أى طموح لقطر؟
الثلاثاء, 17-مارس-2009
د. حسن أبوطالب - فى دراسات العلاقات الدولية مبحث شائع يتحدث عن الدول الصغيرة والتحديات التى تواجهها، لاسيما إذا كانت محشورة جغرافيا بين اكثر من بلد كبير بمعانى المساحة والسكان والتاريخ والدور والتأثير. والبلدان كما الافراد لها مزاج عام ونفسية جماعية تميزها عن البلدان الأخرى، وتفسر جزءا كبيرا من تصرفاتها ومواقفها السياسية..
وكما فى الأسرة الواحدة هناك الكبير والصغير، وهناك الشقى البائس والغنى الميسور، والتعيس الكئيب والمرح الفكه، وهناك الطموح وهناك الكسول، وهناك المغامر النزق وهناك الحكيم القدير. ولكل سلوكه ولكل تصرفاته. والامر نفسه ينطبق على الدول والجماعات. وليس مهما أن يكون البلد صغير المساحة وقليل السكان، ولكن المهم هو النضج فى السلوك والفكر والقيادة واستيعاب التجربة التاريخية سواء الذاتية أو تجارب الاخرين. 

ففى العالم المعاصر يصعب القول بعدم المعرفة او انكار قدرات الأخرين، أو تسلق الاشجار السامقة دون سابق معرفة. ومع ذلك نجد من يخاطر عن عدم قدرة وغياب علم، ونواجه طموحات اكبر من الامكانيات، ومساعى لنيل مكانة اكبر مما تتيحه الموارد المتوافرة. والاخيرة ليست فقط حسابات ضخمة فى البنوك أو بنايات شاهقة أو الدعايات الزاعقة، بل هى موارد الفكر والعلم والثروة البشرية والخبرة والمكانة والدور. وفى عالمنا العربى يمكن أن نجد كل هذه النماذج من الطموح المقبول إلى الطموح الجامح، ومن المغامرات غير المحسوبة إلى التحركات المقدرة بدقة.

قطر هنا كدولة تعد نموذجا خاصا، فهى تدخل فى باب الدول الصغيرة بحكم المساحة والجغرافيا وعدد السكان، وهى فى باب الدول المؤثرة اقتصاديا بحكم امتلاكها وانتاجها كميات هائلة من الغاز الطبيعى، الذى يترتب عليه عوائد مالية ضخمة سنويا. وبحكم الموقع، حيث تطل على الخليج الذى يستقطب اهتمامات القوى الكبيرة والمتوسطة جميعها، فهى فى بؤرة الاهتمام الدولى لا شك فى ذلك. وبحكم امتلاكها قناة اخبارية ذائعة الصيت فهى تشارك فى تحديد جزء معتبر من اهتمامات الرأى العام العربى. .
وبحكم تطلعاتها الواسعة فهى تسعى فى كل اتجاه حتى يستقر فى الاذهان أنها لاعب اقليمى وعربى يمسك بتلابيب بعض الملفات الحيوية من لبنان إلى اليمن والسودان وفلسطين. وبحكم علاقاتها الدفاعية والعسكرية مع الولايات المتحدة فتنال حمايتها، وبحكم انفتاحها على إسرائيل، عدوة العرب الاولى حسب معايير قناتها الاخبارية ذائعة الصيت، تجد من يؤيد خطواتها فى قلب واشنطن حيث اللوبى الاسرائيلى ذائع الصيت قوى الشكيمة. وبحكم جيرتها مع إيران تنفتح عليها وفقا لمصالحها الذاتية، ولا يهم ان كان ذلك الانفتاح يضر أو يفيد مصالح أعضاء معها فى تجمع واحد، يحمل أسم مجلس التعاون لدول الخليج العربية. 

