الثقافة والوحدة قراءة في الثابت والمتغير
الاثنين, 19-مايو-2008
هشام علي بن علي
هشام علي بن علي -
تمهيد
بتحقيق الوحدة اليمنية في 22مايو 1990م، ظهرت مجموعة من المتغيرات في الحياة السياسية اليمنية ، فقد اندمجت دولتان أو نظامان سياسيان ، وحل محلهما دولة واحدة ،لها دستورجديد يختلف في جوهره عن دستوري النظامين الشطرين السابقين، إذ أن هذا الدستور الجديد يعمل على ترميم الجغرافيا وإعادة تكوين تاريخ اليمن الموحد ، الذي تعرض للتجزئة والتمزق خلال مراحل سابقة من التاريخ . وهذا الدستور الذي جعل هدفه الرئيسي إعادة تنظيم المكان والزمان ، لم يكن حاصل اللحظة التاريخية للاتفاق بين النظامين، الذي تم التوقيع عليه في 27نوفمبر 1989، في مدينة عدن، وبدأت بعده الإجراءات التنفيذية لإعادة توحيد اليمن مثل قرار حرية التنقل بين الشطرين وإلغاء النقاط الحدودية،وكذلك إلغاء القيود الجمركية للبضائع اليمنية وإنشاء شركة نفط مشتركة وغيرها من الإجراءات . كان دستور الوحدة نتاجا للجنة الدستورية، التي كانت واحدة من لجان الوحدة التي أعلن عن تشكيلها بعد اتفاق طرابلس بين الرئيسين اليمنيين في 1972م ضمت هذه اللجنة في عضويتها مجموعة من الشخصيات السياسية والفكرية الوطنية المتجانسة ، وقد استطاعت إنجاز الدستور المقترح لدولة الوحدة .
بدا هذا المشروع شبيها بالحلم وظن كثيرون أنه سيبقى حبراًعلى ورق، فهذا المشروع لم يحظ بمناقشة فعلية من النظامين ، وظل ملفاً مغلقاً من ملفات لجان الوحدة المحفوظة في أرشيف وزارات شؤون الوحدة في الشطرين.
وفي أعقاب أحداث 13يناير 1986م، في مدينة عدن ، التي كشفت عن حروب قبلية ومناطقية خلف حجاب الأيديولوجيا، الذي كان يوحد قادة الحزب الاشتراكي اليمني. وكان لهذه الأحداث ظلال اقليمية وعالمية ، لا سيما بعد بروستريكا جورباتشوف، التي هدفت إلى إعادة ترتيب الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، وما ترتب عنها من تغيرات في العالم في هذه الفترة الزمنية الحرجة ، بدأت أقكار الإصلاح السياسي تتحرك في أوساط قادة الحزب الاشتراكي ، وينبغي أن نشير هنا الى آثار أحداث يناير 1986م، التي قضت على عدد من القادة التاريخيين للحزب وكثير من كوادره، خاصة الكوادر الاعلامية والثقافية والتنظيمية ، بينما انقسم القادة الآخرون بين الجماعة المؤيدة للرئيس السابق علي ناصر محمد، والذين غادروا الشطر الجنوبي من اليمن، مع أعداد كبيرة من الحزبيين والعسكريين، ليستقروا في الشطر الشمالي ، وبقى الخلاف قائماً مع الجناح المنتصر من الحزب الاشتراكي ومع مؤيديهم من أعضاء الحزب الموجودين في الشطر الشمالي من اليمن. نلاحظ أن حرب 13 يناير شقت البنية التنظيمية للحزب الاشتراكي ، وكشفت خلافات واختلافات تذهب إلى مدى أبعد من الايديولوجيا أو السياسة وحتى المصالح.
وفي صنعاء لم يكن الوضع أحسن حالاً، رغم الاستقرار السياسي والوفرة الاقتصادية الناتجة عن تحويلات المغتربين من المملكة العربية السعودية ، ودول الخليج العربي، كانت هناك متغيرات داخلية وإقليمية مؤثرة، فالقوة القبلية أخذت تستعيد تأثيرها على المجتمع ، وحاولت تشكيل مراكز قوى داخل سلطة الدولة، مستغلة اضطراب العلاقات السياسية مع دول الجوار، لا سيما بعد حرب الخليج الأولى، وظهور تحالف القوى مع النظام الحاكم في العراق الذي خاض حرباً قاسية لعقد من الزمان مع حكم الخميني في إيران، وكان لهذه الحرب أثر بالغ في تفكيك النظام الإقليمي العربي ، الذي وصل ذروة الانهيار في أعقاب الغزو العراقي لدولة الكويت.
وقبل هذا الغزو كان النظام الإقليمي العربي قد أخذ في التآكل، وبدأت تبرز تحالفات إقليمية جديدة، مجلس التعاون الخليجي ، والاتحاد المغاربي ، وفي محاولات اللحظة الأخيرة برز مشروع دول مجلس التعاون العربي الذي إلى جانب اليمن (الشطر الشمالي) كلا من مصر والأردن والعراق ولم يكن هناك رابط إقليمي خاص يجمع هذه الدول ، ولكن من الواضح ان ما يجمع بينها هو ما يشبه الحلف العسكري المواجه ، وهو تحالف لا يمكن أن يكون كافيا للتحول إلى مروع سياسي ، ولذلك انهار هذا المجلس قبل أن ينشأ فعلياً.
