التعددية والانفتاح روح اليمن
السبت, 03-مايو-2008
محمد محسن صلاح - قبل أن يندفع الأمريكيون تجاه بعض الحكومات العربية، إن لم يكن اغلبها، بالضغط لإجراء إصلاحات سياسية، تتعلق بالأنظمة وتمس على وجه الخصوص حقوقا للحكام، كانت تعد خطا أحمرا، والحديث عنها تعديا على الثوابت الوطنية، فإن اليمن ابتدأت مسيرة الديمقراطية والتعددية السياسية قبل عام 2004م، الذي أعلنت فيه واشنطن نيتها في إعادة تشكيل الشرق الأوسط، وأرسلت مبعوثيها إلى عدد من الدول العربية، وقد جاءت الرؤية الأميركية عقب احتلال العراق، الذي غدا مأزقا لسياسات البيت الأبيض والتواجد في المنطقة حيث أصبحت "مكانة أمريكا المستقبلية في العالم العربي تعتمد على ما تنجزه في العراق"، كما يرى فريد زكريا، وهنا سعت الولايات المتحدة لتحسين صورتها أمام الشعوب العربية، وهنا أيضا وقع الحرج لدى كثير من حكومات المنطقة وكان "مبعث الحرج أن كثيرا من الحكومات العربية شعرت أنها أن استجابت ستكون متهمة من شعوبها بأنها تصلح عن غير اقتناع، وألا لأصلحت عندما لم تكن هناك ضغوط أجنبية"،( ) ورغم أن المبادرة التي تحدث عنها بوش في خطابه لدى انعقاد دورة الأمم المتحدة في فبراير 2004، قد كشرت عن أنيابها ونياتها في التعامل الأمريكي والغربي بشكل عام مع حكومة حماس التي صعدت إلى السلطة عبر انتخابات ديمقراطية شهد جميع المراقبين الدوليين بنزاهتها، الا انه تم حصارها وخنقها بمنع وصول المساعدات والمعونات الدولية إلى الحكومة المنتخبة،التي تعيش عليها السلطة والحكومة الفلسطينية، حتى تسنى لهم إسقاطها لأنها تتعارض وتتقاطع مع أجندة السياسات الأميركية في المنطقة.
ضرورات التعدد
النظام السياسي لأي بلد من البلدان، مالم تتعدد الأصوات بين جنباته، ويكفل للمنضويين تحت كنفه الحق في التعبير عن رؤاهم والمشاركة في إدارتهم محكوم عليه بالفشل أمام التحديات التي تواجهه، مهما كانت المسوغات والنظريات المبررة لسيطرة الحزب أو الفئة أو الجماعة على سلطة القرار، أو حقق من طفرة علمية، وليس أوضح من التطور والتقدم الذي أنجزه الاتحاد السوفيتي سابقا، فقد أقام دولة بل انشأ إمبراطورية شاسعة، وامتلك من أسباب القوة ما يمكنه من تدمير العالم مئات المرات، الا أن ترسانته النووية المهولة عجزت عن تثبيت دعائم النظام الشمولي، وإطالة مدة بقائه، في مواجهة التحديات التي ظلت تقدمها الرأسمالية، بما فيها من إغراءات التعددية والانفتاح، لذلك جاء سقوطه مشهدا غريبا عما سبقه من سقوط الإمبراطوريات، ومفاجئا لأعدائه المتربصين به، فكان موته كما وصفه محمد حسين هيكل أشبه "بالسكتة القلبية التي لا ينفع معها أي صدمة كهربائية لإنقاذه" وفتح انهياره بابا جديدا على نمط مغاير لهزائم الأنظمة في عصر اليوم الموسوم بالتعدد والانفتاح وقبول الآخر، فلم تندحر إمبراطورية ونظام حكم في التاريخ له من التأثير والسيطرة، ما كان للسوفيت، ولديه من أساليب التدمير ما يجعله بلمسة زر من أصابعه، من صهر العالم وحشوه في قعر الجحيم.. لقد انهزم النظام الشيوعي لأسباب كثيرة "ليس غرض المقال تقصيها" غير أن أهمها "على الإطلاق عند صاحب هذه السطور" كانت خنق الأصوات المخالفة والمغايرة للحاكم والحزب داخل تلك الدول. فبينما سمحت الدول الغربية، وفتحت لكافة أطياف المجتمع باب المشاركة في صنع السياسات والقرارات من خلال الانتخابات البرلمانية والبلدية والرئاسية، وكذلك في جدال المثقفين والمفكرين في الصحف والإذاعات والجامعات ومراكز الأبحاث، في جميع المسائل التي تهم المجتمع مهما بلغت حساسيتها، مستفيدة من حواراتهم في تقييم وتصويت السياسات.
