تشريح العقل الإرهابي
السبت, 24-مايو-2008
العقل
مُعاذ الأشهبي - الطريقة العربية لتفسير الأشياء اعتادت إسقاط الخارج على ما يدور في الداخل، فتصورنا أن كل القرارات تأتي من التفاعلات الاجتماعية وحدها. غير أن هذا غير دقيق تماماً؛ إذ لا يجب فصل أي قرار، أو سلوك، عما يدور في النفس، لأن هذه السلوكيات وتلك القرارات تكون، في الواقع، نابعة من النزوات المكبوتة والتهويمات اللاواعية، والتي لا قدرة لنا في التأثير عليها.

الموت بوصفه رهاناً
لا ينبغي النظر إلى ما يفعله الإرهابي على أنه حادثة محضة وفعلاً مجانياً محضاً، أو ثمرة تهيؤات إجرامية لمتطرف يكفي القضاء عليه أو إزالته من الوجود. إن ما يفعله الإرهابي يتعدى، هذا كله؛ فعندما يقدم الإرهابي على الانتحار بواسطة سيارة مفخخة أو حزام ناسف مثلاً، فإنه لا ينتحر لمجرد الانتحار، وانتحاره يتعدى كونه فعلاً مجانياً. إنه يراهن بموته الخاص على نحو هجومي وفاعل، وفق تقدير إستراتيجي مؤداه الكشف عن ضعف الخصم وهشاشته، وتأكيد عقم وفشل كل وسائل هذا الخصم الموجهة لمحاربته هو وأشباهه. إن الإرهابي الذي يجعل من موته سلاحاً هجومياً مضاداً، لن يمتلك وقتاً إضافياً كافياً كي يدرك أن وسائل محاربته قد فشلت بالفعل!
وعلاوة على هذا، يجعل الإرهابي من انتحاره، أو موته رهاناً بأسمى المعاني؛ إنه يقايض موته بمطرح مأمول في الجنة والارتماء بأحضان حورياتها فور قيامه بالعملية الانتحارية وتنفيذها، وتحولُه إلى "شهيد"!
بهذا الرهان تتبدى أولى صفات العقل الإرهابي باعتباره عقلاً يائساً من الحياة، ومعادياً لها ولآمالها. إنه يراهن بالموت وينفر من الحياة، ويحكم على العقول التي تسهم في إثراء الحياة بالموت؛ لأنها تسهم في بقاء ونمو ما ينفر منه وما هو ضده، والعقل الإرهابي، والحال هذه، بيئة غنية للفكر العدمي الذي تنطفئ معه كل مباهج الحياة وزينتها وعمارتها.
إن رهان الإرهابي بانتحاره أو موته في سبيل العقيدة والدين، رهان باطل باطل ولا أصل له؛ فقد ميَّز الإسلام تماماً بين الانتحار والشهادة، وحرَّم النص القرآني المقدس قتل النفس، أي قتل المدنيين، وأجاز الشهادة؛ ليس طلباً للموت، وإنما دفاعاً عن الحياة.

ديانة للقتل
لا أتفق مع الذين يقولون أن الإرهاب لا دين له ولا مذهب، ليس لأن الذين يقفون وراء العمليات الإرهابية يسبغون على أفعالهم تسويغاً دينياً؛ بل لأن الإرهابي نفسه يرى في أفعاله أو في ما سيُقدم عليه فريضة دينية هدفها الحفاظ على العقيدة ومرضاة الله!
وللتوضيح، طبقاً للبناء الفكري المتشكل في ذهنية الإرهابي وإن بشيء من التبسيط، فقد يصاب الإنسان، أمام جريمة فردية ولأسباب شخصية، قد يصاب بتعذيب الضمير، ويصبح خارج إطار البشرية؛ أي يُطرد من حقله الإنساني كما لو كان قد قتل الناس جميعاً. أما في عملية إرهابية يُقتل فيها كثيرون من أجل إحياء العقيدة، يصبح الفاعل في حِلٍ من أي شعور بالذنب؛ لأن هذا الشعور باللاذنب يتكفل بتسويغ هذا القتل، كونه يحدث خارج الزمان والمكان وتحقيقاً لأهداف متعالية.
الإرهاب دين ومذهب الإرهابيين وعقيدتهم الوحيدة، وبتحوُّله إلى معتقد ديني، صار من المنطقي جداً أن يكتسب نفس الصفات التي تتمتع بها المعتقدات الدينية الأخرى. وكأي معتقد ديني آخر يحتاج الإرهاب، باعتباره عقيدة، إلى التضحية البشرية؛ لأنه كلما كان القربان ذا أهمية نفسية، كلما تمكن الإنسان من إرضاء ربه.
إن الدعوة إلى التضحية، التي أُبعدت عن وعي الجماعات الإنسانية، تبدو حاضرة وفعّالة في الموروث اللاواعي للإرهابيين والجماعات الإرهابية؛ والشاهد أن العمليات الإرهابية تقوم باستمرار بهذه المهمة، وتؤدي القربان البشري بأساليب مختلفة بحجة الحفاظ على العقيدة، وأضحت كل عملية إرهابية مدعومة بتسويغات دينية مضللة بمثابة مذبح إلهي مفتوح تستباح به دماء البشر من دون حرج.