ينبغي أن نضيف الى هذه العوامل ، عاملاً آخر لا يقل أهمية ، بل أنه يمثل خطورة أكبر ، لانه انبثق من قلب المجتمع . فهذه المرحلة من نهاية ثمانينات القرن الماضي ، شهدت الظهور القوي للحركات الاصولية الإسلامية التي خرجت منتصرة من معركة الجهاد في أفغانستان. وكانت فكرة الجهاد ضد النظام الشيوعي في جنوب اليمن تراود الأصوليين وتهدد بحرب أهلية جديدة تنتظر الفرصة السانحة للانطلاق . ونلاحظ أن هذا الخطر ظل قائماً حتى بعد قيام الوحدة ، وكان لهذه الجماعات الأصولية دور مهم في تغذية الأزمة السياسية بين الحاكمين، المؤتمر والاشتراكي التي انتهت إلى الحرب في 1994م.
يبرز أيضاً العامل الاقتصادي في هذه المرحلة ، فالاكتشافات النفطية ظهرت بالصدفة بي المواقع الحدودية بين الشطرين ، وهددت بنشوب حرب حدودية تغذيها جميع القوى المعارضة للنظام الاشتراكي في الجنوب ، ابتداء من الجناح الاشتراكي المهزوم في يناير الى تجمعات القوى المعارضة النازحة من الجنوب في فترات مختلفة منذ الاستقلال الوطني، ويضاف إليهم القوى الأصولية والجهادية العائدة من أفغانستان، والحالمة بتوسيع الجهاد ضد الشيوعية ونقله إلى أرض الوطن . وكاد لهيب النفط أن يشعل الحرائق في اليمن ، إلا أن العناصر الوحدوية في الشطرين استطاعت أن تسكت طبول الحرب ، وبدأت لجان سياسية واقتصادية تبحث هذه الأزمة التي أثارتها الاكتشافات النفطية والتي وضعت على طاولت المفاوضات خرائط متعددة للحدود بين الشطرين كان تشابكها وتعقدها يزيد من حدة الأزمة ، كما أن البحث في قضايا الحدود كان أمراً مخجلاً للنظامين ، فهذه الحدود لم تكن موضوعاً مقبولا للتفاوض من قبل النظام الإمامي الذي أصر على وحدة اليمن رغم الاحتلال البريطاني للجنوب.
وقد خلصت اللجنة المشتركة المكلفة بمعالجة هذه الأزمة الناجمة عن ظهور النفط ، إلى اقتراح إنشاء شركة مشتركة للنفط والاكتشافات النفطية، في المناطق المشتركة . وهو ما تحول إلى قرار اتفق عليه النظامان وبذلك انتزع فتيل الحرب التي كانت تريدها أطراف عديدة .
يمكن أن نستنتج من هذا التمهيد أن مناخ الأزمات السياسية والاقتصادية كان سائداً منذ انفجارالصراع داخل الحزب الاشتراكي في يناير 1986م، أو انه بدأ قبل ذلك بسنوات وكانت أحداث يناير أول نتائجه المباشر ، فالأزمة التي واجهها الاتحاد السوفيتي بعد تورط الجيش السوفيتي في حرب أفغانستان ، قادت إلى ذلك التفكير الجديد الذي أعلن عنه غور باتشوف في البروستريكا والإصلاح السياسي ، وكانت عدن المحطة الأولى التي تم أختيارها لتجربة تفكيك نظام اشتراكي في العام الثالث ، وهو ما تم إعادته في سيناريو أكثر دقة في المعسكر الاشتراكي الاوروبي ، وبأقل قدر من الخسائر البشرية والمادية وقد أطلق السياسي والمؤرخ اليمني الدكتور محمد عبدالقادر بافقيه اسم " لعبة روليت روسية" على أحداث يناير1986م،في إشارة دقيقة إلى نزعة المغامرة والمقامرة التي قادها الروس في عدن .
إلا أن الإشارة إلى العامل الخارجي وامتدادات الأزمة الشيوعية إلى اليمن ، لا تنفي عوامل الصراع الداخلي التي تنتمي إلى أصول قبلية ومناطقية وثقافية ، والتي كانت قابلة للصراع والحرب بمجرد استدعائها تحت أية شعارات أيديولوجية أو سياسية . وهو ما يشير إلى الأزمة الفكرية والسياسية التي كانت قائمة داخل الحزب وداخل المجتمع أيضاً .
وسوف نعود لا حقا لمناقشة هذه الأزمات العديدة التي عرضنا لها في هذا التمهيد ولكن الهدف الذي سعينا لتحقيقه في هذا التمهيد هو التأكيد على أن خيار الوحدة ، لم يكن أمراً تكتيكيا عارضاً، أو شكلاً من الهروب إلى الأمام من أحد النظامين أو من كليهما ، ولكن هذا الخيار ارتكز على جهد كبير وحصيلة عمل وطني يمتد إلى مراحل سابقة لنشوء الجمهوريتين ، لا أقصد البعد التاريخي والحضاري لليمن الموحد ، ولكن ما اعنيه هو موقع الوحدة في الحركة الوطنية والسياسية والفكرية التي ظهرت منذ بدايات القرن الماضي . وهذا ما يؤكد أن الوحدة مشروع وطني وسياسي، ينتمي إلى المستقبل ، بقدر ما يستلهم أشعاره من الماضي .
ـ الوحدة والثقافة
قبل أن نرصد أثر المتغير الوحدوي في الثقافة اليمنية ، علينا أن نتوقف عند مسألة مهمة ، وهي وحدة الثقافة اليمنية ، فالتجزئة التي شملت الأرض والاقتصاد والسياسة و أجهزة التعليم والأمن والإدارة والإعلام ، لم تستطيع أن تمس الثقافة ، لأن المجتمع اليمني ظل موحدا على الرغم من خشبة التجزئة وبراميل الانفصال، التي كانت تشوه وجه الإنسان اليمني و روحه وضميره . وهو ما عبر عنه الشاعر عبد الله البردوني في قصيدته الشهيرة (( الغزو من الداخل )) التي قال فيها هذين البيتين المعبرين عن حالة الانفصام في النفس والفكر :
يمانيون في المنفى ومنفيون في اليمن
جنوبيون في ( صنعا ) شماليون في ( عدن )
فعلى الرغم من عوامل التجزئة البادية على السطح ، كان الإنسان اليمني يحس بغربه الروح وكآبة المنفى ، داخل هذا الوطن الذي ينشطر على نفسه ويصر على تحويل الجغرافيا إلى تاريخ ، فالشمال والجنوب يصبحان هوية تاريخية في ظل الانفصال والنظامين السياسيين القائمين ، أو هما يحاولان أن يكونا كذلك ، وهو ما يرفضه كل مواطن يمني يتوزع جسده وشجرة أنسابه في كل الأرض اليمنية ، وبدون حدود أو فواصل بين شمال وجنوب . استطاع البردوني بهذه القصيدة الغاضبة أن يوقف محاولات النظامين السياسيين ، تشطير الجنسية اليمنية إلى شمالي وجنوبي .