فان دول المنظومة الاشتراكية خانها التقدير ومازال يخون اليوم دول العالم النامي فعملت على خنق الأصوات وإسكات الحناجر المغايرة لرؤى السلطة وا لحزب، واعتبرت المفكرين والمعارضين للسياسات المتخذة زمرة مرتزقة وحفنة عملاء، باعوا أوطانهم وتاجروا في قضايا الأمة ومصائرها لصالح أهوائهم الشخصية حتى كانت النتيجة ما جرى مطلع التسعينيات وما أعقبها من بدايات مأساوية في أوربا الشرقية، للتعبير عن هويات تسعى في الإعلان عن ذاتها والبحث عن كافل جديد يرعى استقرارها ويضمن حرياتها.
وهكذا يتضح عجز السياسات القمعية والأنظمة المغلقة في مواجهة التحديات، حيث تعمل على إعاقة المجتمع من أداء دوره خلال الأزمات، وشل قدراته في صد الصدمات، بينما تفصح الأنظمة والمجتمعات المنفتحة عن استيعابها وامتصاصها للهزات والضربات وحفظ المجتمع في كيان واحد مهما تنوعت وتعددت فئاته، لأنها تعمل على استخراج القدرات والطاقات الفاعلة للإبداع الإنساني. لذلك ومنذ عام 1990 وهذا التاريخ بالذات لم تعد قوة الجيوش وترسانة الأسلحة هي حصن الأنظمة والدول، وسبيلها في البقاء، وغدت مقولة الحزب الواحد ومسوغاتها ومبرراتها في عالم مفتوح مجرد غرائز سلطوية، مهما ارتدت من أقنعة، تتيح لها إغراء أو إرغام القوى داخل المجتمع بالسكوت.
التعددية روح اليمن
لقد تزامنت التحولات العظيمة بحق في النظام السياسي اليمني مع قيام الوحدة، حيث انتهجت البلاد شرعية التعددية السياسية، لذلك فشأنها يختلف عن بقية ديمقراطيات المبادرة - "إن صح" - ومسيرتها مغايرة لما يحاول البعض أن يلتمسه في حكومات وديمقراطيات أخرى ليدسه ويلصقه في تحليله وقراءته للتعددية السياسية في اليمن.
