نوستالجيا "الخلافة" العثمانية
السبت, 21-مارس-2009
محمد الدعمي - إذا كان رصد وتحليل الظواهر الفكرية والسياسية التي تطفو على السطح من مهمات المراقب السياسي، فإنه لمن الغريب أن تمر الحالات الغريبة في عالمنا العربي دون ملاحظة أحد. ليس هذا مدعاة للإستغراب بقدر تعلق الأمر بظاهرة يمكن أن نطلق عليها عنوان الـ"نوستولجيا العثمانية" التي تنتشر بشكل غريب بين أعداد كبيرة من الشباب العربي، بين الإسلاميين خاصة. ومفاد هذه الظاهرة هو الأسف (المتأخر) على سقوط الإمبراطورية العثمانية بمساعدة فئات كبيرة من العرب، إذ يذهب هؤلاء إلى أن هذه كانت "دولة خلافة" إسلامية، ما كان على الشعوب العربية خذلانها للإنسياق وراء "الإستغفال" الذي قادته الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية لوضع العرب، في وقت لاحق، تحت رحمة أنواع الإحتلالات والوصايات بذريعة قيادتهم نحو الإستقلال. ربما تكون الأوضاع الحالية المرتبكة والمتردية في العديد من الأقطار العربية وراء هذا النوع من "الرجوعية" الغريبة، خاصة وان ما لا يقل عن ثلاثة أجيال سابقة كانت قد ثقفت وثقفت على اساس النيل من "النير" العثماني الذي ظل جاثماً على الشعوب العربية طوال قرون.

إن المفارقة، المدعاة للتندر، تتمثل في أن تركيا الحديثة، العلمانية اليوم، تجري وراء القيادات الأوربية من أجل ضمها إلى الجسم الأوربي كدولة أوربية حديثة تمتاز بالعلمانية وبالنظم الليبرالية الديمقراطية. الأتراك يريدون أوربا، والبعض منا يحلم بإعادة الخلافة العثمانية إلى الأستانة! لا ريب أن الإسقاطات والإرهاصات الكامنة وراء هذا الحنين إلى الماضي العثماني ينبع من شيوع التردي والنكوص النفسي بين شرائح الشبيبة والنشء في بعض الدول العربية درجة إعادة قراءة التاريخ بطريقة تفضي إلى "رجوعية" من هذا النوع غير المتوقع. وربما وجد البعض في جاذبية عناوين من نوع "الخلافة" والرابطة الإسلامية غطاءً للترويج إلى هذا النوع من التفكير بهدف إمتطائه لتمرير رؤى أخرى تحمل عناويناً أكثر جاذبية وعاطفية بالنسبة للإنسان العربي المسلم.

إن الإرتجاع للماضي، وبغض النظر عن سيئاته ومثالبه، إنما هو من معطيات عصور اللايقين والخوف من المستقبل: فبدلاً من أجيال شابة تتطلع إلى بناء المستقبل من خلال التوثب إلى المبادرة الحضارية التي تجمع بين الحداثة والتراث، يرتمي العديد اليوم في أحضان رؤى إرتدادية لا يمكن إلاّ أن تبلور مقدار اليأس والقنوط الذي ينتاب فئات واسعة في بعض البلدان العربية.

ويبدو أن واحداً من أهم مسببات هذا النوع من التعمية التي يفرضها البعض إنما يعود إلى الجهل بالتاريخ وإلى عدم التمييز بين "الحقيقة التاريخية" و "الخيال التاريخي"، ذلك الخيال الذي يتجاوز مسببات إنهيار "الرجل المريض"، الدولة العثمانية، أمام الغزو الكولونيالي الأوربي، بمساعدة عربية كانت ترنو إلى ما وعد الأوربيون به العرب من دول مستقلة يقودها رجال من ابناء جلدتهم. لقد تجاوز الداعون لإعادة أمجاد الدولة العثمانية الإختلالات "القاتلة" التي ألمت بها، إبتداءً من من سراي الباب العالي الذي كان يضيق بالجواري والغلمان، وإنتهاءً بالحياة المتخلفة التي كانت تعيشها "الممتلكات العربية" للدولة العثمانية، تحت وطأة الأمية والجهل والأمراض الفتاكة. لذا يعد المؤرخون المنصفون الحياة العربية في العصر العثماني جزءاً لا يتجزأ مما يسمى بـ"العصر المظلم".