الثقافة الواحدة والمثقف الوحدوي كانا حارسي الوحدة اليمنية، وحدة الهوية والتاريخ والمصير. وبدأ واضحاً أن التجزئة، على الرغم من استنادها إلى علم ونشيد وطني وكيان سياسي وجيش وأجهزة أمن وغيرها من تكوينات ، الا أنها لم تنفذ إلى وحدة الإنسان والهوية الثقافية والتاريخ، بل أنها الأرض ظلت موحدة على الرغم من علامات التشطير الظاهرية، والسطحية ، والتي لم تتحول إلى حدود فاصلة ، لان خطوة مثل هذه كانت مخالفة لطبيعة الجغرافيا والتاريخ ،وهي معاكسة لإرادة الشعب اليمني ، الذي تمسك بالوحدة في ظل الإمامة والاستعمار، وكانت الوحدة أول أهداف الثورة ضد النظامين.وعلى الرغم من وحدة الثقافة اليمنية في ظل التجزئة، وعلى الرغم من التكوينات الأيديولوجية والاختلافات السياسية التي ظهرت في واجهة الخطاب الثقافي التشطيري ولم تستطع أن تمس جذرالوحدة الثقافية والهوية الوطنية ،على الرغم من كل ذلك فإن انجاز الوحدة السياسية في 22مايو 1990م، مثل مشروعاً تاريخياً هاماً، ومنعطفا حاداً في تاريخ اليمن المعاصر ، وكانت له آثار واضحة على الثقافة .. ونستطيع أن نتحدث عن عدد من المتغيرات السياسية والإيديولوجية والتاريخية التي لا مست الثقافة وأثرت على الخطاب الثقافي :
- شكلت الديمقراطية أبرز المتغيرات التي حملها المشروع الوحدوي، فالوحدة اليمنية كانت جزءاً من مشروع وطني كبير أو لنقل أنها بمثابة وضع اليمن في سكة حديد قطار التقدم التاريخي، أي أنها نقطة الانطلاق وليست محطة النهاية في هذا المسار.من هنا تزامن المشروع الوحدوي مع إطلاق التجربة الديمقراطية، وما تمثله من تعددية سياسية وحرية تكوين الأحزاب وحرية الصحافة والتعبير والحق في الاختلاف الفكري، فالوحدة التي جمعت الكل في واحد الوطن والإرادة السياسية والثروة والاقتصار،لكنها وهي توحد أعطت الحق في التنوع والاختلاف وحرية الاختيار في الحقوق التعبير والانتماء السياسي الحزبي.وتخلت عن النظام الشمولي وحكم الحزب الواحد وشكل الدولة الكلية
- نهاية الايديولوجيا أو بتعبيرأدق تراجعها الذي ظهرعلى المستوى الدولي فانهيار الاتحاد السوفيتي المعسكر الاشتراكي كان يعني نهاية الايديولوجيا الماركسية، وفي اليمن حملت الوحدة أسسا فكرية جديدة حيث أكد دستور الجمهورية اليمنية على إن الدين الإسلامي هو المصدر الأساسي لكل القوانين والتشريعات ولئن عقبنا على القول بنهاية الايديولوجيا بتعبيرآخر وهو تراجعها، فإن ذلك بقصد الحديث عن نهاية أو تراجع الايديولوجيا الماركسية في الثقافة اليمنية وفي المقابل برزت اتجاهات ايديولوجيه أخرى قومية وإسلامية وأصبح الإسلام السياسي والاتجاهات الأصولية أكثر قوه كان هذا التشكيل الايديولوجي الصاعد جاء يرث أو يملا الفراغ الذي خلفه نهاية الايديولوجى الماركسية ، كنظام سياسي وخيار فكري .