لم يأت هذا التحول الديمقراطي في اعتماد التنافس بين جميع القوى الموجودة على الساحة السياسية في الوصول إلى السلطة بضغط خارجي، أو رضوخ لاملاءات أجنبية بل تلبية لتطلعات الداخل، وآمال اليمنيين أولا، ولحقائق البلاد وتركيبتها ثانيا.. ولأنها ليست بضغط أجنبي فهي ليست منحة من احد، جاءت بقرار لتذهب بقرار، إنما ثمرة التضحيات التي قدمها الشعب طيلة العقود الماضية (1948-1994م) فأجساد الشهداء الذين سقطوا خلال هذه السنوات، كانت الجسر الذي مررنا عليه حتى بدأنا الخطوة الأولى على مسيرة الديمقراطية، غير ناسين أو متناسين الدور التاريخي البارز لقيادة الرئيس علي عبدالله صالح الذي استطاع أن يعبر عن طموحات اليمنيين، وهذا هو دور الزعامات التاريخية في كل عصر من حياة شعوبها في لحظات التحولات، وقد ساعده على ذلك شرعية انجازاته الوطنية التي انعكست على الجماهير فمنحته قيادها مطمئنة، سواء قبل الوحدة أو بعدها. فالتعددية السياسية، وحرية الرأي، ومبدأ التداول السلمي للسلطة، لم تكن صنيعة نص في بداياتها، لأن النصوص لا تصنع حقائق. وإنما حقائق الواقع التي انبثقت من رحم الوحدة، هي التي صنعت النص الدستوري الذي أصل للديمقراطية في اليمن، وذلك في التعديلات الدستورية، التي أجريت في سبتمبر 1994 " حيث جاءت التعديلات لتجذر التعددية وحرية الرأي بصورة أفضل من الدستور السابق الذي لم ينص صراحة على التعددية والتداول السلمي للسلطة"( ) لذلك فالتعددية القائمة اليوم هي صدى للوحدة الوطنية، بل الرئة التي يتنفس منها الوطن، فان أصاب الحريات عارض ضاقت الوحدة، وتعرض الجسد اليمني للخطر.
ولأن الحرية هي الخطوة الأولى نحو التطور والازدهار، والديمقراطية هي الخيار الآمن والضامن لاستقرار الوضع وتقدم البلاد، كونها تعيد للناس حقوقهم في صناعة مستقبلهم، وتستخرج من المجتمع جل طاقته في الإبداع، وتمنحه المشاركة في صياغة واقعه، وتحمل مسؤولية أخطائه، اعتمدتها اليمن مفتاحا لبوابة القرن الحادي والعشرين.
ولكي نتعرف على طبيعة الشخصية اليمنية، وكذا نمط السلطة القادرة على إدارة شؤون البلد والتعبير عن كافة فئاته وطبقاته وشرائحه، يمكن أن نطل إطلالة عابرة بقدر ما نستطيع في هذه السطور، على بعدي الجغرافيا والتاريخ كونهما يمكن أن يرشدانا إلى الشخصية اليمنية وطبيعة النظام الناجح في ادراتها.
إن قراءة الجغرافيا ومعرفة البيئة لأي مجتمع تكون احد المفاتيح الضرورية، لفهم طبائعه "فالبيئة قد تكون في بعض الأحيان خرساء، ولكنها تنطق من خلال الإنسان، ولربما كانت الجغرافيا صماء، ولكن ما اكثر ما كان التاريخ لسانها"،( ) فالمجتمعات التي تعيش في بيئة وعرة وتضاريس صعبة كما يقول دارسوا المجتمعات تتميز بنمو روح المقاومة والتمرد ويتعزز لديها حب المغامرة وقبول التحدي، كما أن السكنى المبعثرة في الحصون والجبال يجعلها في مأمن من بطش السلطات، ويمنعها من الخضوع لأي قوة قاهرة.
واليمن إضافة إلى هذا ليست دولة فيضية تعتمد على مياه الأنهار في الزراعة، الذي تبرز فيها الحكومة المركزية المسيطرة كضرورة لتوزيع المياه، الأمر الذي يدفع بظهور الطغيان، عبر التحكم بمشاريع الري، وهو ما سماه ماركس الاستبداد الشرقي، أو الاستبداد المائي عند غيره.
وبسبب هذا فقد تم تقويض قيام سلطة مركزية في اليمن، وما كثرة الدويلات التي ظهرت في التاريخ اليمني القديم والإسلامي إلا تعبيرا عن الشخصية المستعصية على كل حاكم جائر، وحين كانت تثب على السلطة والحكم قوى وفئات تحتكر الرياسة والزعامة والتفرد بالأمر، وترفض شراكة بقية القوى، فان اليمن كانت تتعقم، وتضيع في دوامة من الحروب الداخلية.
