المجتمع المدني: مقاربة نقدية
السبت, 14-مارس-2009
د محمد الغيلاني - تنطوي استعمالات مفهوم المجتمع المدني على كم هائل من الاختلاطات والالتباسات، وإن كل مقاربة ترتدي لبوس الإيديولوجيا إنما تندرج في حكم المقاربات التي تتماهى مع عموم الخطاب النفعي، الذي يشتغل بالمفهوم لأجل أغراض ابتزازية، أي على خلفية ممارسة الاحتكار أو الهيمنة أو الدجل. ولعل استعمال مقولة المجتمع المدني لأجل أغراض من هذا القبيل إنما يعبد سبل رسوخ الاختلالات القائمة أصلا، ويتلف بالتالي كل الدلائل التي قد تقود إلى فهم اشمل وأعمق لدلالاته، فتنسد الآفاق التي يفترض أن تنفتح أمام كل جهد معرفي، لا يركن إلا إلى معطيات ونتائج البحث النظري الصارم المستند إلى فحص دقيق للإرث الفلسفي والسوسيولوجي. فالبحث المعرفي بهذا المدلول هو ضد الإتلاف، ومن تم فإن التتبع التأريخي والرصد المنهجي والإبستمولوجي لمفهوم المجتمع المدني، إنما هو محاولة معرفية للتصدي لهذا الإتلاف وتفكيك لتلك الاختلاطات، وفرز للحيثيات التي أحاطت أو واكبت تاريخ وتجربة المفهوم نظريا وسوسيولوجيا.
تعاني المفاهيم بصفة عامة من مشكلة انحصارها وانغلاقها وبالتالي فشلها في اختراق المنظومات الفكرية بالقدر نفسه فشلها في اختراق قاموس خطاباتها، في حين أن مشكلة مفهوم المجتمع المدني هي انسيابيته وميوعته وانتشاره في كل الاتجاهات، لينحت لذاته وجودا ما تارة، أو ليُفرض عنوة تارة أخرى، بحيث أصبح اصطلاحا متداولا في الجدل الذي تخوض فيه النخب التي تنتمي إلى مجالات وقطاعات مختلفة : في المعرفة، والسياسة والاقتصاد ...فضلا عن ذلك نجد أن المفهوم يعد من المفردات المرحب بها في القاموس التداولي للتيارات المتدينة. لا وجود لرجل دولة أو دين إلا واستخدم أو استغل هذا المفهوم، بل إن فئات وهيئات عريضة من قطاعات المجتمع تتبارى في السعي للحصول على صفة العضوية في تنظيمات المجتمع المدني، لأن هذه الصفة تعد مصدرا من مصادر الشرعية : شرعية وجودية، شرعية حداثية.
المجتمع المدني بهذا المعنى ليس مجرد قيمة سياسية، إنه إفصاح عن قيمة وجودية. ولأن هذه القيمة ذات طابع فلسفي- كوني، وليس مجرد قيمة سوسيوسياسية، فإن كثيرا من الاستعمالات والتوظيفات التي كان المفهوم عرضة لها سيء َنظْمُها لأنها انطلقت من فرضيات مرتبكة للتدليل على مفهوم هو بالأساس مقولة افتراضية. فكيف يستقيم أن ننطلق من فرضية لإثبات أخرى. والحال أننا نتعاطى مع المجتمع المدني تارة بحسبانه مفهوما أو مقولة نظرية، وتارة بحسبانه واقعة سوسيولوجية، وما لم نحسم هذا الالتباس فإن كل محاولة للفهم ستبقى معطلة إلى حين. سوسيولوجيا، ليس المجتمع المدني حقيقة ناجزة نتأكد تلقائيا من وجودها دون تحديد واضح للمقدمات. بل هي فرضية ملآى بالمفارقات، ومرصد لتاريخ حافل بتجاذب الأفكار وتدافع التجارب. لا تكمن أهمية المفهوم ووظيفته في بذل الجهد لإثبات وجوده من عدمه، وإنما تتجلى أهميته في التعاطي معه بحسبانه أداة تحليل وتفسير لمجمل التحولات والوقائع الاجتماعية التي تعتمل في النسيج المجتمعي.كيف جرى استخدام المجتمع المدني في محاولة إعادة مقاربة علاقة المجتمع بالدولة؟