ـ الثقافة والسياسة وتحولاتهما ،وتبادل الأدواربين الثقافي والسياسي .هذه المسألة احتلت مكانة رئيسة ليست في الثقافي وحسب ،بل في التطور التاريخي والسياسي وفي مسيرة الحركة الوطنية بشكل عام . فالمثقف الذي احتل مواقع القيادة في بدايات التشكل التاريخي للحركة الوطنية اليمنية،ما لبث أن تراجع وترك مكانه للسياسيين المحترفين،وفي مسيرة التطور السياسي اليمني ،تناوب على القيادة إلى جانب السياسيين ،القادة العسكريون والمناضلون الثوريون الذين جاءوا من أصول اجتماعية بسيطة ، ولم يحملوا ثقافة عالية ، وان كانوا متمرسين جيدين في صفوف الايديولوجيا . ومن المعروف أن دور السياسة تعالج أعقد ما في الكون وأثمنه : الحياة والقدر والحرية لدى الأفراد والجماعات ولدى الإنسانية . ومع ذلك فالسياسة هي التي تسود ا أكثر الأفكار تبسيطا واقلها استنادا إلى أساس و أقساها وأفتكها .أن اقل صفوف التفكير تعقيدا هو الذي يسود هذه الدائرة التي هي اعقد الدوائر جميعها . فأكثر البنى العقلية طفولة هي التي تفرض فيها رؤية صراعية تتواجد فيها الحقيقة والأكذوبة ،الخيروالشر. والدائرة السياسية هي التي يسود فيها ،التفكير المغلق والتفكير الدوغماتي ،التفكير المتعصب ، المحرم والمقدس . ومن المؤكد أن السياسة ككل شي بشري،تتغذى بأساطير،تتغذى هى ذاتها ، بأعمق طموحاتنا ،،هكذا يرى المفكر الفرنسي ادغارموران معنى السياسي ودورها، وإذا كانت السياسة على ما يصفها الفيلسوف الفرنسي ادغارموران ،هى شكل من التبسيط للفكر والممارسة الثقافية لمعالجة اعقد شؤون المجتمع والحياة وهذا مايجعل هذه الممارسة تجريبية أو نفعية ،ويزيد من تعقيد المسألة ،عندما تعمل السياسة 0بهذا التبسيط في مجتمعات 0تواجه تحديات مصيرية مثل مجتمعنا 0ولذلك كانت محاولات المثقف اليمني طوال مرحلة تطور الحركة الوطنية ونشوء الدولة اليمنية بشكلها التشطيري )أن يكون إلى جانب السياسي ، أو إلى يسارالسياسي على نحو ما يقول الأستاذ عمر الجاوى ، كان المثقف مستشاراً للحاكم ، مستشاراً معلنا أو خفيا ، أي كان يراقب وينصح ،وفي بعض الأحيان ويتمرد على آلية العلاقة بين السياسي والمثقف 0وربما أن المثقفين في هذه العلاقة ، أومن أجل الحفاظ على استمرار هذه العلاقة وبقائها ، خسروا كثيرا، من تراثهم الفكري الخاص ، وقدموا تنازلات واضحة ،ذلك أنهم من أجل أن يدخلوا السياسة ،تخلوا عن تعقيد الفكر وهجروا العمق الثقافي واكتفوا بالازدواجية والتبسيط، لكي يؤسسوا خطاباً سياسياً وثقافياً مقبولاً بين الطرفين . لعل التجربة التاريخية وحالة المجتمع اليمني وبؤس الوعي العام تبرر هذا التنازل ، فضرورات السياسة اقتضت التخلي عن تعقيد الفكر، ولكن تطورالحركة الوطنية وتطور الفكر السياسي والتجربة السياسية والحزبية في اليمن ، بينت أن هذا الدور الغائب كان سبب كثير من الإخفاقات والكوارث والحروب . وان المثقف ينبغي أن يذكر بالتعقيد الأحزاب والساسة ، بدلا من أن يكون موقعا لبياناتهم السياسية.
- بإعلان التعددية السياسية وحرية تكوين الأحزاب والتنظيمات السياسية ، وربما قبل ذلك بنحو عام ، أي في أجواء إعلان بيان الوحدة في 1989م، برزت ظاهرة مهمة في الحياة السياسية والثقافية .حيث تحول كثير من المثقفين البارزين إلى قادة سياسيين ، شكلوا أحزاب سياسية أو استعادوا خلاياهم التنظيمية القديمة التي ظلت كامنة تحت الأرض خلال الفترة السابقة ، وقبيل إعلان الجمهورية اليمنية ، كانت هناك العديد من الأحزاب والتنظيمات .بعضها أحزاب قومية أو وطنية أو إسلامية لجأت إلى العمل السري أيام الحكم الشمولي في الجنوب وتحريم الحزبية في الشمال . بعضها الآخر تشكل بقيادة مثقفين استعادوا تنظيماتهم السابقة ، مثل عمر الجاوي وحزب التجمع الذي أنشأه مع عدد من رفاقه القدامى ، هناك تنظيمات أخرى نشأت بقيادة مثقفين يحاولون المشاركة في توجيه مسار الوحدة والمناخ الجديد الذي بعثته في الحياة السياسية ، وهذه هي تجربةالدكتورمحمد عبدالقادر بافقيه وعمر طرموم وفيصل بن شملان في تجربتهم في تجربتهم القصيرة الأجل بتأسيس المنتدى الإسلامي ، وثلاثتهم من المثقفين الذين خاضوا تجربة في العمل السياسي والحركة الوطنية ،لكنهم ابتعدوا كثيراً ،عن مسار الأحداث خلال العقدين الأخيرين ، ومن مناخ التجديد السياسي والانبعاث الروحي الذي أوجدته أجواء الوحدة، أعادوا حساباتهم السياسية وقرروا العودة للحياة السياسية ، إلا أن قطار العمر لم يتح لهم أن يعيدوا التجربة ثانية.
- مثلت الحداثة السياسية خيارا رئيسا للوحدة ، فالديمقراطية والتعددية السياسية وحرية التعبيروغيرها من المظاهرالتي لا زمت إعلان الوحدة التاريخي ،كانت جميعها تمثل انحيازا نحو الحداثة السياسية والثقافية والتحديث المجتمعي . الا أن توزع المجال السياسي إلى اتجاهين : تقليدي وحديث، كان عاملا معيقا لتجربة البناء الديمقراطي. خاصة أن المجال التقليدي ببنياته القبلية والعشائرية وروابطه العائلية وثقافته التقليدية، كان أكثر قوة وتنظيماً وتماسكا من المجال المعبر عن الحداثة السياسية ،مثل الأحزاب والتنظيمات والنقابات والاتحادات وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني ،التي لم تستطع أن تسيطرعلى المجال السياسي وأن تعمق خيارات الحداثة السياسية التي تعبر عنها قوانين التعددية السياسية وتشكيل الأحزاب وحرية التعبير ، وعلى العكس من ذلك ،ونلاحظ أن المؤسسات التقليدية في المجتمع استطاعت أن تتحرك بذكاء لتصبح متوائمة مع هذه الأشكال الجديدة ، وأصبحت البنية القبلية تسعى لأن تكون جزءاً من مؤسسات المجتمع المدني 0
- هذه بعض ابرزالمتغيرات التي تزامنت مع قيام الوحدة ،ونلاحظ أنها أثرت بقوةعلى الثقافة 0فالاختيارات السياسية التي ظهرت وتاسست بموجب الدستور والقوانين ، كانت تجمع بين السياسي والثقافي ، هكذا تأسس مناخ جديد لتحولات الخطاب الثقافي .
ـ وفي الوقت ذاته ، برزت عدد من المتغيرات العربية والعالمية ، التي أثرت بدورها على أوضاع السياسة والمجتمع والثقافة في اليمن . فحرب الخليج الثانية وعملية غزو الكويت انعكست على الشارع السياسي اليمني ، وعودة نحو مليون مغترب يمني من الخليج والسعودية كانت واحدا من اخطر التحديات التي واجهتها دولة الوحدة في عامها الأول ، وكانت لها انعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية . ولعل أهم هذه الآثار ، الأثر النفسي والقدرة على التكيف مع المجتمع اليمني ، خاصة بالنسبة لجيل من اليمنيين ولد وتربى خارج اليمن ، وعلى الرغم من عدم وجود فوارق ثقافية كبيرة بين اليمن ومحيطها ، إلا أن فروقا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية ومستوى التعليم كانت تترك آثاراً واضحة على نفوس العائدين إلى الوطن .
هذا الوضع الجديد الذي برزمع عودة هذه الجموع من المغتربين ، يجعل سؤال الهجرة ملحا ، والبحث عن آثاره المجتمعية مسألة ثقافية ، لأنها تتعلق بالاندماج والتكيف . ومثلما أفرزت الهجرة اليمنية أدباً متميزا عبرعن معاناة اليمني المهاجر ومعانات الأهل الذين خلفهم في الوطن ، لاسيما معاناة المرأة والأطفال كذلك ظهرت بعض الأعمال الأدبية ، في هذه المرحلة ، ومن قبل جيل من الكتاب الشباب الذين عاشوا تجربة الهجرة والعودة وعبروا عن معاناة جديدة وإحساس بالغربة في الوطن ، وهي ظاهرة أدبية عارضة ، ما لبثت أن اختفت لأحد سببين أما لأن أصحابها تكيفوا مع الواقع الجديد ، أو لأنهم عادوا إلى مهاجرهم .

ـ الثقافة والتحولات العالمية
1ـ كان قيام الوحدة متزامنا مع عدد من التحولات العالمية ، التي كان لها أثر واضح على الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية في اليمن . فنهاية صراع القطبين العالميين ، هذا الصراع الذي كانت له امتدادات ورؤوس حادة في النظامين الشطريين قبل الوحدة ، كما كانت له امتدادات أيديولوجية وثقافية داخل اليمن وفي أوساط النخب السياسية والثقافية ، إن تفكك القطب الاشتراكي ونهاية الأيديولوجية الماركسية ، ألقى بظلاله على خارطة القوى السياسية والاجتماعية والثقافية في اليمن . فالأحزاب السياسية الاشتراكية والقومية بدأت عملية مراجعة مترددة لأيديولوجياتها ، وكانت انشغالات الانتقال إلى الوحدة وإعادة ترتيب الأوضاع السياسية والحزبية تطفى على المسألة الأيديولوجية والثقافية داخل هذه الأحزاب ، الأمر الذي جعلها تؤجل النظر فيها ، وهو ما ظهرت آثاره في البرامج الانتخابية لهذه الأحزاب ، في أول تجربة للانتخابات البرلمانية في 1993م ، حيث لم تظهر اية تمايزات فكرية أو أيديولوجية بين الأحزاب والقوى السياسية ، ما عدا ذلك التمييز الواضح بين القوى التقليدية والأحزاب الإسلامية من جهة ، وقوى الحداثة السياسية وأحزابها القومية والاشتراكية من جهة أخرى ، على الرغم من حالات العبور وتبادل الأدوار بين الفريقين لأن هذين التيارين لم يكونا يعكسان تمايزا فعليا ودقيقا على المستوى التاريخي أو الاجتماعي ، وكان الأمر في الغالب ، يقتصر على الشعارات العامة والولاءات الفردية أو الأسرية أو العشائرية أو القبلية .
ـ مناخ العصر الذي هبت رياحه على العالم ، مع العولمة واستطالتها السياسية والتجارية والثقافية ، وصلت آثاره إلى اليمن . وكانت برامج الإصلاح الاقتصادي والمالي التي يقودها البنك الدولي وصندوق النقد ، احد المداخل المهمة لبرامج العولمة وتأثيراتها ، كما كانت تقارير حقوق الإنسان ومتابعة أوضاعها في اليمن وجها آخر ، وفي هذه المرحلة أيضا برزت مؤسسات المجتمع المدني وانتشرت المنظمات غير الحكومية ، وقد حظيت هذه المؤسسات بدعم خارجي ،وهذا الشكل من العمل غير الحكومي هو أحد أوجه العولمة و أحد أهدافها الرئيسة لاختراق السيادات الوطنية . وكانت المنظمات غير الحكومية الثقافية والإبداعية والمؤسسات المدنية المراقبة للتحول الديمقراطي وقضايا حقوق الإنسان ، هي أكثر الأشكال انتشاراً .
ومثلما كانت تكوينات الأحزاب والمنظمات السياسية وانتشار الصحافة الحزبية والأهلية الظاهرة الأكثر بروزا في أعقاب الوحدة وفي العامين الأولين من تحقيقها ، كانت مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية الظاهرة الأكثر بروزا في السنتين التاليتين لحرب 1994م .
