اللغة القومية ودورها في التنمية
السبت, 03-مايو-2008
محمد محسن صلاح - في خضم الاحداث الملمة بعالمنا العربي، والفتن الضاربة في كل زاوية من زواياه ننسى ان الصراع الحضاري المادي يواكب الصراع المعنوي - كما علمتنا تجارب الحقب الماضية ومازالت - وأن هذا الاخير يسبقه ويفوقه.
وللأسف فإننا في غمار الصراع الحضاري بكل صوره وأشكاله الذي نحن جميعا طرف فيه، مهووسين بتلبية حاجاتنا وتوافهنا اليومية، من رجل الشارع البسيط الى رجل الدولة العظيم، وبين هذين تخلى المثقفون المعنيون أكثر من غيرهم بحمل مسؤولية التفكير في القضايا المتصلة بوجودنا ودورنا الحضاري وتفاعلنا مع العصر، بعد ان استعبدتهم تحزباتهم لهذا الفريق او ذاك من السلطة.. أو المغنى والراقص..
ان سطور هذا الموضوع لا تمثل اقرار حقائق، بل محاولة متواضعة لتنبيه الفكر، وتوجيه الذهن إلى قضية جديرة ان توضع موضع التأمل والبحث، فان وفقت في اثارة الاهتمام بمواصلة البحث من آخرين، فقد اوفت على الغاية من كتابتها، كما انها لا تتبنى مناقشة موضوع اللغة من جانب ادبي او لغوي بل "كعنصر استراتيجي يحيي الامم ويميتها، ويقيم الحضارات ويهدمها ويشكل الجغرافيا البشرية والسياسية للعالم" كما يرى احد مفكرينا.
ان نظرة فاحصة في شأن الحضارة العربية تقدمها وتقهقرها رقيها وانحطاطها تلزمنا القول انها حضارة لغوية، فكلما توهجت اللغة تألقت حياة العرب ابداعا وتطورا في شتى الميادين، فهي ذاتنا وهويتنا وحياة حاضرنا وبوابة مستقبلنا والحبل الذي يربطنا بتراثنا الاثيل، وهي "أداتنا لكي نصنع من المجتمع واقعا، كما يقول لتبربرجر" فثقافة كل امة معقودة في لغتها، ومامن حضارة انسانية الا وصاحبتها نهضة لغوية ممهدة لميلادها، فقد نزل القران الكريم، اخر الرسالات الالهية للناس عامة، بلسان عربي مبين، متوجا للحياة الادبية النابضة بالابداع وحيوية البيان في جزيرة العرب، ليفتح ابواب نهضة انسانية شاملة، عاشها العالم في مسيرته الحضارية، فكان نزوله معجزة لغوية متممة للنهضة الأدبية التي كان يشهدها العرب في حينه ومحركا للتطور الانساني، ولقد وصلت حضارتنا العربية الى اوج مجدها في عصر الخليفة العباسي المأمون وهو عصر الثورة والابداع اللغوي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فان "تطور الحضارة مشروط بتطور اللغة، بثورة لغوية، بتفجير للبعد اللغوي لعملية التغير والتطور الثقافية- الحضارية"( ).

اللغة والهوية
تولي جميع الامم لغاتها اهمية قصوى بالحفاظ عليها وتطويرها خشية من ذوبانها في امواج اللغات الاخرى، فهي ان ذهبت او اندثرت اندثر معها المتحدثين بها وطمرهم النسيان وكما يقول شاعر صقلية اجناز يوبوتيتا "ان الشعوب يمكن ان تكبل بالسلاسل وتسد افواهها، وتشرد من بيوتها، ويظلون مع ذلك اغنياء فالشعب يفتقر ويستعبد ما ان يسلب اللسان الذي تركه له الاجداد، عنذئذ يضيع الى الابد"، فاللغة هي ابرز السمات التي تميز امة عن اخرى، وهي عماد قوميتنا ووعاء حضارتنا ولقد كان ساطع الحصري شيخ القومية العربية يقول "ان اسس الاساس في تكوين الامة هو وحدة اللغة.. وهذا الاساس الذي تقوم عليه القومية العربية هو ما يمنحها انفتاحها وتسامحها فهي ليست قائمة على نقاء الدم او العرق والجنس الذي يفضي الى التعصب المقيت.
