المصالحة العربية: هل هي ممكنة؟
الثلاثاء, 03-مارس-2009
عبدالوهاب بدرخان - قد تشهد القمة العربية المقبلة في العاصمة القطرية نوعاً من المصالحة العربية-العربية، وقد تتم هذه المصالحة تدريجياً قبل القمة لنرى في الدوحة تكريساً لها. ولكن هل المصالحة لا تزال ممكنة؟
لا شيء مستحيلاً في السياسة متى توفرت الإرادات. هذه قاعدة معروفة، لكن الإرادات تتبلور بناء على مصالح. وهذه أيضاً قاعدة معروفة، إلا أنها لم تكن مطبقة عربياً بآليتها العلمية التي تفترض أن كل طرف يحاول التعرف إلى مصالح الطرف الآخر؛ فيتفهمها ويعمد إلى تكييفها مع مصالحه، بحيث يلتقي الطرفان عند نقطة وسط.

لا بد من ملاحظة حقيقية باتت داهمة ومحسومة؛ وهي أن "النظام العربي الرسمي" شاخ وترهل، حتى إنه نُعي مرات عدة. وطالما أن أحداً لا يريد إعلان موته، وبالتالي الخروج منه، فإن الواقع يفيد بأن هذا النظام ليس معروضاً للدفن وإنما للتطوير، وإلا فإنه سيبقى جسماً عليلاً يستدر من الشفقة والتباكي مقدار ما يتسبب بأزمات لا تلبث أن تلد أزمات.

في أربعينيات القرن الماضي ولدت الجامعة العربية لتشكل بيت النظام العربي، وخلال العقود الستة الماضية تجمعت تراكمات من المشكلات لم تعالج في حينه، أو أنها عولجت بأساليب سطحية وغير فاعلة. كان ذلك يسمى "دبلوماسية تقبيل اللحى"، كأن الأمر مجرد خلاف بين شخصين (حاكمين) فإذا تجمع الوسطاء في تبريد قلبيهما وتهدئة خواطرهما ينتهي الخلاف. لكن المشكلة التي تسببت بالخلاف تبقى عملياً بلا حل. وكان ذلك مقبولاً في البدايات؛ لأن هذا مزاج الآباء المؤسسين للدول حديثة الاستقلال، ولأنهم كانوا يؤمنون بقيم وأعراف نجحت فعلاً في تسيير الأمور، لكن يبدو أنها لم تعد تعمل في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، خصوصاً لأن طبيعة العلاقات والمشكلات تغيرت، فضلاً عن أن الأجيال الجديدة من الحكام باتت لديها طرائق تفكير مختلفة.

وكي لا نغرق في التاريخ يستحسن أن نشير إلى حدثين عربيين يختصران المشهد والمغزى. الأول كان القمة العربية العشرين التي انعقدت في آذار (مارس) 2008 في دمشق، والثاني القمة الاقتصادية في كانون الثاني (يناير) 2009 في الكويت. فقد كان الانقسام السياسي عنوان قمة دمشق، وذلك على خلفية الأزمة الحادة التي كانت ناشبة آنذاك في لبنان بين حكومة تمثل أكثرية برلمانية وتؤيدها دول "محور الاعتدال" العربي، وبين معارضة تمثل أقلية برلمانية وتؤيدها سورية وإيران. وعندما انعقدت قمة الكويت كانت الأزمة اللبنانية قد تفجرت في أيار (مايو) 2008 مما مهد لحل أمكن التوصل إليه في الدوحة، لكن هذه القمة انعقدت على خلفية انقسام أكثر عمقاً بسبب العدوان الإسرائيلي على غزة. ومع ذلك تمكنت قمة الكويت من إبراز علامتين مهمتين: الأولى تمثلت في مبادرة التصالح التي طرحها العاهل السعودي متجاوزاً الخلاف مع سورية. والثانية تكمن في أن أعمال الجانب الاقتصادي من القمة أشارت إلى أفضل السبل لا للتعاون الاقتصادي العربي فحسب وإنما خصوصاً لتطوير "النظام العربي" وتحديثه.

كانت هناك خطوة أولى مطلوبة لتعود المصالحة إلى جدول الأعمال العربي، وقد بادر الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى خطوها، معتبراً أن الخلاف العربي-العربي إذا بلغ القضية الفلسطينية فإنه يعني أن المرض الخبيث قد بلغ العظم، والأولى أن يعطى أولوية قصوى. والواقع أن الخلاف الذي فرّق صفوف المحور الثلاثي، المصري-السعودي-السوري، الذي يمثل ركيزة "النظام العربي"، لم يستهدف الشأن الفلسطيني فحسب، وإنما كان عملياً نتيجة لتراجع عملية السلام، وبسبب انقلاب إسرائيل على "مبادئ مدريد" أولاً، وعلى "اتفاقات أوسلو" ثانياً، من دون أن تعتبر الولايات المتحدة بصفتها "عراب السلام" أنها معنية بتصحيح المسار الإسرائيلي. وبدل أن ينعكس الأمر على مستوى الصراع العربي-الإسرائيلي، انعكس على العلاقات العربية-العربية؛ إذ إن جمود عملية السلام ترك أساس المشكلة بلا حل، فضلاً عن أنه ترك دولة عربية أخرى، وهي سورية، مراوحة بين الحرب والسلام.