وفي ظل مناخ التحول الديمقراطي ، كان انتشار هذه المنظمات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني أحد المظاهر الأساسية لهذا التحول ، إلا أن تقييم فاعلية أداء هذه المنظمات ودورها ومشاركتها في الحياة الثقافية بصورة متميزة ومختلفة عن أداء المؤسسات الحكومية لم يظهر بعد بصورة جلية وواضحة . وربما أننا نحتاج إلى فترة أطول ، تتاح فيها الفرصة الكافية لهذه المنظمات حتى تتأسس جيدا وتضبط مواردها ومصادر دعمها ، وتستطيع أن تخطط لبرامج قصيرة وطويلة الأمد . ويمكن أن نلاحظ أن بعضا من هذه المؤسسات ، التي حصلت على مصادر دخل أو اعتمدت لها مصادر دخل من المؤسسين ، كانت ناجحة وقادرة على إعلان حضور متميز في الحياة الثقافية . بينما كانت بعض هذه المنظمات غير الحكومية واجهات ظل لبعض الأحزاب السياسية أو القوى الاجتماعية أو الفرق الدينية ، أي أنها شكل جديد من الممارسة السياسية بواسطة الثقافة أو تحت غطائها .
ـ ثورة الاتصال والمعلومات كانت أحد معالم العولمة ، وقد شهدت تطوراً هائلاً في العقد الأخير من القرن العشرين . وعلى خلاف المرحلة السابقة من تاريخ اليمن ، حيث وصلت المطبعة والصحافة بعد قرون من ظهورهما في أوروبا ، وصل الراديو والتلفزيون بعد عقود من اختراعهما ، وانقضى أكثر من خمسين عاما لكي يعرف اليمني التلفون . هذه الفواصل الزمنية الكبيرة ، تحولت إلى سنوات قليلة أو بضعة أشهر لكي تصل آثار ثورة الاتصال والمعلومات إلى اليمن . ففي ظل مناخ الديمقراطية الناشئة على الأرض ، والسماوات المفتوحة والمليئة بالقنوات الفضائية ، وشبكة معلومات انترنت التي تملأ الكون بشباك معلوماتها ،وفي ظل حرية الصحافة والمطبوعات التي فتحت السوق اليمنية أمام الصحافة العربية والعالمية ، هذه المناخات الجديدة كان لها تأثيرواضح على بنية الثقافة والوعي الثقافي والسياسي. فعلى المستوى العربي ، كانت عودة صحيفة" الحياة" إلى الصدور في لندن ودخولها إلى السوق اليمني ، وافتتاح قناة تلفزيون الشرق الأوسط "mbc "، من المظاهر الإعلامية الأكثر تأثيرا في اليمن خاصة أن الشأن الداخلي اليمني وقضايا الحدود من أهم القضايا التي اهتمت بها" الحياة" وقناة "mbc "، وقد تزامن ظهور هاتين الواسطتين الإعلاميتين مع قيام الجمهورية اليمنية، ومع التحرك السياسي الذي انفجر فجأة في اليمن ، بعد عقود من الحكم الشمولي وتحريم الحزبية وإحكام الرقابة على الصحافة والمطبوعات وحرية الرأي.
- اليمن في ظل الوحدة كسر حاجز العزلة وخرج إلى المحيط الإقليمي القومي والعالمي ، وكانت تجربة الوحدة فريدة في هذه المرحلة من التحول العولمي ، الذي يشهد تفتيت الوحدات القومية وتفكيك السيادات الوطنية وإثارة الحروب الأثينية والطائفية والدينية ، وكانت نماذج تفكيك الوحدة في الجمهوريويات السوفيتية والحروب الدينية و القومية والأثينية في ما يسمى جمهورية يوغسلافيا، وعملية إنهاء الدولة في الصومال ، وتحويل المجتمع إلى مجموعة قبائل متصارعة ، وغيرها من المظاهر التي اجتاحت العالم ، الوحدة اليمنية مثلت إبحارا معاكسا لهذا التيار العالمي السائد ، حتى أن كثيرا من الباحثين والمحللين السياسيين كانوا يراهنون على أن هذه الوحدة لن تدوم طويلا، وأضاف أحد الأجانب أن اليمن قد تنقسم إلى أكثر من شطرين، أو أنها في أحسن الاحتمالات قد تعود للانقسام إلى شطرين اثنين.
ومن البديهي أن هذه الأفكار كانت تستند على مراقبة ورصد للواقع السياسي اليمني ، وللأزمة السياسية التي قامت بين الحزبين الحاكمين اللذين حققا الوحدة ، وكذلك كانت هذه الكتابات تعكس الاتجاه العالمي السائد الذي يميل إلى تفكيك الوحدات القائمة منذ عقود.
5ـ اوضاع المرأة اليمنية هي أيضا من القضايا التي اهتمت بها الدول الغربية المانحة والمنظمات الدولية ، وشجع هذا الاهتمام على مشاركة المرأة اليمنية في الحياة السياسية والثقافية بشكل فاعل وعلى الرغم من ذلك ، فأن بعض القوى السياسية اليمنية ظلت منيعة في وجهه مشاركه المرأة في قيادة أحزابها السياسية ، من جهة أخري ، كانت بعض الكتابات الغربية تستعيد عصر الحريم وهي تحلل أوضاع المرأة اليمنية ، فقد أثار كتاب صدر في بداية التسعينات ، وضع المرأة اليمنية على أنها رهينة أو سجينة ، حيث تابعت مؤلفة الكتاب قضية فتاتين يمنيتين تحملان الجنسية البريطانية ، لأن أباهما مغترب يمني في بريطانيا تزوج بانجليزية ، وحين وصلت الفتاتان إلى سن البلوغ أعادهما أبوهما إلى اليمن ، وهي عادة سائدة لدى كثير من اليمنيين الذين يقررون إعادة الفتيات إلى القرية اليمنية ، خوفا من اختلاطهن بالمجتمعات الغربية . الكتاب يروي كفاح الأم لاستعادة أبنتيها من اليمن . وقد كان لهذه الكتابات تأثير معاكس لصورة اليمن الجديد في العالم . ولكن هذا لم يقلل من جهود المرأة اليمنية ونضالها لا كتساب مزيد من الحقوق ، مستفيدة من هذا الاهتمام العالمي أو الغربي على وجه التحديد ، بقضايا المرأة ونظرا لعدم ارتباط قضايا المرأة بقضايا التطور الديمقراطي العام في المجتمع ، فإننا نلاحظ نوعا من القفز فوق التطور الاجتماعي ، حيث أصبحت قضايا الجنوسة ( الجندر ) مادة للنقاش في أحد مؤتمرات المرأة ، وكان لها ردود فعل مضادة . وهو أمر طبيعي في ظل مجتمع تقليدي لازالت معظم النساء فيه يعشن في عالم الحريم ، ولا تزال دعوة قاسم أمين إلى تحرير المرأة لم تتحقق بعد .