وهذا ما دفع على سبيل المثال مفكرا كونيا مثل اقبال احمد من باكستان لمساندة الهوية العربية وقضاياها القومية لأنها في نظره - وتلك حقيقة - هوية غير مبنية على العرقية وانما هي مفتوحة لكل من ينطق العربية ويتفاعل مع تاريخها فاللغة "مظهر من مظاهر التاريخ، والتاريخ صفة الامة، والامة تكاد تكون صفة لغتها لانها حاجتها الطبيعية التي لاتنفك عنها ولاقوام لها بغيرها، فكيفما قلبت امر اللغة من حيث اتصالها بتاريخ الامة واتصال الامة بها وجدتها الصفة الثابتة التي لاتزول الا بزوال الجنسية وانسلاخ الامة من تاريخها واشتمالها جلدة امة اخرى"( )، وهذا السر هو ما دفع اليابان لرفض الاستسلام اللغوي والانصياع لقرار القائد الامريكي بعد ان استسلمت في ميادين القتال في الحرب العالمية الثانية، ورفضت ان تغير حروف كتابتها الى اللاتينية، لادراكها ان التخلي عن اللغة هو بعينه الانسلاخ من ميدان التنافس الحضاري والخروج الى متاحف النسيان فاللغة القومية بمنزلة الوعاء الذي تتشكل به الامة، وتحفظ فيه، وتنتقل بواسطته افكار الشعب، وان قلب الشعب ينبض في لغته" كما يرى المفكر الألماني هردر فإذا اهتزت ثقة شعب في لغته سرى ذلك في باقي منظومة القيم والتاريخ والحضارة.. لذا كانت اللغة أول الأهداف التي صوب الاستعمار اليها سهامه حتى يتسنى له تحقيق مطامعه واهدافه وليس بخاف ماجرى في الجزائر، او افريقيا من قبل الاستعمار الفرنسي والبريطاني فلقد بات مايعرف الان بافريقيا الفرنكفونية وافريقيا الانجليزية وكل ذلك راجع الى اللغة التي فرضها المستعمر.

اللغة والتنمية
اشرنا فيما سبق الى الدور المركزي الذي تقوم به اللغة في حياة المجتمعات، وكيف تعمل على حفظ الامة وتماسكها، وهي الى جانب هذا تسهل من عملية دمج افراد الشعب وتساعد على التفاهم فيما بينهم والتوافق، اذ اللغة الواحدة المستعملة في مجتمع معين تعطي الفرد شعورا بالانتماء والامان مع من حوله، وهي ركن اساسي من اركان الاستقرار داخل الدول وهذا بدوره يؤدي الى التنمية لدى الامم "فالانتاج الصناعي يتطلب اساليب موحدة ومنظمة كما يحتاج الى سكان متحركين ومتجانسين وعلى درجة عالية في التعليم وهذه المتطلبات تعني الحاجة الى استعمال لغة واحدة موحدة عن طريقها يمكن ان يتواصل جميع اعضاء المجتمع الذين يشاركون في العملية الاقتصادية"( )، وليس تجنيا على الواقع بان البلدان المتعددة لغويا، تدفع ثمنا باهضا من استقرارها وأمنها ورخاءها.
فاللغة هي المنتج الرئيسي لعلاقات الوفاق بين ابناء المجتمع وفئاته ومؤسساته، اذ لا وفاق دون لغة، ولايمكن لتنمية ان تتم بدون وفاق، فالثراء الاجتماعي وما يتطلبه من تفاعل بين ابناء الشعب الواحد يتطلب لغة واحدة يفهمها افراده كافة، او على الاقل لغة مسيطرة تستخدم في ضبط وتسيير شؤون السياسة والاقتصاد، لاتختص بها فئة معينة، ويكون استخدامها حكرا عليها بمفردها، ونحن لو قارنا الاوضاع الاقتصادية في البلدان الغنية والفقيرة لوجدنا "عدد اللغات في الدول الصناعية يكون في خانة الاحاد بينما يكون عددها في الدول النامية في خانة العشرات والمئات"( )، وتتضح جدواها الاقتصادية كوسيلة من انجح الوسائل في جني الفوائد المادية وفتح الاسواق امام المنتجات الصناعية لاهل تلك اللغة، وان هيمنة اللغة الانجليزية اليوم ليس بخاف على احد وما تبع هذا من حضور واسع للسلع الامريكية، وهيمنة على بقية الاسواق العالمية. وحين كانت الغلبة للغة الفرنسية خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، شاع استخدامها كلغة للسياسة والمعاملات الدولية، ومع هذا النصر انتشرت المنتجات الفرنسية الاخرى كالاقمشة والفرش والعطور، فاللغة ليست الفاظا وعبارات مجردة عن الافكار والاراء والعقائد، فهي وان كانت حاملة الموروث الثقافي لاصحابها، فانها تنقل معها ايضا نمط واسلوب ومعيشة ناطقيها، فمع دخول الانجليزية بلاد الهند "تشبه الناس هناك بالانجليز في كل شيء حتى الشاي الذي كانوا يزرعونه واخذه عنهم الانجليز اخذوا يشربونه على الطريقة الانجليزية بل في الساعة الخامسة"( ). وإذا ما تذكرنا الاوضاع التي تعيشها بلدان افريقيا الفرنكفونية مقارنة مع افريقيا الانكليزية وهذا التفريق قام على اللغة التي فرضها المستعمر- لوجدنا الهوة بينهما شاسعة، ومرد ذلك ان الفرنسيين ركزوا على ضرب البنية الثقافية في البلدان التي دخلوها حتى يتسنى لهم تطويع بقية بنى المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وامضى اسلحة هذا الميدان هو فرض اللغة الفرنسية.
