السودان والعدالة الدولية الانتقائية
الثلاثاء, 17-مارس-2009
فتوح هيكل - يبدو أن قدر المنطقة العربية هو أن تعيش في حالة دائمة من التوتر وعدم الاستقرار؛ فهي لا تكاد تخرج من أزمة حتى يتم إدخالها قسراً في أزمة جديدة تستنفد طاقاتها وتبدد مواردها. في هذا السياق تأتي مذكرة التوقيف التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية في الرابع من مارس/آذار 2009 بحق الرئيس السوداني عمر البشير، وهي الأولى من نوعها بحق رئيس لا يزال في السلطة، بتهمتي "ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية" في إقليم دارفور، بما يهدد بحدوث مزيد من التدهور في هذا الإقليم المضطرب، ويضع السودان في بداية نفق مظلم لا يعلم أحد ماذا سيكون في نهايته.

وتضمنت مذكرة التوقيف سبعة اتهامات للرئيس البشير "استناداً إلى مسؤوليته الجنائية الفردية"، خمسة منها تتعلق بجرائم ضد الإنسانية، وهي "القتل والإبادة والنقل القسري والتعذيب والاغتصاب"، وتهمتان تتعلقان بارتكاب جرائم حرب، هما "تعمد توجيه هجمات ضد سكان مدنيين بصفتهم هذه أو ضد أفراد مدنيين لا يشاركون مباشرة في الأعمال الحربية، والنهب"، فيما تم إسقاط تهمة الإبادة الجماعية. وهددت المحكمة باللجوء إلى مجلس الأمن إذا واصلت حكومة السودان عدم التعاون، مشيرة إلى أن منصب البشير لا يعفيه من المسؤولية الجنائية ولا يمنحه حصانة من المقاضاة أمام المحكمة.

وينطوي هذا القرار الصادر عن المحكمة الجنائية الدولية على مجموعة من الأبعاد والملاحظات المهمة، يأتي في مقدمتها الطابع الانتقائي للعدالة الدولية؛ فبينما سارعت المحكمة إلى إصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور، فإنها لم تتحرك لتوجيه ذات التهم إلى قادة إسرائيل، الذين ارتكبوا هذه النوعية من الجرائم بشكل فج خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة والتي أسفرت عن سقوط أكثر من 4000 فلسطيني بين شهيد وجريح؛ فما حدث في قطاع غزة كان جريمة حرب مكتملة الأركان، من حيث القتل العمد للأطفال والنساء، ومن حيث ضرب الأهداف المدنية بشكل متعمد مثل قصف سيارات الإسعاف والمساجد والمستشفيات والمدارس ومخازن الوقود، وغيرها من الأهداف المحمية بالقانون الدولي الإنساني بما في ذلك المؤسسات التابعة للأمم المتحدة نفسها؛ حيث قصفت القوات الإسرائيلية المدارس والمخازن التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، فضلاً عن استخدام أسلحة ممنوعة دولياً كالقنابل العنقودية والقنابل الفسفورية؛ وعلى الرغم من ذلك كله فإن مدعي المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي "لويس مورينو أوكامبو" أعلن أنه غير مختص قضائياً بالتحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية التي ارتكبت في قطاع غزة؛ مبرراً ذلك بأن إسرائيل ليست عضواً في نظام روما الذي أنشأ المحكمة، متجاهلاً حقيقة أن المادة (15) من الميثاق الأساسي للمحكمة، والتي تتناول حالات تدخل المحكمة في التحقيق في جرائم الحرب المرتكبة؛ تعطي الحق للمدعي العام في أن يباشر التحقيقات "من تلقاء نفسه" على أساس المعلومات المتعلقة بجرائم تدخل في اختصاص المحكمة، دون انتظار طلب مجلس الأمن أو طلب دولة عضو.

كما سبق للويس أوكامبو أن رفض أيضاً في عام 2006 التحقيق فيما ارتكب من جرائم حرب في العراق على أيدي القوات الأمريكية التي غزت البلاد في ربيع عام 2003، بدعوى أنه مكبل بنظام المحكمة الجنائية الذي يجعل مسؤوليته تنحصر فقط في "إجراء المرحلة الأولى من جمع المعلومات والنتائج الأولية، وتبني المبادرة للدعوة للتحقيق فقط، لو توافرت المعلومات التي تفي المعايير الأساسية حسب ما جاءت بالميثاق". ولا شك في أن من شأن هذه الانتقائية الواضحة في قرارات المحكمة الجنائية الدولية أن تفقد شعوب الدول النامية الثقة في تطبيق معايير العدالة الدولية، وتضع كثيراً من علامات الاستفهام على طبيعة دور المحكمة وحدود توظيفه سياسياً.

