثمّ - إلى قيمٍ كالتشدد والاعتدال ليس بوصفها قيماً سياسية جديرة بالاحتفاء والتبنّي، بل باعتبارها قيماً وأحكاماً أخلاقية حديّة وتكاد تكون أيديولوجية، وعندها ستتضح لهم مثالبها الجمّة، وأنها لا تقدم حلولاً بل تقولب الحالة العربية أكثر وتزيدها تأزماً واستعصاءً. ناهيك عن أنها تكشف الدول العربية جميعها، سواء أكانت "معتدلة" أو"ممانعة"، أمام مخاطر وتحديات متعاظمة لا قِبَل لها بمواجهتها أو التكيّف معها دون دفع أثمان باهظة لا تُطاق! 

مصدر المقال: مشروع "منبر الحرية" www.minbaralhuryya.com