وإحلال لغة محل اخرى او فرضها يلحقه مسخ للهوية وتشتيت للرؤى والافكار وامتصاص للقدرات وتعطيل للقوة الفاعلة في تحريك المجتمع نحو المقاومة والمدافعة، وتمتد يد العبث والاستغلال الى ثروات وخيرات المجتمع الذي يرفس تحت أغلال الاحتلال الثقافي، بينما ركز المستعمر البريطاني اهتمامه على الجانب الاقتصادي بالدرجة الاولى وعند خروجه استطاعت أن تمضي بمفردها دون استشارته، أما أفريقيا الفرنكفونية بسبب ارتباطها العميق مع فرنسا من خلال اللغة والروابط الثقافية جعلها لاتصدق ان باريس يمكن ان تتخلى عنها، مما اعجز هذه الدول ان تستغني عن يد الوصاية الامنية لفرنسا، وبسبب الارتباطات القائمة على اللغة نجد ان بلدان افريقيا الفرنكفونية مجتمعة لاتزن اكثر من نيجيريا من حيث الناتج المحلي الخام.
وبعد مازالت أهمية اللغة تتسع ويتعاضم دورها كلما تراخت الايام والسنين حتى جاز لنا ان نسمي هذا العصر عصر اللغة، فما من فرع من فروع العلم او المعرفة او السياسة او الاقتصاد الا وللغة فيه اليد الطولى.
ومع التفجر المذهل في الاتصالات وثورة تكنولوجيا المعلومات الخرافية، الذي يشهدها المجتمع الدولي اليوم، بدأت معالم عصر جديد في التشكل والتبلور وفق ماتحدثه هذه الثورة العنيفة ، واوشك العالم ان يتحول الى قرية كونية صغيرة، وهنا تغدو اهمية اللغة بالغة الخطورة في الجانب المعلوماتي فهي دعامته الرئيسية، وهو الجسر الذي نسير عليه الى رحاب العولمة، فتكنولوجيا المعلومات هي المحرك الفعلي لعملية العولمة, وهذه التكنولوجيا "جعلت من اللغة"سندريلا" علوم الكمبيوتر، فلم تعد اللغة مجرد أداة للاتصال أو نسق رمزي ضمن انساق رمزية اخرى، بل اصبحت اهم العلوم المغذية لتكنولوجيا المعلومات، واخطر ظواهر مجتمع المعلومات قاطبة ورابطة العقد بلا منازع بين جميع انساق الرموز الاخرى التي تسري في كيان هذا المجتمع"( ) .
وفي عصر يعلي من شأن اللغة ويعزز من قيمتها ويجعلها اللبنة التي يشيد منها اقتصاد العولمة بنائه، فكيف يكون حال اللغة العربية، وهل يستطيع ان ينهض بها ابناءوها في مجال البرمجيات والتي تحولت إلى لغة أثرية لا تؤدي وظيفة حية في عصر العولمة المتطور والمتسارع الخطى.

المصادر
( ) من مقدمة كتاب الثقافة والإمبريالية لإدوارد سعيد, ص34.
(2) مصطفى صادق الرافعي, تحت راية القران، دار الكتاب العربي, ص49.
(3) فلوريان كولماس, اللغة والاقتصاد، ترجمة احمد عوض, ص44.
(4) نفس المصدر، ص34.
(5) حسين مؤنس, الحضارة، ص56.
(6) د.نبيل علي, الثقافة العربية في عصر المعلومات، ص232.