ومع دخول إيران إلى العراق بعد غزوه واحتلاله أمريكياً، وكذلك تعمق التنسيق التحالفي بين طهران ودمشق، التقت مصالح هذين البلدين في الملفات الثلاثية التي باتت تشغل العرب: العراق وفلسطين ولبنان. وبالتالي فإن الانقسام العربي توزع على هذه الملفات أيضاً، ولا يزال يتغذى إلى الآن من تطوراتها. وفي الوقت الذي أدخلت الولايات المتحدة حلفاءها المعتدلين في متاهة أخطائها وإخفاقاتها في المنطقة، راحت إيران وسورية تراكمان الأوراق السياسية في مواجهاتهما غير المباشرة مع الولايات المتحدة، وإسرائيل (حرب لبنان 2006، أزمة لبنان 2006-2008، حرب غزة 2008، بالإضافة إلى أحداث العراق بدءاً من أواخر 2003، من دون أن ننسى انقلاب "حماس" على السلطة الفلسطينية في 2007). وبين التدخلات الأمريكية وتلك الإيرانية، أصبح "النظام العربي" مخترقاً وعاجزاً عن بناء أي استراتيجية لمعالجة قضاياه، وأي رؤية مشتركة وملزمة للدول العربية كافة.

من هنا فإن أي مصالحة مزمعة يجب أن تكون مختلفة هذه المرة، ولا يتأمن ذلك إلا إذا تعامل معها الجميع على أنها خطة عمل سياسية، أولاً لتوضيح المصالح العربية، ثانياً لتحديد آليات حمايتها، وثالثاً لوضع إطار سياسي موحد يكون الالتزام به مضموناً ويكون أي إخلال به (أو أي عجز عن الالتزام) موضع تصارح وتفاهم وليس موضع تكتم أو لعب مزدوج. ذلك أن الشعوب العربية مجّت هذه الحالة من الغموض والضياع التي تُدفع إليها بفعل انقسامات غير مشروحة وغير موضحة. وكذلك فإن العالم أصبح يتعاطى مع اللاقرار واللافاعلية العربيين على أنهما مؤشر لعدم الجدية والمصداقية.

لا يمكن أن نتصور مصالحة مقنعة إذا لم يكن هناك تحليل موحد للموقف من "عملية السلام"؛ فلا تجوز المزايدة بين مطالبين بسحب المبادرة العربية أو تجميدها، وبين متمسكين بهذه المبادرة من دون الاعتراف بما حل بها منذ طرحها عام 2002. كذلك لا تجوز المزايدة بين منادين بـ "المقاومة" ورافضين لها؛ إذ أظهرت التجربة مع إسرائيل وخداعها أن المقاومة يجب أن تبقى خياراً قائماً، لكن من البديهي أن أساليبها يجب أن تتغير وتُراجع؛ فحتى الأنظمة والحكومات التي ارتبطت بمعاهدات سلام مع إسرائيل مطالبة بابتكار أساليب لإظهار المقاومة ليس حيال إسرائيل فحسب، وإنما حيال الولايات المتحدة وأوروبا اللتين تساندانها حتى وهي تستخدم أبشع أساليب القهر ضد الشعب الفلسطيني، فضلاً عن الأسلحة المحظورة وعن استهداف المدنيين وعن التدمير المنهجي كما حصل أخيراً في حرب غزة.

استطراداً، لا يمكن تصور أي مصالحة لا تلزم الفلسطينيين بالحفاظ على حد أدنى من الوحدة الوطنية، والأهم أن تتعهد أي مصالحة عربية عدم السعي إلى انقسام فلسطيني لاستثماره كسلعة سياسية.

وفي مختلف الأحوال لا بد للعرب أن يقدموا مقاربة مشتركة وواعية للعلاقة الممكنة مع إيران، بمعزل عن المؤثرات الدولية. وفي الحالة الراهنة تبدو إيران في وضعية مراهنة قصوى على حصد ثمن المغامرات التي خاضتها في العراق وفلسطين ولبنان، وإذا كان للعرب مخاوف من تفاهم أمريكي-إيراني محتمل؛ فإن انقسامهم سيعزز حظوظ إيران في بلورة نفوذها، أما اتفاقهم وتبنيهم استراتيجية إقليمية منفتحة وغير إقصائية فمن شأنه أن يمكنهم من مواجهة المتغيرات حتى السلبية منها، بطريقة تقلل الأضرار وتحدد خطوطاً حمراً لا يمكن لأيّ أحد أن يتجاوزها للمس بمصالحهم.