ويبقى المرء في حيرة حيال الكيفية التي يمرر بها البعض تمجيد الإمبراطورية العثمانية إلى عقول شابة غضة على طريق الإبقاء على العقل العربي الشاب حبيساً في مجموعة أكاذيب وخيالات تقتل روح المبادرة الحضارية ودوافع التطلع إلى بناء مستقبل من النوع الإستثنائي العربي المميز. وعلى المتابع أن يستحضر الحال المأساوية التي كانت تعيشها الأقاليم العربية بضمن تلك الدولة الزائلة: فقد كانت "الممتلكات" العربية ممزقة على نحو ولايات، بينما كان الولاة الذين يتحكمون بها لا يزيدون عن جباة ضرائب و "خاوات" لإرسال حصة الأسد منها إلى الأستانة (إسطنبول اليوم) والإبقاء على شيء من هذه الثروات للوالي نفسه، مع شيء لحاشيته. صحيح أن العصر العثماني قد شهد ظهور بعض الولاة المصلحين في الأقاليم العربية، من نوع محمد علي باشا في مصر ومدحت باشا في العراق، بيد أن على المؤرخ أن يلاحظ أن هؤلاء المصلحين لم يقدموا على الأعمال العمرانية الجيدة إلاّ كإشارة تعبر عن تمردهم على الأستانة. وبكلمات أخرى، لم يكن المصلحون سوى حكاماً محليين يريدون الإنفصال أو الإستقلال الذاتي بما أغدقته عليهم الأستانة من أراضٍ وأقاليم. لذا حقق محمد علي باشا إستقلالاً واضح المعالم في مصر ثم في بلاد الشام، بينما لم يتمكن مدحت باشا من المضي قدماً في خطته لأنه عزل واستدعي إلى العاصمة ليبدأ رحلة أخرى في "تمرده" على الدولة العثمانية، عسكرياً وسياسياً، حتى تمت تصفيته.

وإذا كنا اليوم نمتلك المدارس، بل والجامعات في كل مدينة، وربما حتى في القرى، فإن أوضاع العرب في ذلك العصر الذي أسدل الستار عليه كانت مدعاة للإبتئاس. لقد كانت الأمية منتشرة على نحو فظيع في الأقطار العربية، بينما لم يكن العرب "المثقفون"، حسب معايير القرن التاسع عشر، سوى كتبة يعملون تحت سوط الوالي والجندرمة والإنكشارية الملتفين حوله. أما المحظوظون، للغاية، فقد كانوا ابناء الأقطاعيين وجباة الضرائب الذين كان يسمح للقلة من ابنائهم بالدراسة في الأستانة على سبيل تعيينهم ضباطاً في جيش الإمبراطورية "المقدسة". الطريف أن هؤلاء العرب المحظيين من الذين تدربوا على السلاح وإرتدوا البزات العسكرية التركية هم الذين قادوا الثورة، مع لورنس العرب، ضد الدولة العثمانية. ومن هؤلاء نوري السعيد باشا (رئيس وزراء العراق المزمن والمقرب من جلالة المرحوم الملك فيصل الأول): فلو كان هؤلاء المستفيدون من سخاء الأستانة مقتنعين بهذه الدولة لما حاولوا إشعال التمرد عليها والإستعانة بالعشائر والقبائل العربية لإسقاطها.

لقد كانت هذه الأوضاع المتردية في الأقاليم العربية وراء التمرد على الدولة العثمانية التي كانت توظف الإسلام، يافطة، من أجل إبقاء الشعوب العربية ضحية للإستغلال، مع توظيف الإسلام والخلافة شعارات لتحقيق هذا الهدف. لقد عملت الدولة العثمانية بكل قسوة على الإقلال من شأن "لغة القرآن" العربية، حيث سادت سياسة "التتريك" على حساب إهمال اللغة العربية، بينما فرضت الأفكار الشوفينية التركية الطورانية على العرب والأكراد والأرمن، من بين سواهم من الأقوام الواقعة تحت هيمنة الدولة، من أجل الإقلال من شأن هذه الأقوام ومعاملتهم كمواطنين ولكن من درجات أدنى. والأدلة كثيرة على ذلك: فلم يكن أي مواطن عربي يستحق الإحترام والقبول إلاّ إذا ما كان يتكلم اللغة التركية، بينما سيق عشرات الآلاف من العرب جنوداً في حروب الدولة العثمانية التي تحالفت مع دول المحور. ولم يزل الشيوخ يتذكرون حرب القرم (السفر بر) حيث فقد وقتل آلاف الجنود العرب وهم يحاربون "المسقوفية" اي أهل موسكو. أما الولاة الذين كانت مصائر العرب بين ايديهم وتحت رحمة نزواتهم فلم يكونوا عرباً، وإنما شركسية أو جيورجيون أو كرجيون، من هؤلاء الصبية الشقر المسيحيين الذين كانوا ينتزعون من أحضان أمهاتهم صغاراً كي يؤخذوا للإستعمال كغلمان ثم ليتدربوا عسكرياً وإدارياً كي يحكموا الأقاليم العربية.

إن ما يجري اليوم من الترويج النوستالجي لدولة "الخلافة" العثمانية "الرشيدة" إنما ينطوي على حرف الحقائق وعلى محاولة حرف الشبيبة عن طريق التشبث بالمستقبل وبالإستنارة الفكرية. إن النوستالجيا العثمانية تعكس إمتطاء العابثين بالأفكار وبالتاريخ والأسطورة والخرافة على سبيل تبرير الإرتجاع إلى الخلف بدلاً من التطلع إلى الأمام.

مصدر المقال: مشروع منبر الحرية.