إذا كانت الطبيعة قد أظهرت سمتها في مناطق الداخل الشمالية والشرقية، فان المناطق الساحلية للبلاد تعد قرون الاتصال بين اليمن والعالم، ولقد قيل بان "الجغرافيا هي قدر الأمم" فان قدر اليمن الذي فرضه الموقع هو التواصل مع العالم كما رسمه التاريخ، من خلال ممارسة التجارة، وفرضها أيضا ملتقاً يتقابل فيه عالمي المحيط الهندي وحوض البحر الأبيض. فتوسط موانيها على خطوط الملاحة الدولية، جعلها بوابة الشرق نحو الغرب ونافذة الغرب التي يطل منها على الشرق، فلم تتوقف أهميتها على كونها محطة لتبادل السلع والبضائع، وكسب المال من المكوس والضرائب المفروضة على السفن الآتية والذاهبة، بل تعداها إلى أنها غدت بؤرة احتكاك تتلاقح فيها أفكار الأمم وثقافاتها - وهذا هو الرافد الأساسي لقيام الحضارات وثرائها- فأثرت وتأثرت بحضارات الهند والصين والفراعنة واليونان والرومان والفرس والأحباش، لتمتزج جميعها في اليمن وتنتج حضارة فريدة عبر الزمان، تكاد تلامس وقائع تاريخها وحقائقه الأسطورة في المرويات.
وان صحت مقولة أن "الحضارة في جوهرها تجارية" فلقد كانت التجارة صفة ملازمة لليمنيين فكانت هي عمود اقتصادهم بالدرجة الأولى تليها الزراعة، وقد ازدادت شهرة اليمن تجاريا،إضافة إلى موقعها الحيوي على خطوط التجارة،ان سلعتها الرئيسية كانت البخور والمر، وأهمية هذه السلعة في العالم القديم مثل البترول اليوم- لا غنى لأي مملكة ودولة عن استخداماتهما في المعابد والهياكل والقصور وأماكن العبادة، لذلك أطلق على أشهر خط بري للتجارة عرفه العالم القديم طريق البخور، الذي يخترق المناطق اليمنية ومعه طريق الحرير. ولقد بلغ من عبقرية اليمنيين في أمور التجارة وسبر أغوارها واسراراها حدا لا يجاريهم فيه احد، حيث يصف المؤرخ اليوناني اجاثار كيدس عرب سبأ بأنهم ملاحون مهرة ومحاربون أشداء "يبحرون في سفن كبيرة للبلاد التي تنتج العطور وكانت لهم فيها مستعمرات يستوردون منها نوعا من العطور لا يوجد في جهة أخرى"،( ) ويذكر صاحب (دليل الطواف)، "مدينة رفتا Rhapta كأشهر سوق تجارية في الجنوب الإفريقي، ويشير إلى أن تلك المنطقة المسماة ازانيا Azania كانت مستعمرة وراء البحار تابعة للسبئيين والحميريين، وكانت مدينة رفتا خاضعة لإدارة تجار من موزع"( ).
ومن هنا ان لم يكن حتميا فانه طبيعي، أن تنشأ مع حركة التجارة وما يرافقها من معرفة بالآخر، ويصحبها من تفاوض في عقد الصفقات والمبادلات الاقتصادية في سبيل انجازها ان يصبح حظ العقلانية حاكما على الشخصية اليمنية، وان تصبح قسمة العقلية التفاوضية من صميم هذه الشخصية -"وهذا ما سنتناوله بتوضيح اكثر في مقالة أخرى" -، كما جسدتها بلقيس ملكة سبأ، ونستطيع ان نفهم مقولة الرسول صلى الله عليه وسلم "الأيمان يمان والحكمة يمانية"، ولمإذا أطلق المؤرخ الإغريقي هيروديت وصف السعيدة على اليمن.