السوبرمان البائس
النقطة الأولى في تحول الإنسان العادي إلى إرهابي، تبدأ من الاعتقاد الجازم بأن الإسلام والمسلمين، وحدهم، معرضون لمعاملة خاصة قاسية من قبل بقية العالم. هذا الشعور بالوحدة والاستهداف من قبل الآخرين يُكوِّن ذهنية الإرهابي ويضعه في حالة اغتراب عن الإنسانية، باعتبارها ساحة لا تبادله الاعتراف والقبول. وغربة كهذه يتلوها شعور جارف بأن الإسلام هو الضحية، يتم ترجمتها في عقل الإرهابي بطريقة مغايرة؛ إذ يغدو هذا "المسلم" الوحيد والغريب والضحية في عالم لا يرحم، يغدو جاهزاً للخطوة التالية على طريقة القتل، والقائمة على الإنقاذ القادم من الاعتقاد بحالة هائلة من التفوق الروحي والمعنوي على عالم فاسد ومنحل.
هكذا ينتقل الإرهابي من غريب وضحية مسحوقة إلى "سوبرمان" يتصور إمكانية تغيير العالم وتصحيح موازينه الخاطئة، عندما ينجح هو وجماعته، بوصفها "الفرقة الوحيدة الناجية من النار"، في إرهاب الأعداء وإرعاب وترويع أهل المِلَّة الذين ضلوا الطريق السوي أو الصراط المستقيم.
بالقتل الجماعي، يحمل الإرهابي، كما يتصور، رسالته الناجزة إلى كل البشر، التي ستغير التاريخ، وتعيد توجيهه إلى المسار الصائب. وبالقتل وحده يعطي الإرهابي الفرصة لأشباهه من "المجاهدين" وأصحاب "القلب السليم" للوصول إلى جنات الخلد التي تجري من تحتها الأنهار. إنه بهذا يعلمهم، لكنه لا ينسى نفسه؛ فعندما يُفجِّر نفسه لا يموت كأي إنسان آخر، بل يترك عالماً موحشاً وفاسداً ومنحلاً، إلى مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر!