حيازة الدولة للسيادة إدعاء سياسي بالنظر إليه كمظهر من مظاهر السيطرة. إذ باسم السيادة تتمنع الدولة عن التدخل في شؤون دولة أخرى، لأن السيادة تعني حق ممارسة دولة ما لسلطتها داخل حدودها الجغرافية. فالسيادة في وجه من وجوهها تحمي الدولة من التدخل الأجنبي، لكن من دون أن تمنعها من ممارسة سلطتها على المجتمع. ظهر نظام الدولة الحديثة في القرن السابع عشر وتم الاعتراف به كتجسيد للمرجعية السياسية. فالدولة من هذا المنظور ظاهرة تاريخية في حين أن السيادة وليدة عامل خارجي، أي أنها وليدة الاتفاقيات الدولية التي تلزم الدولة بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى. اقترنت السيادة، وبالتالي السيطرة على المجتمع، بمبدإ من خارج الدولة ذاتها. فالدولة كيان له سيادة، ولقد ورثت دولة القرن التاسع عشر والقرن العشرين هذا الادعاء حتى بات تعريف الدولة مقترنا بمفهوم السيادة. بل إن الديموقراطية ذاتها لم تفلح في أن تغير شيئا من هذه الحقيقة، إذ هي لم تؤثر على الخصائص الجوهرية للدولة . فالديموقراطية تستدعي الاعتراف المتبادل بين شرائح المجتمع، وهي مطالبة بالتسامح مع الآخر - المختلف . في حين أن التوجهات الاجتماعية المنقسمة، لا تقبل بمنطق الأقلية والأغلبية. فالدولة المعاصرة تعكس ثلاث أنماط: - فكرة الجماعة السياسية المستقلة كما تبلورت في دولة المدينة الإغريقية (POLIS). - النظام الجمهوري المدني كما جسدته دولة المدينة الإيطالية. - الحكم القائم على التراضي كما تجلى في دولة القرن التاسع عشر.
وهكذا كانت السياسة، في البدء، تحيل على وجود جماعة تمارس السلطة على محيطها الاجتماعي، في حين عمل النظام الديموقراطي في مرحلة أولى على دمج مفارقتين : 1- اعتبرت الديموقراطية أن الشعب هو مصدر السلطة. 2- اعتبرت الحاكم مصدر السيادة. فالدولة والمجتمع بهذا المعنى منفصلين. غير أن الديموقراطية ذاتها جاءت بمفهوم الانتخاب لتضفي الشرعية على سيادة الدولة، ناسجة بذلك الروابط المتينة بين مواطنين لهم هوية واحدة. ولذلك فالديمقراطية مكنت الدولة من تفسير وتبرير سلطتها، بينما كانت تبدو مستبدة وظالمة قبل أن يحل عصر الديمقراطية. لقد أصبحت الدولة في القرن العشرين تشرف على المجتمع وتراقب كل مظاهر الحياة العامة، من صحة وتعليم واقتصاد وإعلام وما إلى ذلك. وبدأت الدولة تتوسع في احتكار كل المجالات، مستفيدة في ذلك من الأوضاع التي أفرزتها اتجاهات العلاقات الدولية، كمبرر لإدامة السيطرة على المجتمع. لكن جزءاً من هذا الواقع بدأ يتململ إبان أحداث سنة 1989، التي كانت دول أوروبا الشرقية مسرحا ومنطلقا لها، وهي المرحلة التي طبعت ببروز خطاب يعلن بداية نوع جديد من الوعي إزاء الدولة ووظائفها، في عالم أصبحت تتحكم به قوى لها تطلعات كونية، اكتفت فيه الدولة بلعب دور سلطة محلية في إطار نظام كوني أشمل يوجهه الرأسمال والشركات التجارية، خطاب ينزع عن الدولة بعدها السياسي لتتحول إلى سلطة مكرسة لحماية السوق. فما هي إذن النتائج المعاصرة لهذه التحولات وما طبيعتها وتأثيراتها على المجتمع وعلى الحياة العامة؟
عدول الدولة عن ممارسة السياسة، يفقد السياسة توهجها، وينعكس ذلك على العمل الحزبي، ويتقلص انخراط النخب في حركة السياسة، وهذا ربما يفسر صعود نمط جديد من العمل السياسي يسميه البعض بالعمل السياسي الأخلاقي، أي ذلك النشاط الذي يركز على قضايا من قبيل الإجهاض والحرية الجنسية والرفق بالحيوان، والدفاع عن البيئة... في حين يتراجع الاهتمام بالحراك الاجتماعي والتنافس على استقطاب شرائح المجتمع، التي بدأت تعزف عن العمل السياسي أصلا، بل وقد تبرز في ظل ذلك نزعات انفصالية، وتتصاعد مطالب الأقليات كنتيجة لافتقاد هوية مرجعية محددة. ويمكن القول أن تغير أدوار الدولة رافقه تغير في قدراتها، إذ منذ القرن السادس عشر، كان بمقدور الدولة، مثلا، أن تعلن الحرب، أي أن تمارس قدرتها على التعبئة في صفوف مواطنيها. فالحرب، كما يقال، استمرار للسياسة بوسائل أخرى، لكن في ظل أوضاع ما يسمى بتوازن الرعب أصبح مستحيلا إعلان هذه الحرب، وتحولت معه كل الأسلحة -النووية منها على الخصوص- إلى أداة ردع. أفرز هذا الوضع الجديد عالما تتوزعه أنماط جديدة من التجمعات المدنية، أي انخراط الدولة في نظام مدني، إلا أنه نظام هش، مادام محكوم بتوازن الرعب أو الردع النووي. واكب هذه التحولات بروز جماعات مناهضة للتجارب النووية، وهي الآن جزء مما أصبح يسمى المجتمع المدني الدولي، وهو مجتمع استـفاد من واقـع استحالة قـيام حرب تقليدية، لأن ذلك قلص تلقائياً من قدرة الدولة، وهي القدرة التي تضاءلت، أكثر فأكثر، مع كثافة وسائل الاتصال بمختلف أنواعها، والتي مهدت الطريق للمجتمع المدني الدولي لتنظيم نفسه ولتصعيد فعالياته، القائمة على ثقافة كونية تتجاوز الدولة، وتتحرر، أكثر فأكثر، من مبدأ الهوية، ومبدأ التجانس الثقافي. ولعل ظاهرة المدينة المعاصرة تعزز هذا التوجه، فالمدن العالمية الكبرى هي خليط من اللغات والأجناس والأديان والثقافات، ففي ضوء هذه التحولات أصبحت ممارسة السياسة نشاطا يتوزعه أكثر من كيان أو هيئة، لا تمثل فيه الدولة إلا جزءا، أو مستوى من مستويات النسق ككل، الذي تـتعدد وظائفه السياسية كما تـتعقد وتـتشابك. فالمجتمع المدني ذاته يقع في قلب هذه المنظومة، وينازع الدولة في احتكار السياسة، بينما ما زالت الدولة تتغلب عليه في احتكار السلطة.