الملاحظة الثانية تتعلق بالتأثير المحتمل لهذا القرار على حالة الأمن والاستقرار في إقليم دارفور بشكل خاص والسودان بشكل عام؛ فمما لا شك فيه أن هذا القرار لم يأخذ بعين الاعتبار الطبيعة المعقدة للصراع في إقليم دارفور، والذي تفجر في العام 2003 بعد شروع مجموعة من المتمردين بشن هجمات على أهداف حكومية بذريعة أن الخرطوم تهمل المنطقة، وتمارس سياسة القمع ضد الأفارقة لصالح العرب؛ وبالتالي فنحن إزاء طرفين، الأول تمثله الجماعات المتمردة في الإقليم وعلى رأسها "الجيش الشعبي لتحرير السودان" و"حركة العدل والمساواة"، والطرف الثاني تمثله الحكومة، وكلا الطرفين يستخدم السلاح ليفرض وجهة نظره، وبالتالي فإن الادعاء بمسؤولية حكومة الخرطوم وحدها عن كل الجرائم المرتكبة في هذا الإقليم، والتي أدت بحسب بيانات الأمم المتحدة إلى مقتل قرابة 300 ألف شخص وتشريد مليونين آخرين، ربما يفتقر إلى الدقة على أساس أن الطرف الأول، وهو الجماعات المتمردة، تمارس هي الأخرى سياسة القتل والقمع ضد المدنيين، وإذا أضفنا إلى ذلك حالة السيولة التي تتسم بها الحدود بين السودان وتشاد، التي تمتد نحو 600 كيلو متر، وتسمح بتدخل أطراف أخرى في هذا الصراع، يصبح إلقاء المسؤولية عن تدهور الأوضاع في إقليم دارفور على أحد الأطراف دون الآخر محل جدل ونقاش. ولا يعني ذلك نفي مسؤولية الحكومة بالكامل عن ارتكاب الجرائم التي حدثت في هذا الإقليم، لكن الحكومة لا تتحمل وحدها مسؤولية التدهور الإنساني والأمني الحادث فيه.

ومن شأن إصدار مذكرة التوقيف هذه أن تؤثر بالسلب على الوضع الأمني والسياسي في السودان، وقد ظهرت بوادر ذلك سريعاً، عندما أعلنت "حركة العدل والمساواة" التي وقعت اتفاق حسن نوايا مع الحكومة السودانية في الدوحة مؤخراً أن التفاوض مع البشير "لم يعد ممكناً" بعد صدور المذكرة، في الوقت الذي أكد فيه النائب الأول للرئيس السوداني، سيلفا كير، الذي كانت حركته قد وقعت اتفاق سلام مع الحكومة السودانية في العام 2006 يمهد لتقاسم السلطة وإجراء استفتاء في عام 2011 حول استقلال الجنوب، أن المذكرة تضع السودان في موقف صعب للغاية كدولة تمت إدانة رئيسها ولم يعد يملك مرونة في تحركاته. وقد تشجع هذه المذكرة، وما قد تفرضه من عزلة دولية على حكومة الخرطوم، حركات أخرى على رفع السلاح في وجه الحكومة، الأمر الذي يهدد وحدة السودان واستقراره.