ـ الثقافة والأزمة السياسية
ـ الأوضاع السياسية الجديدة ،الوحدة والديمقراطية و التعددية السياسية وحرية الرأي والصحافة ،هذه الأوضاع فاجأت المثقف اليمني ،على الرغم من إرهاصاتها المبكرةمنذ سنوات أو على وجه التحديد ، بعد وأحداث 13 ينايرفي عدن ،وما اخذ يعتمل داخل الحزب الاشتراكي من مراجعة تحليلية نقدية لتجربة الحكم والنظام الشمولي ، وهو ما تناسب مع المناخ السائد في المعسكر الاشتراكي بعد إعلان غورباتشوف للبروستريكا والجلاسنست في هذا المناخ بدأت تطرح قضايا الوحدة والتعددية على بساط البحث ، لاسيما في اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين وفي مجلة الحكمة ، لسان حال الاتحاد ، التي قامت بنشر مشروع دستور الوحدة الذي أقرته لجان الوحدة في إعلان طرابلس وقد أثيرت مناقشات حول هذا الدستور ،كما رفع الاتحاد شعار الوحدة ليكون المهمة الرئيسية القادمة ، وكان ذلك في المؤتمر العام للاتحاد الذي صادف مرور خمسة وعشرين عاما على ثورة 26 سبتمبر،حيث تبين أن الوحدة لازالت الشعار الأول للثورة اليمنية ، الذي لم يتم إنجازه . وقد تشكل في أعقاب ذلك مجلس للاتحادات ونقابات المهن اليمنية ، التف حول شعار الوحدة وبدأ عملية ضغط شعبي على النظامين في الشطرين ، في اتجاه تحقيق الوحدة .
ـ بعد قيام الوحدة ، جرت عملية انتقال واضحة وتبادل في الأدوار . فكثيرمن المثقفين اليمنيين أوما يستحسن تسميتهم بالانتلجنسيا اليمنية تحولوا إلى قادة سياسيين وزعماء أحزاب أو رؤساء تحرير صحف حزبية . هذا الوضع الجديد أصبح مخالفا لتلك العلاقة التي سادت بين السياسي والثقافي ، في أوساط نخب الحكم السياسي في الشطرين أو في إطار تشكل الحركة الوطنية . حيث كان الثقافي مستشارا للسياسي ، يسير خلفه في بعض الأحيان ،أو أنة كان يقف على يساره ،على نحو ما كان يقول الأستاذ عمر الجاوي .
عودة المثقفين إلى حقل السياسة والعمل السياسي المباشرة ، كانت بالنسبة لكثيرين عودة إلى الأصول . فمن مراجعة تكون الانتلجنسيا اليمنية ، نجد أن المثقفين كانوا الرواد الأوائل في تكوين الحركة الوطنية اليمنية ، وإنشاء الأحزاب وتشكيل المعارضة السياسية المبكرة للحكم الامامي في الشمال والحكم الاستعماري والسلاطين في الجنوب(1).
إلا أن عودة المثقفين إلى الممارسة السياسية ، لم يحمل أية علامات مميزة،فالمثقف العائد إلى الحزب تحول إلى سياسي في أغلب الأحوال ، ولم يمارس دوره كمثقف ،هكذا خسرت الحركة الثقافية تلك الروح المراقبة لسير الأحداث بعين المثقف وعين السياسي الكامن في داخل المثقف ..بينما استطاعت الأحزاب والمنظمات السياسية أن ترص المثقفين العائدين إلى صفوفها.
ولعل هذا الوضع المتسم بالتغير وتبادل الأدوار ، كان السبب في غياب دور حقيقي وفاعل للمثقفين اليمنيين لحماية الوحدة من احتمالات النكسة التي كانت كثير من القوى الداخلية والخارجية ، تراهن على حدوثها.
وقد كانت الأزمة السياسية التي نشبت بعد عام العسل الذي مرت به دولة الوحدة، مفتاحاً لكثير من المشكلات التي قادت إلى حرب 94م، ويمكن أن نلاحظ غياباً واضحاً للمثقفين اليمنيين ومنظماتهم الإبداعية ،على عكس ما كان عليه الحال في مرحلة الانتقال إلى الوحدة ، وفي حين استطاعت القوى السياسية والاجتماعية التقليدية أن تنظم تحركاً سياسياً هائلاً، بتنظيم مؤتمر للسلام والوحدة، وأن تكسب الشارع اليمني بهذا الحرص والمسؤولية على عكس مستقبل الوحدة ومصير الوطن ، كانت قوى الحداثة السياسية مشغولة بتفاصيل الأزمة وتوسيعها وإدارتها بشكل يضمن لها مكاسب جديدة ، وفي الوقت نفسه دخل المثقفون اليمنيون في عزلة في المجتمع ومشاغل السياسة ، وبدا كأن الأمر لا يعنيهم.