تناولت بعض الدراسات المجتمع المدني باعتباره إفرازا للاقتصاد، وبناء عليه فقد تم تأويل هذا الإفراز على أنه وليد انفصال السياسة عن الاقتصاد، أو انسحاب السياسة من المجتمع. تدعي هذه الأطروحة أن انتصار السوق يعني هيمنة الاقتصاد خارج تحكم الدولة، ومعناه أن هذه الأخيرة أصبحت عاجزة عن التحكم في نتائج السوق، وبالتالي، فإن ذلك مؤشر على ضعف الدولة. إن المجتمع وفق هذا المنطق أصبح اقتصاديا ولم يعد سياسيا، وبالتالي فكل قوى هذا المجتمع سوف تبحث عن نمط جديد من الروابط والتحالفات. مع أن الأهم في العصر الحالي بات هو البحث عن الطرائق المكينة لإنشاء مجتمع مدني فاعل، لكن دون أن تكون له القوة الكافية للانفلات من هيمنة السلطة السياسية والدولة والاقتصاد، ربما يكون ذلك سببا إضافيا يفسر المفارقات الهائلة الكامنة في صلب هذا المجتمع، وهي المفارقات التي تكاد تكون جزءا من هويته. لعل أبرز هذه المفارقات هو اعتبار المجتمع المدني، مثلا، مجتمعا برجوازيا في الأصل (نموذج هيغل مثلا)، ونحن نرى اليوم أن المجتمع المدني أصبح يمثل القوى الأكثر مناهضة لما أصبح يعرف بظاهرة العولمة. ومع ذلك يجب أن نسجل أن تاريخ المجتمع المدني هو، في نهاية المطاف، تاريخ صراع المجتمع ضد الاستبداد، وليس ضد الدولة فحسب، كما هو شائع في كثير من النصوص، فالاستبداد يتجاوز الدولة. قد تكون صورة من صوره، ولكنها ليست بالتأكيد الاستبداد عينه. لذلك نجد أن المجتمع المدني، من حيث هو معطى سوسيولوجي، قد انخرط في أكثر من مواجهة وتناقض : ضد الدولة كما ضد الدين، وضد الاقتصاد كما ضد الأحزاب السياسية، وضد العولمة كما ضد (؟ ؟ ؟). ولكن على الرغم مما يمكن استـنتاجه، مازالت إشكالية المجتمع المدني تنتمي وترتبط بإشكالية أعم وأعقد، إنها إشكالية التنظيم الاجتماعي برمته، وتحديدا إشكالية علاقة المجتمع بالدولة والاقتصاد والقيم. فكل التفكير والتنظير اللذين بذلا في اتجاه حل إشكاليات هذه العلائق، وبالتالي إشكالية التنظيم الاجتماعي، جلها ألهمت الفكر السياسي والفلسفي والسوسيولوجي، الذي تعاطى مع مفهوم المجتمع المدني، وكانت من تم المصدر الأول لكل الأفكار التي تبلورت فيما بعد عن المجتمع المدني، وهذا وحده يكفي -ربما- لتفسير تنامي المفارقات الكامنة في مقولة تم تحليلها و التنظير لها، في مجمل الأحوال، كقضية فكرية، أكثر مما ثم بحثها كحقيقة سوسيولوجية.
أرست السيرورة التاريخية لعلاقة الدولة بالمجتمع حقائق جديدة، تميز التاريخ المعاصر، وعلى قائمة هذه الحقائق تحول الدولة - باعتبارها جهاز سلطوي- إلى جهاز يقتسم ممارسة الشأن العام إلى جانب كيانات أخرى، تنتمي، هي كذلك، إلى منظومة سياسية أعم وأشمل. فالدولة هي هيئة ضمن هيئات سياسية أخرى تمارس السلطة. وإن كانت هذه الحقيقة لاتلغي كون الدولة مازالت، بالرغم من ذلك، جهازا محورا، لا يمكن تجاوزه، وهي و إن اقتسمت مع غيرها جزءأً من قدراتها وأدوارها، إلا أنها بذلك إنما تحاول أن تصمد في وجه المعطيات الراسخة للحداثة وإكراهاتها، عاملة على اكتساب أدوار جديدة، عبر التشبث بالشرعية وتقديم نفسها كمصدر وحيد لهذه الشرعية، كما يجسد ذلك مثلا حرصها على اقتراح الدستور وتوقيع الاتفاقيات وتوزيع السلطات وما إلى ذلك.