وهكذا تتضافر الجغرافيا والتاريخ في صياغة ورسم بعض ملامح الشخصية اليمنية، المتميزة بالاستقلال والتحدي الذي فرضته وعورة الطبيعة الجبلية وقبول بالتعدد والاختلاف أنضجه التفاعل والتعامل مع الثقافات والحضارات المختلفة.
و هذا يمكننا فهم السعي نحو قيام حكومة لامركزية في اليمن، أن تعدد القوى السياسية داخل المجتمع هو روحها، وقلبها النابض، ووسيلتها في تحقيق نهضتها.
واعتماد الانتخابات مطلبا أساسيا لاختيار" من يدير شؤون اليمن لأمن يحكمها" كما أوضح الرئيس علي عبدالله صالح لرياض نجيب الريس، علامة على استرداد اليمن عافيتها، ونفخ الحياة في روحها، فحضارة اليمن القديمة قامت على ما اسماه محمد عبدالله الفسيل بـ "علاقات الوفاق" بدلا من علاقات "القهر"،( ) وهذا هو الانجاز الحضاري الأكبر لليمن في تاريخها الحديث في ظل إدارة علي عبدالله صالح وهو أيضا ما دفع اليمنيين لان ينحازوا إليه في الانتخابات الأخيرة.
المستقبل يمر الآن
خلال الأعوام الثلاثة الماضية، خرجت العديد من التحليلات التي تتناول اليمن ومستقبل التعددية داخلها، وقد وصل الأمر ببعض التحليلات إلى حد القول "بصوملة" اليمن، إلا أن ما حصل ويحصل يخرس مثل هذه المقولات الجوفاء. وقد تبين ذلك في مواقف كثيرة من أهمها على سبيل المثال الاتفاق الذي جرى توقيعه بين المؤتمر الشعبي العام "الحزب الحاكم" والمعارضة ويمثلها اللقاء المشترك الذي يضم حزب الإصلاح الإسلامي والاشتراكي، والوحدوي الناصري، واتحاد القوى، و"الحق" قبيل الانتخابات الرئاسية في سبتمبر الماضي , فبعد أن ظل المؤتمر طيلة الفترة التي سبقت التوقيع يرفض أي تعديل للجنة العليا للانتخابات -"وهي الجهة المشرفة على الانتخابات" - باعتبارها خطا احمرا لا يمكن الاقتراب منه إلا انه بعد حوار قوى المعارضة والسلطة، جرى التوقيع على ما أسمي بعدها اتفاق المبادئ حيث تعدى هذا الاتفاق حواجز عديدة، وجاء بمحصلة الكسب للجميع ليتخطى المحصلة الصفرية التي اعتادتها المفاوضات في مناطق أخرى، حيث حقق كل طرف هدفه وغايته "وهو جائز مشروع"، فالمشترك ضمن إجراء انتخابات نزيهة من خلال زيادة نسبته في اللجنة العليا،ليتسنى له الإشراف الفعلي على سير الانتخابات، وفق ما كان يسعى إليه، بينما نجح المؤتمر في إضفاء شرعية كاملة على الانتخابات لا يمكن التشكيك في نتائجها. إلا أن الرابح الأكبر هو العملية الديمقراطية والمستفيد الأول هو الشعب اليمني.
فالحراك السياسي والحوار المفتوح داخل اليمن بين القوى السياسية، وخير ما عبر عنه هي الانتخابات الرئاسية والبلدية التي جرت أواخر العام 2006، دليل حيوية المجتمع وتفائله وحديث الحلم والمستقبل لا ضموره ويأسه، ,وهذا الأخير هو الدافع لتهييج الغرائز والصراعات الدموية فحينما تسمع في بلد من البلدان صوتا واحدا يتكلم وما حوله صمت عميق- فهذا حديث إلى الغرائز- وحينما تسمع في بلد من البلدان صوت حوار ربما علا فيه صوت واحد- ولكن الصوت الواحد حوله أصوات أخرى وحركة حية، فهذا حديث إلى الحلم"،( ) فالصوت الواحد هو صوت الديكتاتور، والأصوات المتعددة هي صوت متكرر للحرية.
