النظام العربي والعدوان على غزة: محاولة لتحليل الأداء
السبت, 31-يناير-2009
أحمد يوسف أحمد - مثَّل العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة امتحاناً قاسياً للنظام العربي الذي كان مطالباً بأن تشكل سياساته إزاء ذلك العدوان رادعاً لإسرائيل، ولقد أخفق النظام العربي دون شك في هذا الامتحان، فكان تواضع أدائه أصلاً سبباً في تجرؤ إسرائيل على العدوان، ثم في استمرارها وإمعانها فيه، وأبعده هذا التواضع في الأداء عن موقع التأثير في الطريقة التي تم بها وقف إطلاق النار على الرغم من كل ما قيل، ولم يمكّنه حتى الآن من أن يلعب دوراً في حل معضلة إعادة إعمار غزة بعد توقف العدوان ولو إلى حين، مع الاعتراف بأن الانقسام الفلسطيني الراهن هو السبب الأصيل في الفشل الأخير تحديداً.

وثمة قضايا كثيرة يمكن أن تناقش في الإطار السابق، غير أننا نكتفي هنا لاعتبارات المساحة بالتركيز على قضية انقسام النظام العربي، على أن نشير في عجالة إلى تداعيات هذا الانقسام على استخدام النظام الآليات الدبلوماسية في مواجهة العدوان، وبروز الأدوار الإقليمية والدولية على حساب الدور العربي. ذلك أن النظام العربي بدا منقسماً عند بدء العدوان، ثم زاده استمرار العدوان انقساماً، فمع هذا الاستمرار وإمعان إسرائيل في القتل والتدمير، وشمول العجز عن التأثير كافة وحدات النظام، كان البديل الأسهل بالنسبة للوحدات التي حاولت الظهور بمظهر الفاعل المؤثر في مجريات الأحداث هو تبادل التهم جزافاً فيما بينها، الأمر الذي شعرنا معه طيلة الوقت وكأننا إزاء صراع عربي-عربي وليس عربياً-صهيونياً، وقد عرف النظام العربي هذه الانقسامات منذ نشأته، غير أن صفوفه كانت تلتئم عادة في مواجهة الخطر الخارجي، لكنه فقد حتى هذه الخاصية منذ العدوان الأمريكي على العراق في2003، ثم الإسرائيلي على لبنان في 2006، وها هو ذا يثابر على السلوك نفسه في مواجهة العدوان الإسرائيلي على غزة 2008/2009، فيما يشير إلى خاصية جديدة آخذة في التبلور بالنسبة لنموذج الصراع بين وحداته.

عندما وقع العدوان كان التمييز قائماً بين معسكر الاعتدال وتتزعمه السعودية ومصر، ومعسكر الممانعة بزعامة سورية مع بعض التعديلات الطفيفة التي جعلت قطر تبدو إبان العدوان على غزة وكأنها أصبحت جزءاً فاعلاً -إن لم يكن قائداً- في معسكر الممانعة، وعلى الرغم من أن المرء يمكن أن يحار ولو قليلاً في الفروق الموضوعية بين المعسكرين، على الأقل فيما يتعلق بالصراع العربي-الإسرائيلي، فإن معسكر الاعتدال اعُتبر مناصراً قوياً للتسوية السلمية واستمرار جهودها على الرغم من عقمها المطلق، ومن ثم معارضاً أو غير راضٍ، أو على الأقل متحفظاً، على المقاومة المسلحة كأداة لإدارة الصراع، ولم يكن هذا الموقف جديداً، فقد كان هو موقف المعسكر نفسه من المقاومة اللبنانية في2006. وبالمقابل أظهر معسكر الممانعة نفسه باعتباره الطرف المشجع للمقاومة والمدافع عنها والداعي لدعمها، وإن كان السلوك، أو بالأحرى التأثير، العملي لم يفرق بين المعسكرين في واقع الأمر.