يقتضي بناء تصور واضح حول المجتمع المدني، الرجوع إلى معطى الدولة التي تقاوم باستمرار التحولات المفروضة عليها إن داخليا أو خارجيا. وهي تحولات تعبر عن إرادة أعلى منها، إنها إرادة إرساء كيان سياسي كوني، تتحول فيه الدولة إلى هيئة وسيطة، خاضعة للتأثير المباشر للرأي العام الداخلي ونفوذ المجتمع المدني الدولي، وهو أمر جربته الدولة في أكثر من محطة، كما كان الشأن في ذلك مع منظمات حقوق الإنسان (منظمة العفو الدولية AMNESTY INTERNATIONAL مثلا) أو منظمات البيئة (GREEN PEACE) أو المنظمات المناهضة للعولمة.
تفيد هذه التجارب أن وضعا جديدا بدأ يأخذ طريقه نحو الرسوخ، مرغما الدولة على إعادة تعريف نفسها وتبديل بعض وظائفها والتنازل عن أخرى. كما أن هذه التجارب تفرض إعادة النظر في كثير من مسلمات الفكر السياسي حول مقولة المجتمع المدني ذاتها، ذلك أن الأدوار التي بات يضطلع بها المجتمع المدني هي في حكم مهام الدولة بالتعريف التقليدي لها، بدءا بتقديم الخدمات في المناطق المنكوبة وانتهاء بمراقبة تطبيق الاتفاقيات. كيف يمكن تأويل هذا الصعود المدوي للمجتمع المدني حجما ومطلبيا؟ ألا يعني هذا الصعود تأكيدا على أهمية الدولة نفسها، وليس المجتمع المدني كما قد نتوهم؟ ألا يمكن تفسير ذلك بوعي الدولة بمدى أهمية اقتسام بعض وظائفها، لتتفرغ هي وحدها منفردة لما قد يعتبر أكثر أهمية، أي للسياسة والإستراتيجيا؟ ألا يكون المجتمع المدني بذلك هيئة وظيفية، وليس مؤسسة لمحاسبة الدولة ومراقبتها كما قد يعتقد؟ ألا يعبر استعمال المفهوم نفسه عن هذا الالتباس في ما نسميه تارة المجتمع المدني، وتارة أخرى منظمات غير حكومية؟ ولماذا بالضبط "غير حكومية" مع أن هذه الهيئات تتحمل أعباء النهوض بمهام هي في البدء مهام دولة؟
قد نعثر على بعض الإجابات فيما تقدمه الدولة نفسها، إذ أنها في اللحظة التي تعترف فيها - من دون أن تتنازل- للمجتمع المدني ببعض الأدوار، التي كانت تقوم بها في السابق، أضفت على نفسها وظيفة يمكن اعتبارها جوهرية. لقد أصبحت الدولة المعاصرة دولة القانون، فهي بهذا المعنى تتجاوز كل الهيئات، سياسيا وأخلاقيا، لأنها تعرف نفسها إزاء المجتمع المدني بكونها دولة المثل، باعتبارها هي التي تشرع وتحتكر وتدعي تخليق استخدام وسائل العنف باسم القانون، بحيث لا يتبقى للمجتمع المدني من وسائل الضغط إلا ما تعتبره الدولة التزاما بنص القانون. فالإضراب والاحتجاج والاعتصام والتجمهر والتعبير عن الرأي والمطالبة بحق الشغل، وغيرها من المطالب الاجتماعية والحقوقية والسياسية والثقافية و الدينية، أصبحت ملزمة باتباع ما تنص عليه القوانين والتشريعات، أي باتباع ما ترغب الدولة في أن يكون الوسيلة الوحيدة المتبقية بيد المجتمع المدني للتعبير عن نفسه وعن مطالبه وتطلعاته. تبذل الدولة جهدا مضاعفا لتجريد للمجتمع المدني من حرية استخدام الوسيلة التي يراها هو مناسبة وفعالة، ومن تم فاستراتيجية المجتمع المدني محكومة باستراتيجية أعلى وأقوى، هي استراتيجية الدولة. وانطلاقا من هذا المنظور فالمجتمع المدني ليس إضعافا للدولة، كما قد نفهم أو نتوهم، وإنما هو حاجة ماسة لقوة الدولة، ولذلك فالدولة المعاصرة إذا لم يكن بجانبها مجتمع مدني فإنها سوف توجده بوسائلها وطرائقها المباشرة وغير المباشرة، لأنها تعي حيويته لديمومتها. وعلى هذا الأساس أيضا فالدولة تحتاج للمجتمع المدني، ليس كمجال لممارسة سلطاتها فحسب، ولكن كآلية ضرورية لبقاء هذه السلطة.