السباق المحموم الذي جرى ويجري بين مختلف الأحزاب والتيارات اليمنية تبزغ أهميته في اصطفاف الجماهير خلف الأحزاب لا التعصبات القبلية والفئوية، وقد تجلى هذا في المهرجانات الانتخابية لمرشحي الرئاسة والمحليات، وان الحوار تم عبر البرامج لكسب صوت الناخب أو المواطن، وهذا بدوره يرفع من حدة وعي المواطن في أحقية من يمثله في السلطة، ويطرد هواجس الخوف على الديموقراطية.
لقد كان التنافس الذي خاضه اليمنيون، أجماعا على رأي وموقف واحد هو الأيمان بالتطور وبقدرة الإنسان اليمني على تحقيقه، ولاشك أن خروج تكتل المعارضة "اللقاء المشترك" بمرشح للرئاسة يعد تدشينا لمرحلة جديدة في حياة هذه الأحزاب بل والعملية الديمقراطية بكاملها، وهو أيضا خطوة لمطاردة بقايا الفكر المطلق والفئوي الذي تحمله في جنباتها بعض التيارات في هذه الأحزاب، "ولعل طلب قيادة حزب الحق في حله مثال صادق". فانتخابات الرئاسة بالطريقة التي سارت عليها أثبتت أن اختيار الرئيس لم يكن مجرد النظر إلى البوم صور لشخص واحد في هيئات وأوضاع مختلفة، فقد صرح مدير برنامج الشرق الأوسط في المعهد الديمقراطي الأميركي القومي قائلا" من خلال مراقبتي للتطورات الديمقراطية في الشرق الأوسط خلال السنوات العشر المنصرمة، يمكن القول أن هذه الانتخابات قد تشكل أهم تلك التطورات حتى اليوم". فالوضع الآن قد تغير ويصح لنا القول بان السلطة في اليمن أوشكت على الخروج من شرعية الكاريزما- ان صح التعبير- الذي تكلم عنها "المفكر الألماني ماكس فيبر" إلى شرعية الدستور والقانون.
ولابد ان الانتخابات وما أفرزته نتائجها ستكون دافعا لتحرك فاعل للقوى اليمنية لنقطة تحول وبداية جديدة، فالشعب اليمني وان أصابه الضعف حينا، والفقر والتشتت أحيانا إلا انه اليوم مصمم لاستعادة عافيته، فمازالت جذوره الضاربة في أغوار التاريخ الإنساني تمنحه عمقا استراتيجيا من القيم الحضارية التي تستطيع تمكينه من النهضة والرقي، ان استغلت افضل الاستغلال. كما يجب علينا الآن أن تمنعنا توجهاتنا السياسية داخل الأحزاب من الانسياق خلف رؤانا الضيقة، في الغض من شأن حقيقة الديمقراطية القائمة والتشكيك في وجودها، بل يجب قراءتها وتصويب ما يعتريها من أخطاء، فغرس ثقافة الديمقراطية كما قيل ليس عملية سريعة ولا يسيرة، والديمقراطية الحقة، كما قال "مونتسكيو"، "لم توجد قط" إنما علينا نحن المؤمنين بها وهو الشعب اليمني بآسره، كما يرى رئيس اليونان الأسبق ان ندخل ونقتحم المواقع التي تفتح أمامنا.
ولقد كان أسقف البرازيل ومناضلها الثوري العنيد الكاردينال كاماري يغني دوماً أغنية الحلم:
إذا كنت احلم وحدي.... فهذه مجرد حلم
إذا كان الحلم مشتركا.... انت وانا وهو
وكل الناس معنا فيه
إذن فهذه هي الخطوة الأولى في تحقيقه..