الطائفية السياسية في العالم العربي وأزمة البحث عن الشرعية
السبت, 03-مايو-2008
الطائفية السياسية
نبيل البكيري - الطائفية السياسية مصطلح جديد نسبياً في القاموس السياسي العربي، إذ يعود تاريخياً، بحسب الكاتب والمفكر السوري برهان غليون أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون الفرنسية، إلى فترة الاستعمار الغربي للعالم العربي. إلا أن المتأمل في تاريخ الفكر الإسلامي سيلاحظ أن ظاهرة الطائفية السياسية المعاصرة هي امتداد طبيعي للطائفية المذهبية الدينية التي ظهرت في أسوأ صورها ومعانيها في النصف الثاني من القرن الهجري الأول وبداية القرن الثاني من خلال المواجهة الدامية بين تيارين سياسيين يدّعي كل منهما أحقيته في الخلافة والسلطان: فريق الأمويين المتمرسين خلف إمكانيات الخلافة المسيطرين عليها، والفريق العلوي المتمترس خلف رصيد كبير من حب الناس وتأييدهم لهم في القلب وخذلانهم في لهم ميادين القتال والشهادة.
تتابع هزائم هذا التيار وعظم تضحياته الكبيرة افسح له مكانا كبيرا في قلوب الناس الذين انصدموا بهول الظلم النازل من بآل بيت رسول الله من قبل بني أمية وبني عمومتهم العباسيين فيما بعد على حد سواء، ومع مرور الأيام تكون هناك تيار كبير من المناصرين لآل البيت أطلق عليهم "شيعة آل البيت" وهم الذين بدءوا بتدعيم موقفهم من خلال تصوير مطالبهم وكأنها هي الدين عينه ملوين بذلك أعناق النصوص والآيات القرآنية لتدعيم فكرة الحق الإلهي في الإمامة والخلافة دون غيرهم.
وفي معمعة هذا الجدل السياسي الدائر كان هناك تيارات سياسية أخرى لها نفس المطالب السياسية كالزبيريين والعباسيين والخوارج الذين رأوا أن كلا الطرفين الأموي والعلوي كلاهما كان على خطأ، وأان لا حق لهما بالخلافة لا نصا ولا عرفا.
هذا الجدل الفكري الدائر لم يكن إلا انعكاس لصراع سياسي اتخذ من الدين رداءا له مما دفع بالمؤسسة الدينية ممثلة بالفقهاء كابي حنيفة ومالك النائي بأنفسهم عن الخوض فيما يجري على الساحة مخافة إضفاء شرعية دينية لأي من الفريقين المتقاتلين على السلطة بغض النظر عمن يكون هو صاحب الحق من عدمه مادام الطرفان قد اشعلوا فتنة ستحرق الأخضر واليابس. فكانت هذه الخلافات السياسية بمثابة البذرة التي أدت إلى ما يعرف اليوم بالاختلاف الديني أو المذهبي الذي يكتوي بنيرانه اليوم المسلمون، سنة وشيعة، باختلاف انتماءاتهم الاثنية من عرب وأكراد وفرس وتركمان. وهكذا ظل الاختلاف السياسي بمثابة المحدد الأكبر لمسيرة العلاقة بين مختلف الفرق والطوائف الإسلامية على امتداد التاريخ، وكأنه مكتوب على هذه الأمة أن تظل منقسمة مفككة إرضاء لزيد أو عمرو من أصحاب المصالح والأطماع.
وهكذا غدا التنوع والاختلاف في الرأي عامل فرقة وانقسام بعد أن كان مصدر قوة وإثراء ورفد للحياة المجتمع المسلم بكل عناصر القوة والتعدد البناء والمثمر الذي إشاعته قيم الإسلام السمحة قيم الإخوة والوحدة والتسامح والمحبة التي نادى بها الإسلام كأساس لتعامل بين أبنائه. ومما زاد من انتشار ظاهرة الطائفية السياسية جو الاستبداد السياسي الخانق الذي عاشه المجتمع الإسلامي بعد إقصاء مبدأ الشورى من حياة الناس وإحلال حكم ملكي استبدادي خلق مزيداً من الفوضى والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والسياسية تراكمت مع الأيام لتغدو دافعا قويا للبحث عن حل لهذا الواقع الذي يعيشونه، فما كان أمامهم غير خيار وحيد وهو البحث عن شرعية لما يسعون إليه، من تغيير فكان الدين هو هدف السلطة والمعارضة معا، كلٌّ يدعي شرعية ما يريد.