جُند الرب
لا ينفصل عقل الإرهابي عن جسده إذن، والإرهابي حالة مختلفة عن الآخرين لأنه يقوم بالمهمة مدفوعاً بأساسيات ثابتة، ولأنه قطع شوط "التكريس" عبر حرارة "الجهاد"، ما يجعل من جسده وعقله مقتنعين بالمهمة ومستسلمين لأساسياتها الثابتة. والإرهابي، ليس بالضرورة، متديناً بصورة خاصة ولا حتى سياسياً، إنه مجرد تابِع انساق وراء من يُسمون أنفسهم "المجاهدين"، إذ لطالما كان "الجهاد" في مُجمل التجاذبات، الأكثر إغواءً بالنسبة إلى هذا الطراز من الإرهابيين.
إن الجهاد في ذهن الإرهابي كلمة وفكرة لا يفوقهما شيء؛ فمن خلالهما يتمكن الإرهابي من أن يجمع الضراوة والاستقامة في كلمة واحدة، وبواسطتها يحصل على رداءه الديني المناسب، وتكون هي من يعطيه مداره الروحي. وبتحولها إلى مسعى أساسي ووحيد له طوال وجوده، يمتلك الإرهابي مسوغاً ناجزاً لسلوكه، وهو التسويغ الذي لا يتحقق إلا من خلال دمجه في التجدد المتواصل لفكرة الجهاد المقدسة لديه.
إن الغواية الكامنة في فكرة الجهاد المقدسة لا تسمح للإرهابي برؤية نفسه دون تضخيم، صحيح أنها تمنعه من أن يُؤلِّه نفسه، لكنها تمنحه سلطة قتل من لا يروقون له، وتعطيه مكانة يتصورها أساسية في الكون، بوصفه كائناً اشترى الله منه نفسه!
وتتبدى هذه الغواية أكثر في اندفاعه ما يتصور الإرهابي أنه إلى الأمام، وبشكل لا راد عنه، نحو غاية مؤداها التأكيد العلمي لمكانته الأساسية في الكون، كخادم أو محقق وحيد للأهداف الإلهية والأفعال ذات الإنجاز الألوهي!
وبسبب هذه المكانة المُتخيلة، فإن عقل الإرهابي ليس أكثر من تشكيل لمنطقة رمادية مبناها أفكار مغلوطة وتهويمات ساذجة، تحولت عنده إلى يقينيات مطلقة، ومنحته تسويغاً صار بموجبه محتكراً للحقيقة، وهو الاحتكار الذي جعله ينظر إلى من يختلف مع تهويماته المغلوطة بوصفه شريراً وكافراً. لقد أملى هذا الاحتكار على الإرهابي مهمة تأكيد تلك الحقيقة، الأمر الذي خوّله تحويل أفكاره إلى أفعال والمبادرة، بالتالي، إلى العنف والعدوان تحت شعار "إحياء العقيدة" و"الذود عن الدين".

إخوان القاعدة
إن العقل الإرهابي عقل أعمى، لا يرى إلا نفسه؛ إذ لا عقل إلا عقله. والعقول الأخرى بالنسبة إليه ليست عقولاً، ولا ضير من إقصائها لأنها لا شيء، واللاشيء لا شيء له من الحقوق، وأولها حق الوجود. وبهذا يسوغ الإرهابي لنفسه الحكم على الآخرين، كل الآخرين، بالموت.
وختاماً، فإن ما قلته آنفاً ليس حديثاً عن عقل إرهابي من أعضاء الجماعات الإسلامية المتطرفة كـ"القاعدة" و"الجهاد" فحسب، بل أيضاً عن عقل الإرهابيين من أعضاء الجماعات الأخرى، التي تصف نفسها بالمعتدلة والمسالمة، كجماعة "الإخوان المسلمين" مثلاً. لا يمكن الاعتداد بالفوارق الظاهرية بين هذين العقلين، ذلك أن التشكيل الفكري لكلاهما متشابه ومن النوع نفسه. وباعتبارها حالة ذهنية، لا تختلف "القاعدة" كثيراً عن "الإخوان المسلمين"؛ والشاهد أن المنهج الفكري لـ"الإخوان" يضخم الجانب العقائدي – الأخلاقي على حساب الجوانب السلبية الاجتماعية، ويقيس الأوضاع والجماعات بمقياس عقائدي، وينتهي هذا المنهج إلى تقسيم الناس إلى "إخوان" و"أعداء"، ويغلب جانب الرفض في تعامله مع الواقع والثقافات الأخرى, وهو، لهذا كله وغيره، أُحادي النظرة ويشكل، في نهاية الأمر، منظومة مغلقة هي ذاتها المنظومة التي يتشكل عليها عقل "القاعدة". وكلا العقلين في نهاية المطاف، يشتركان، أو بالأصح يتوحدان، في رفض الواقع وتكفير الآخرين والحكم بجاهلية المجتمع باعتباره مخالفاً لأحكام الشريعة. كما يتوحدان، في انغلاقهما وجمودهما الذهني، وارتكازهما على ثوابت ومسلمات لا تقبل النقاش؛ لأنها محاطة بدلالات وجدانية وبشحنات لا شعورية تجعل من كل نقاش فيها نقاش في معنى الإسلام نفسه!