- كانت أزمة قانون التعليم أول أزمة سياسية تواجهها دولة الوحدة، وعلى الرغم من أن قضية التعليم قضية ثقافية فكرية، إلا أننا لم نقل أنها أزمة ثقافية أو فكرية ، لان جميع النخب السياسية تعاملت مع هذا القانون الذي نوقش في مجلس النواب، من منطلق سياسي أو إيديولوجي، وكانت عوامل الشر بين قوى التقليد والحداثة تمارس خلافاتها على أساس إيديولوجي أو سياسي ، وكانت مسألة توحيد التعليم العام وإلغاء المعاهد العلمية تطغى على غيرها من المسائل التي تطرق لها القانون. في هذه المعركة انعزل المثقفون أيضاً ، وكأن قضية التعليم لا تعنيهم ، وعلى خلاف جيل الرواد مثل الوريث والمطاع في صنعاء، وعلي أحمد با كثير مدرسة النهضة في حضرموت، ومحمد علي لقمان والشيخ أحمد العبادي في عدن، والأستاذ أحمد محمد نعمان ومدرسته في التربة، الذين وضعوا قضية التعليم والقضاء على الجهل في رأس أولويات العمل الوطني ، نلاحظ أن المثقفين اليمنيين المعاصرين أخلوا الساحة للسياسيين ، وكانت من نتائج ذلك أن مشروع الحداثة الفكرية والسياسية خسر معركة من أهم معاركه.
- معركة الدستور كانت الأزمة الكبرى الثانية التي اشتعلت في إطار محاولات تعديل مشروع الدستور الذي اتفقت عليه لجان الوحدة في أواخر السبعينيات، وكان التصويت على الدستور بدون أية تعديلات ،واحداً من القضايا التي تعمل قوى الحداثة السياسية على تحقيقها ، بينما كانت القوى التقليدية تحارب بقوة من أجل تعديل أو حذف بعض المواد التي تضمنها دستور الوحدة، والتي عكست الفارق في الوعي الوطني بين السبعينيات والتسعينيات ، حيث نلاحظ انبعاث قوى تقليدية متشددة ، ظهرت كبديل للتيار الديني المتنور الذي كان يميز الفكر الديني في اليمن منذ الإمام الشوكاني وابن الأمير والمقبلي وغيرهم، من المفكرين المجددين ، والذي استمر بعدهم لأجيال .
كيف شارك المثقفون اليمنيون في معركة الدستور؟ وهل كان لهم موقف متميز كطليعة واعية، في هذه المعركة؟
ربما تحتاج الإجابة الدقيقة إلى استقراء الكتابات والندوات التي ظهرت في تلك الفترة ، لكن الواضح أن المشاركة اهتمت بالمسألة الدستورية من الناحية السياسية المحض. ولم تكن قضية الدستور جزءاً من معركة أشمل ، تتعلق بمستقبل اليمن وقيام دولة المؤسسات والقانون، والدور الذي يمكن أن يلعبه المثقفون في مثل هذا الحال ، وماهي إمكانات ظهور المجتمع المدني الرديف أو الشريك الأساسي للنظام الديمقراطي الذي يعبر عنه الدستور.
الأزمة السياسية الحادة التي اجتاحت البلاد وقادت إلى حرب 94م، تعطي أكبر دليل على غياب الثقافة والمثقفين عن الشأن السياسي أو بتعبير أدق عن الشأن الوطني. فالتعددية السياسية والحزبية التي ظهرت ، لم تعكس تطوراً فكرياً يقود إلى حداثة سياسية بمفهومها الحقيقي ، أي الحداثة السياسية التي تعني وجود مجال اجتماعي وفكري يمارس فيه الناس الاختلاف والصراع بواسطة السياسة ، أي بواسطة الحوار والنقد والاعتراض والقبول والرفض ،وبالتالي التعايش في مساحة من السلم القائم بين أطراف مختلفة ،أو العقد السياسي الذي يكفل للجميع الحق في الاختلاف واحترام الآخر وحقه في التعبير والتمثيل السياسي وفقاًَ للقانون. كان يمكن للثقافة أن تمثل المدرسة الأولى للديمقراطية والتعددية السياسية،حقاً أن التعددية السياسية لا تعني بالضرورة تعددية فكرية أو إيديولوجية، لكن الثقافة توفرمساحة للحوارومكانا للاختلاف والتنوع. وهذا هو العامل الغائب في تجربتنا الديمقراطية ،في مراحلها الانتقالية المبكرة لذلك ظل هاجس الوحدة أو الانفصال مسيطرة على الأذهان ، ولم يكن ثمة فسحة للاختلاف داخل إطار الوحدة .
إن الثنائية التي ورثناها من الأنظمة الشمولية السابقة تحكمت في مسار الأزمة ، التي إصابات دولة الوحدة ،على الرغم من الديمقراطية والتعددية السياسية .لم تستطع الثقافة أن تجعل الخلاف سجالاًفكرياً وسياسياً ،وأن تنفي الحرب خارج الحدود.
وفي حين كان الجميع يتدخل بشكل أوبآخر، لتدارك الأزمة السياسية التي تتجه جميع قرائنها إلى الحرب، كان المثقفون اليمنيون يتفرجون على الأحداث . ولعل السؤال لماذا؟ يحتاج إلى بحث آخر، ودراسة أكثر صبرا وتأنيا لهذا الموضوع .
واكتفي بهذه الورقة التي تمثل محاولة لملامسة الموضوع بشكل عاجل، إلا أن الاقتراب إلى نقاط المحور يحتاج إلى مزيد من البحث والقراءة
لأدبيات هذه المرحلة التي تطرقنا لقراءة ملامحها العامة ، دون الخوض في تفاصيلها.