تفصيل الدين بهكذا مقاسات لم يكن في الأساس إلا وسيلة من وسائل الحرب ضد الخصوم واستغلال الدين ضد خصوم السياسة من منطلق أن الدين هو المحرك الوحيد للناس ومحدد اتجاه الرأي العام في مثل هكذا قضايا مصيرية للأمة جميعها ومصدر شرعية لهذا الطرف أو ذلك.
انعكاسات هذا التشظي المذهبي الطائفي ظل عامل إقلاق للمجتمع الإسلامي لفترة طويلة من الزمان يقف وراء كل الثورات السياسية التي كانت تحدث هنا أو هناك والتي جوبهت بحكم ثوقراطي سلطوي استبدادي يتمترس بفتاوى دينية تحرم وتجرم الخروج على هذا الحاكم مهما كان استبداده وظلمه. هذا الاستبداد السياسي ما كان له وجود في ثقافتنا وحضارتنا تلك الحضارة التي كانت مزيجا من التنوع الثقافي والفكري التي عاش في ظلها أبناء الأقليات والمذاهب غير الاسلامية في حرية تامة يمارسون كل عاداتهم وطقوسهم بل ويشاركون في صناعة الفعل والقرار السياسي للمجتمع الذي يحويهم كفصيل فاعل ومؤثر لهم حقوق وعليهم واجبات.

الطائفية السياسية في العصر الحديث
مع تكون الدولة العربية الحديثة وما صاحب ذلك من إمكانيات عديدة للمشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الحكم بالنسبة للجماعات العرقية والاثنية المختلفة ومن ثم فقد تحددت في هذه الفترة غالبا درجة اندماج أو عدم اندماج هذه الجماعات في المجتمع وفي الحكم على حد سواء.
ومثلما تمترست الأحزاب الدينية بالدين غطاء لشرعية مطالبها كان للأحزاب العلمانية والقومية الحاكمة كما هو الحال حينها في سوريا والعراق ومصر شرعية أخرى تواجه بها خصوم السياسة وهي القومية العربية التي قصمت بها ظهور خصومها فمثلما واجه عبد الناصر وحافظ الأسد الأيدلوجية الدينية للإخوان بالقومية العربية جابه صدام حسين الأحزاب الشيعية الدينية بنفس سلاح القومية.
صحيح أن الأحزاب القومية قد سمت كثيرا عن التقوقع الديني المذهبي إلا أنها في المقابل انتجت اثنية أخرى وعصبية سياسية من نوع أخر تؤدي إلى نفس المضمون المقيت للطائفية السياسية التي عصفت وستعصف بالمنطقة العربية – لا سمح الله – في أتون فتنة مذهبية بغيضة ليس لها نهاية ولا آخر وخاصة وقد وجدت مراكز صناعة القرار الغربية في موضوع الطائفية مادة مجدية للإستخدام في هذا الظرف الحرج بحسب ما جاء في تقارير الصحفي الأميركي سيمور هيرش الأخيرة.
وبينما تمثل التعددية الاثنية في المجتمعات الغربية عامل تنوع حيوي يكون على النقيض ذلك في المجتمعات العربية، حيث ينظر إلى التعدد الاثني الطائفي عامل ضعف في المجتمع يفرض هاجس الخوف المتبادل بين أطياف المجتمع الواحد أدى بها الخوف في كثير من الأحيان إلى اقتتال طائفي مرير. ويرى الكثير من الباحثين في هذا الشأن أن الجذور التاريخية للطائفية السياسية قد نشأت في القرنين الثاني والثالث الهجريين من قبل أبناء الشعوب الشرقية وعلى رأسهم الفرس الذين فقدوا إمبراطوريتهم بفعل الفتح الإسلامي فما كان منهم إلا أن يجدوا وسيلة أخرى شرعية لزحزحة استقرار الخلافة الإسلامية والتي وجدوها من خلال اعتناقهم للتشيع كمذهب ديني وراءه أبعاد سياسية وأهداف خفية.