كما يمكن القول أن المجتمع المدني هو تعبير عن منظومة سياسية واجتماعية، أصبحت تتضاعف تعقيداتها بحكم التعددية الكامنة فيها، وبحكم التعبيرات التي تتقمص مضمون الخطاب حول المجتمع المدني، فهو تارة مجتمع الاقتصاد والتجارة والمقاولين ورأس المال، وتارة مجتمع نسائي يدافع عن وضع المرأة الأم والمرأة المطلقة والمرأة المثقفة والمرأة الأم العازبة والمرأة المومس والمرأة الأمية والمرأة ضحية التحرش الجنسي، وتارة أخرى هو مجتمع حقوق الإنسان المدافع عن أوضاع الاعتقال بكل أشكاله وعن حرية التعبير والتظاهر والإعلام والتدين، كما أنه تارة مجتمع سياسي يطرح قضايا تسيير المجتمع والمشاركة والانتخاب، وهو تارة أخرى مجتمع رسمي تابع للدولة، عندما يتم توظيفه من قبلها لاستباق بعض المطالب والالتفاف عليها، وسحب مشروعية النضال من أجلها، باسم تعبيرات المجتمع الأخرى.
تسعى الدولة جاهدة في كل الأحوال لمد خيوط التواصل مع هذا المجتمع المدني، وإقناعه باتباع صيغ بعينها لتحقيق هذا المطلب أو ذاك. وإن في ذلك استدراك من جانب الدولة، لما قد يتحول إلى كثلة مناهضة لها، فتحمل المجتمع المدني جزءا من المسؤوليات المرتبطة بالجانب الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، بل وأحيانا السياسي كذلك، ليصبح بحكم ذلك مسؤولا عن أوضاع لم يكن مشاركا في صنعها. وبهذا الشكل تمتص الدولة بريق المجتمع المدني، وتبدد طاقاته وتشتت تركيزه وتفـقده التميز وترديه ظاهرة مائعة، فللدولة خبرة في ترويض الكيانات التي تنافسها. والدولة المعاصرة لا تبيد المجتمع المدني، ولكنها تفرغه من أهدافه، بالإشراف على رسم استراتيجيته، عبر استعمال آليات الحوار واللجان المشتركة ومبدأ الشراكة. لقد بدأت الدولة تغير نظرتها للمجتمع المدني، من نظرة الارتياب إلى نظرة أكثر عمقا، لأنها باتت مقتنعة أن من مصلحتها أن تدمج المجتمع المدني في استراتيجيتها، وأن تصيره آلة اشتغال مولدة لطاقة تعجز الدولة عن توليدها، وهي طاقة تلطيف وتحفيز في آن واحد، تلطف عنف الدولة بحيث يكون هذا العنف مدويا دون الاضطرار إلى استعماله، وهي طاقة تحفيز لأنها تشغل دينامية سياسية، كانت الدولة قد ابتذلتها جراء الخروقات التي تطال ليس فحسب الانتخابات وأجهزة البرلمان والإعلام الرسمي، وإنما العملية السياسية برمتها، فالمجتمع المدني يولد طاقة إنعاش هذه الدينامية.
لكن هناك سؤالا سيؤرق الأكاديميين قبل أن يؤرق الدولة، في المستقبل القريب جدا، إذ ما دمنا نفترض أن للمجتمع المدني من القوة ما يؤهله لإنجاز كل هذه الوظائف، وله من القوة ما يؤهله للتخلص من الأنظمة الاستبدادية، فما الذي يمنع أن يستخدم لإضعاف، أو ربما للإطاحة، بالأنظمة الديموقراطية نفسها؟ بكل تأكيد، فإن هذا السؤال - الفرض سيفتحنا على أكثر من تأمل نظري وفلسفي وسوسيولوجي.
|