الملاحظة الثالثة تتعلق بطريقة تعامل الحكومة السودانية والدول العربية مع الأزمة؛ فقرار توقيف الرئيس البشير لم يكن مفاجئاً، وسبقته خطوات كانت تشير إلى إمكانية حدوثه، ومع ذلك لم يتم التحرك بشكل جدي لحل هذه الأزمة قبل تفاقمها؛ ففي العام 2005، أحال مجلس الأمن الدولي "متصرفا" بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ما يحدث في إقليم دارفور إلى مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية بموجب القرار رقم 1593 للتحقيق في التهم المنسوبة للحكومة السودانية بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وبعد عامين أصدرت المحكمة مذكرة اعتقال بحق اثنين من أعضاء الحكومة السودانية بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في الإقليم المضطرب، رفض السودان تسليم أي منهما، معتبراً أن "لا ولاية للمحكمة عليه"، وقام بدلاً من ذلك بإجراء محاكمات صورية لبعض عناصر القوات الأمنية الذين يُشك بأنهم قاموا بانتهاكات في دارفور، كما تم توجيه الاتهام لميليشيا الجنجويد التي توصف بأنها موالية للحكومة بارتكاب عمليات تطهير عرقي في الإقليم، ورغم الوعود التي قدمتها الحكومة لنزع سلاح هذه الميليشيا فلم يكن هناك دليل على قيامها بذلك حتى الآن، الأمر الذي دفع أوكامبو إلى الإعلان في يوليو/تموز 2008 عن توجيه تهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية للرئيس البشير نفسه. أما الدول العربية فقد اقتصر موقفها من الأزمة على إعلان "التضامن مع السودان في مواجهة أي مخططات تستهدف النيل من سيادته ووحدته واستقراره"، دون ترجمة هذا التضامن إلى خطوات وتحركات عملية تحول دون تفاقم الأوضاع.

ويكشف تعامل الحكومة السودانية والدول العربية مع قرار المحكمة الجنائية الدولية الخاص بتوقيف البشير عن الاستمرار في النهج الخاطئ ذاته الذي قاد إلى تفاقم الأزمة؛ حيث أعلنت الحكومة السودانية رفضها هذا القرار الذي وصفته بأنه جزء من "مؤامرة استعمارية جديدة"، وقامت بطرد ممثلي 13 من منظمات الإغاثة الأجنبية فضلاً عن ثلاث منظمات محلية بعد أن اتهمهم بنقل معلومات غير صحيحة إلى ممثلي الادعاء بالمحكمة، ووصف الرئيس البشير هذه المنظمات بأنهم "لصوص يستولون على 99% من أموال المساعدات ولا ينفقون إلا واحداً بالمائة فقط"، وقد أثار هذا القرار كثيراً من الأطراف الدوليين الذين حذروا من تداعياته على الأوضاع الإنسانية السيئة أصلاً في دارفور؛ فيما أعلنت المبعوثة الأمريكية لدى الأمم المتحدة سوزان رايس أن بلادها تدرس فرض منطقة حظر جوي فوق الإقليم، أسوة بما كان يحدث في العراق قبل الغزو الأمريكي. أما التحركات العربية فاقتصرت على تكرار التضامن اللفظي مع السودان، ومطالبة مجلس الأمن بالتدخل لتأجيل تنفيذ قرار المحكمة لمدة عام استناداً إلى المادة 16 من ميثاق المحكمة، وهو أمر تدرك الدول العربية أنه غير مجد، بالنظر إلى مواقف الدول الغربية الأعضاء في مجلس الأمن، ولاسيما الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، المتحفظة على مثل هذه الخطوة.

إن إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف الرئيس البشير يفرض على الحكومة السودانية التحرك بجدية من أجل تحسين الأوضاع الإنسانية الصعبة في إقليم دارفور، ومعالجة أي انتهاكات يمكن أن تكون قد وقعت في الإقليم، بالشكل الذي يفتح المجال أمام إقناع المجتمع الدولي بأن ثمة تغييرات تحدث على الأرض في دارفور، ومن ثم إمكانية تعليق المذكرة وحل هذه الأزمة؛ فليس من المفيد إنكار هذه الانتهاكات بشكل مطلق وكامل، في الوقت الذي تتحدث فيه أكثر من جهة إنسانية دولية غير حكومية عن دلائل مادية حول حدوثها، ولكن يمكن وضعها في حجمها الحقيقي لمواجهة أي مبالغات قد تكون نتجت جراء نقص المعلومات أو تجاهل الخرطوم للاتهامات التي وجهت إليها مما ترك الساحة خالية لأصحاب المصالح والمآرب للنفخ في القضية وتضخيمها وتوجيهها الوجهة التي تحقق مصالحهم. كما يفرض هذا الأمر على الدول العربية الضغط في اتجاه تطبيق معايير العدالة الدولية على جميع الدول دون تمييز، فإذا كانت المحكمة الجنائية الدولية لم تتردد في إصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس البشير استناداً إلى أدلة تخضع للشك؛ فمن باب أولى أن يتم إصدار مذكرات توقيف بحق مرتكبي جرائم الحرب المستمرة التي تمارسها إسرائيل في الأراضي العربية المحتلة، وهي جرائم لا تسقط بالتقادم.