ويرى الباحث والمؤرخ العراقي عبد العزيز الدوري، وهو من أهم الباحثين في ظاهرة الشعوبية، أن تغلغل الشعوبيين بصورة مبدئية يهدف إلى هدم الحضارة الإسلامية ثأراً لحضارتهم الفارسية. ويعلل الدوري اهتمامه بموضوع الشعوبية بأنه لابد من تقصي جذور الشعوبية من قبيل تقصي بعض ظواهر الحاضر في الماضي قائلا: "ليس لزاما علينا أن نصف الشعوبية في الحاضر، ويكفي أن نفهم جذورها فهما عاما وحثيثا لكي نكشف بعض الخيوط والخطوط".
ومن خلال البحث والتأمل في هذا الموضوع فقد وجدت في ظاهرة الشعوبية عاملا رئيسيا في تبلور مفهوم الطائفية السياسية المذهبية في العالم العربي والإسلامي، وهذا ما يؤكده المفكر الإيراني الشيعي الكبير الدكتور علي شريعتي، وذلك من خلال مناقشته لهذه القضية في كتابه المعنون "بالتشيع العلوي والتشيع الصفوي"، والذي ركز فيه حول قضية الأبعاد السياسية وراء اعتناق الصفويين للتشيع كمذهب ديني لإمبراطوريتهم، مشيراً إلى ذلك الجور والظلم الكبير الذي استخدموه لنشر التشيع في إيران التي كان أغلبية أهلها يعتنقون المذهب السني.

الإسلاميون والطائفية السياسية
يمثل تيار الأخوان المسلمون كبرى فصائل الحركات الإسلامية المعاصرة أهم التيارات التي تطلق عليها دوائر صناعة القرار الغربية بالإسلام السياسي. ومن خلال رصد وتحليل لأراء هذا التيار الذي يعد حركة دينية فكرية أاقرب من أن يكون حزبا سياسيا وبالتالي فإن نظرته السياسية تسبغ بصفة فكرية دينية شاملة ترتكز على نظرة الحركة بشكل عام للدين والحياة؛ تلك النظرة التي تتصف بالشمولية الكاملة مما يذيب من الحواجز المذهبية لدى المنتمين إلى صفوف هذا التيار فتجد فيهم السلفي العقيدة حنبلي المذهب او الصوفي العقيدة شافعي المذهب بل ربما قد تجد المعتزلي العقيدة زيدي المذهب. إلا أن بعض الباحثين يأخذون على هذه الحركة أدائها الضعيف في التغلغل بين صفوف أبناء المذهب الشيعي رغم إطارها الفكري الداعي إلى قضية التقريب بين السنة والشيعة كما هو الحال في العراق ولبنان، مما يثير بعض الشكوك في طائفيتها السياسية مُستدلين على ذلك من خلال موقف تنظيم الأخوان السوري في صراعه مع الحكومة السورية في ثمانينات القرن الماضي والتي كان يصورها بأنها حرب طائفية ضده من قبل الطائفية العلوية هناك وإن تدثرت برداء القومية العربية التي ينتمي إليها حزب البعث السوري.
ويذهب بعض الباحثين وعلى رأسهم الباحث العراقي في جامعة برلين الحرة الدكتور فرهاد إبراهيم إلى أن تيار الإسلاميين الشيعة يمثل الطائفية السياسية بأسوأ معانيها، مشيرا إلى أنه كان سبب بقائهم خارج إطار اللعبة السياسية برمتها رغم أكثريتهم العددية، يرجع بشكل رئيسي ومباشر إلى فكرهم الطائفي الضيق الذي حصرهم في دائرة المحرومين المظلومين الذين ينتظرون مخلصهم القادم من غياهيب الغيبة في سامراء ليخلصهم مما هم فيه من ظلم ومظلومية.
إن مثل هكذا ثقافة ينشأ عليها أجيال وأجيال تغرس فيهم ثقافة المظلوميه التي تدعو إلي الانتقام والثأر وتغرس فيهم روح الكراهية للأخرين وإن كانوا علي نفس المذهب فما بالك بالدين والعقيدة التي لا معنى لها عندهم , لا شلك ولا ريب أن مثل هذه الثقافة تعدو صانعة للأفراد أفكارا بمثابة قنابل موقوتة قابلة للانفجار والتدمير في أي وقت، وما المشهد العراقي عنا ببعيد وما الأحداث التي جرت في صعدة هنا باليمن إلا امتداد طبيعي لمثل هكذا ثقافة تؤمن بالعنف سبيلاً لخلاصها.