انعكس هذا الانقسام بشدة لاحقاً في حروب القمم التي اشتعلت بين المعسكرين، فمنذ البداية طرحت فكرة عقد قمة عربية طارئة وفقاً لبروتوكول دورية القمة الذي يتيح هذا الخيار بشرط الدعوة إليها من الأمين العام لجامعة الدول العربية أو إحدى الدول الأعضاء على أن يوافق ثلثا الأعضاء على الأقل (15 دولة) على الانعقاد. وعندما انعقد مجلس الجامعة على المستوى الوزاري في 31/12/2008، أي في اليوم الخامس للعدوان، وأقر آلية التحرك عبر مجلس الأمن، كان واضحاً أنه لا توجد ممانعة لفكرة عقد القمة الطارئة في حد ذاتها، بدليل الاتفاق على تأجيلها إلى حين انعقاد جلسة مجلس الأمن، فإذا فشل التحرك العربي عبر المجلس لسبب أو لآخر فإن ذلك سيستتبع النظر في انعقادها بشكل عاجل للنظر في إجراءات عملية أخرى سقفها أعلى، ولا يستطيع سوى القادة العرب أن يتخذوها رداً على إسرائيل.

وعندما أصدر مجلس الأمن في التاسع من يناير/كانون الثاني 2009، أي في اليوم الرابع عشر للعدوان، قراره ولم تلتزم به إسرائيل عاودت قطر الدعوة إلى قمة طارئة تعقد في عاصمتها الدوحة، وهنا انصب جهد معسكر الاعتدال العربي على الحيلولة دون عقد هذه القمة بحجة أن قمة الكويت الاقتصادية والاجتماعية سوف توفر إطاراً مناسباً لبحث موضوع العدوان على غزة. هذه القمة التي كان من المقرر أن تعقد يوم التاسع عشر من يناير، أي في اليوم الرابع والعشرين للعدوان، علماً بأن هذه الحجة لم تذكر أصلاً في البداية إبان انعقاد مجلس وزراء الخارجية العرب في31/12/2008. وأضيف إلى مبررات رفض القمة الطارئة في الدوحة أن هذا الانعقاد كان من شأنه أن يفسد أعمال قمة الكويت! مع أن "قيادة" معسكر الاعتدال دعت إلى قمتين أخريين قبل قمة الكويت: الأولى خليجية ودعا إليها الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود في الرياض (لمحاولة إثناء أمير قطر فيما يبدو عن دعوته، وتوحيد الصف الخليجي)، والثانية دولية ودعا إليها الرئيس حسني مبارك في شرم الشيخ (لبحث تثبيت وقف إطلاق النار والتهدئة والدور الأوروبي في ترتيبات ما بعد العدوان). ولم تؤثر القمتان على انعقاد قمة الكويت في موعدها، علماً بأن قمة شرم الشيخ بالذات عقدت عشية انعقاد قمة الكويت.

وقد عقدت قمة الدوحة في السادس عشر من يناير، أي في اليوم الحادي والعشرين للعدوان، بحضور ممثلين عن 13 دولة عربية، أي أقل من النصاب بدولتين فقط، مع ملاحظة أن الرئيس الفلسطيني لم يحضر، وكذلك الرئيس اليمني الذي كان أحد دعاتها في البداية، فصارت قمة تشاورية وليست قمة رسمية طارئة، وأثيرت فيها أفكار أكثر جرأة على صعيد مواجهة العدوان لم تصل بطبيعة الحال إلى طرح بدائل للدعم العسكري للمقاومة، لكن التركيز وقع على إفلاس نهج التسوية السلمية واعتبار المبادرة العربية للسلام ميتة، وتجميد العلاقات مع إسرائيل، وإعادة إعمار قطاع غزة، واتفق على عرض قرارات قمة الدوحة على قمة الكويت بما يوحد "الشرعية العربية"، لكن هذه القمة بدورها اختلفت اختلافاً بيناً، رغم أجواء المصالحة التي دشنها الملك عبد الله بن عبد العزيز، حول قضايا جوهرية مثل آلية إعادة الإعمار في غزة، والمبادرة المصرية، ولذلك خرج بيانها ضعيفاً غير متناسب مع الكارثة التي وقعت في غزة.