تبدو سياسة قطر ملتوية بعض الشئ، تذهب إلى الانفراد والتميز حتى ولو كان الامر دون سند، وتطمح فى أن تكون نقطة مصالحة عربية وإقليمية، وهذا حقها شريطة الا تغمط حقوق من صاغوا المبادرات وهيأوا الشروط. فقد استضافت الزعماء اللبنانيين بعد عامين من أزمة دستورية وسياسية وانتهى الاجتماع باتفاق الدوحة، والذى كان فى الاصل مبادرة عربية شاركت فى صياغتها دول عربية عديدة تحت مظلة الجامعة العربية منها مصر والسعودرية وسوريا وغيرهم. لكن الدعاية الموجهة أغفلت اصل الشئ، وركزت على موقع الاجتماع.
كما تطمح أن تكون نقطة انطلاق للنفوذ الامريكى فى المنطقة، وهى بالفعل كذلك وإن أنكرت. والتصور القطرى ان قاعدة عسكرية للولايات المتحدة على الاراضى القطرية لا تقدم لها الحماية وحسب، بل ايضا توفر لها مكانة خاصة لدى البيت الابيض وفى المنطقة وتتيح لها حرية حركة اكبر فى قضايا الاقليم، ويحد من قدرة واشنطن على إيذائها..
وبينما كانت السعودية فى نهاية العام 2002 تكافح مع واشنطن من اجل انهاء الوجود العسكرى الامريكى على أراضيها، برزت قطر كمقر جديد لهذه القوات الامريكية، التى وجدت الاستضافة المميزة فى قاعدة العيديد، والتى اصبحت اكبر قاعدة عسكرية امريكية فى منطقة الخليج، وفيها القيادة المركزية الامريكية، والتى حملت عبء إدارة غزو العراق مارس 2003، ومنها انطلقت الطائرات والصواريخ فى اتجاه المراكز العسكرية والمدنية العراقية، وفى الوقت نفسه كانت القناة الاخبارية القطرية تطلق حممها من الكلمات والانتقادات على الولايات المتحدة التى تغزو العراق العربى وتقتل العراقيين الابرياء. تماما كما حدث فى العدوان الاسرائيلى على قطاع غزة يناير الماضى. .
إذ بينما حملت القناة الاخبارية على اسرائيل وما تفعله قواتها وآلتها العسكرية الهمجية فى الفلسطينيين الابرياء، كانت قاعدة العيديد تقوم بدور آخر فى دعم العودان الاسرائيلى، إذ قررت القيادة المركزية الامريكية ان تضع القاعدة على اهبة الاستعداد لحماية إٍسرائيل إن تطلب الامر ذلك، وفقا لما اعلنه متحدث رسمى بوزارة الدفاع الامريكية. وبينما كانت الدوحة تستضيف بعض القادة فى اجتماع من أجل نصرة غزة، كانت بعض الطائرات الامريكية ـ حسب تقارير نشرت فى الصحافة الامريكية ـ تحمل شحنات من الاسلحة والصواريخ من فائض الاسلحة الامريكية فى قاعدة العيديد متوجهة إلى إسرائيل لكى تستكمل مهمتها فى قتل الابرياء وتدمير حياتهم ومواردهم البسيطة..
وبينما كانت الولايات المتحدة تضغط على دول عربية وخليجية تحديدا من اجل تجفيف المنابع المالية للجماعات والمنظمات التى صنفتها ضمن الحرب على الارهاب، اعتبرت قطر نفسها مستثناة من ذلك، سواء كانت هذه الجماعات عربية أو افغانية.

هكذا هى قطر الصغيرة حجما والطموحة فوق أكبر من طاقاتها، جملة من العناصر المتداخلة والمتشابكة والمتناقضة أحيانا والمتكاملة أحيانا اخرى. ولا شك أن بعضا من سياستها العربية يكشف عن نوع من المغامرة المحسوبة وفقا لقيادتها السياسية، والجامحة بحكم نتائجها ومردوها عربيا وإقليميا.
فهى تحمل على الدول العربية التى لديها علاقات تعاقدية مع إسرائيل، وفى الوقت نفسه تفتح قنوات علنية وسرية معها، والغريب أنها لا تعتبر ذلك مفارقة أو تناقضا فى المواقف، فلديها لكل موقف تفسير. فهى تنفتح حسب تفسيرها على إسٍرائيل من أجل تعزيز فرص السلام واقناع الاسرائيليين بأن السلام مع العرب سيجلب لهم خيرات كثيرة، وتقنع الفلسطينيين بما فى ذلك حماس والجهاد ان هذه العلاقات تهدف إلى مصلحة فلسطينية بالاساس، والغريب أنهم يصدقون. وفى الوقت نفسه فهى تعلن حربا إعلامية على الدول العربية التى لديها علاقات تعاقدية مع تل أبيب. .
وبينما تدرك دول عربية عديدة، من بينها دول مجلس التعاون الخليجى ان إيران بحاجة إلى سياسة عربية جماعية حازمة تميز بن العلاقة الحسنة المطلوبة وبين التدخلات الايرانية المرفوضة، تقف الدوحة موقفا متميزا، إذ تعتبر أن إيران هى القوة الصاعدة فى اقليم الخليج، بل تعمل على محاصرة النفوذ الطبيعى لبلد خليجى كبير كالسعودية. ولا ضير أن تختلف المناهج تجاه بلد جار، ولكن تغليف الامور على غير طبيعتها من شأنه أن يقود إلى نتائج خاطئة ومردود سلبى على الجميع.
وما قامت به قطر إبان العدوان الاسرائيلى على غزة، يعبر عن ذلك النزوع الجارف نحو لعب دور يطيح بكل المعادلات القائمة دون سند من مكانة أو موارد وتاريخ. فالدعوة إلى عقد قمة عربية هى حق لا نزاع فيه لاى بلد عربى، والتجارب السابقة تقول أن تلك الدعوات عادة ما كانت تخضع لمشاورات عربية شاملة بغية ان تكون القمة إن عقدت ذات نفع عام، وليست خطوة إلى المجهول. ولذا كان إصرار قطر على عقد القمة تحت مسمى نصرة غزة، وقبل ثلاثة أيام من عقد قمة الكويت الاقتصادية استعد العرب لها جميعا طوال عامين سابقين، خطوة فى المجهول وليست عملا مفيدا لدعم الأهل فى غزة.
ورب ضارة نافعة فقد ثبت فى هذا الاجتماع الذى حضره رئيس إيران وزعيم حركة حماس وعدد محدود من القادة العرب، أن دعم غزة بحاجة إلى أكثر من الكلمات الرنانة أو مجرد التركيز على إدانة مصر التى تحملت الكثير، أو إشاعة أن قطر بيدها الحل والعقد. وإذا كان من حق قطر ان تمارس سياستها الخارجية وفقا لما تراه مصالحها، فالمؤكد أنه ليس من حقها أن تعطى الدروس والعبر لمن لديهم تاريخ وتراث وريادة.