ولقد تمت في قمة الكويت، كما سبقت الإشارة، محاولة لرأب الصدع العربي بادر معها الملك عبد الله بن عبد العزيز، فتحدث عن مسؤولية الجميع عما وقع، ودعا إلى مصالحة عربية شاملة بدأها بدعوة قادة مصر وسورية وقطر بالإضافة إلى الملكين الأردني والبحريني إلى مأدبة غداء في مقر إقامته، وسادت أجواء من التفاؤل لدى بعض المتابعين، لكن بيان القمة سرعان ما أكد أن القادة قد اكتفوا من دعوة المصالحة بتلبية دعوة الملك عبد الله للغداء، والواقع أن المصالحة لو تحققت بهذه الطريقة لكان هذا أكبر دليل على عدم جدية كافة الأطراف؛ لأن ثمة تصادماً مهماً في المصالح بين الأطراف يحول دون إتمام المصالحة على هذا النحو.

ولا شك أن هذا الانقسام قد كشف عن خلل جسيم في ممارسة الوظيفة القيادية داخل النظام العربي، فلم تعد هناك قيادة واضحة (فردية أو جماعية) تستطيع أن توجه حركة النظام منذ تراجع الدور القيادي المصري بعد هزيمة 1967، فقد تعددت مراكز القوى داخل النظام بعد تلك الهزيمة، وبصفة خاصة بعد طفرة أسعار النفط دون أن يكون من الممكن عمل ائتلافات جزئية أو كلية فيما بينها تمكنها من أن تقود النظام على نحو مستقر، بل إن ما حدث هو العكس بمعنى أن النظام تردى إلى حالة من الاستقطاب تشله عن العمل والقدرة على التأثير كما اتضح في معالجته لأزمة العدوان الإسرائيلي على غزة.

وبالإضافة إلى ما أفضى إليه الانقسام من شلل في القدرة على الحركة، وعجز عن التأثير فإنه سبب كالعادة تلكؤاً في الحركة بحيث إن العدوان الإسرائيلي على غزة استطاع أن ينجز ما أنجزه من قتل الفلسطينيين وتدمير بناهم التحتية فيما المسؤولون العرب يتناقشون حول جدوى عقد قمة طارئة، أو يتصارعون من أجل عقدها أو الاكتفاء بغيرها. كذلك أدى انقسام النظام إلى أن يكون تحركه بالحد الأدنى، فاختار آلية مجلس الأمن رغم علم الجميع، ومنهم طلاب العلاقات الدولية المبتدئين، بحدود قدرة مجلس الأمن على الحركة، واستطاع بعضه أن يفشل لبعضه الآخر دعوة انعقاد قمة طارئة، واستُخدمت الأداة الدبلوماسية في سقفها الأدنى بمعنى البحث عن وقف إطلاق النار وإعادة التهدئة ورفع الحصار وبداية الإعمار، وكانت أقصى الأفكار العقابية لإسرائيل هي تجميد كل من موريتانيا وقطر علاقتهما بها، والتلويح من آن لآخر بمراجعة الموقف العربي من مبادرة السلام، وهو ليس بالجديد على أية حال. وهو تلويح يبقى بلا معنى طالما يعجز النظام العربي عن تبني بدائل أخرى. كذلك خلق الانقسام مناخاً سمح لقوى إقليمية مثل تركيا وإيران بأن يتعاظم دورها في الأزمة، ولقوى أوروبية بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية بطبيعة الحال بأن تلعب دوراً خطيراً، وبصفة خاصة في توفير دعم سياسي لإسرائيل، والمشاركة في الترتيبات المتوقعة لضبط وصول السلاح إلى غزة. وكلها أمور تحتاج إلى تفصيلات كثيرة لا تتسع السطور لها، لكنها تنبه بكل أدوات الإنذار المتاحة إلى أن النظام العربي ربما يكون قد وصل إلى حال لم يعد الإصلاح يجدي معه نفعاً.