الموقف الأميركي من ظاهرة القرصنة في خليج عدن: محاولة للتفسير
الثلاثاء, 27-يناير-2009
عايش عواس - على الرغم من الدعوات الأميركية المتكررة للمجتمع الدولي بضرورة التحرك لمواجهة أعمال القرصنة، وتبنيها لصيغة قرار مجلس الأمن الدولي رقم (1851)، والذي خوّل الدول ملاحقة القراصنة في البحر والبر الصوماليين، إلا أن الموقف الأميركي بخصوص ظاهرة القرصنة البحرية في خليج عدن والمياه المحاذية للسواحل الصومالية ما زال يثير شكوك وتساؤلات عديدة، وتلفه حالة من الضبابية والغموض، وذلك لسببين اثنين على وجه التحديد أولهما هو إحجام الولايات المتحدة الأميركية عن ملاحقة ومطاردة القراصنة رغم قرار مجلس الأمن الدولي ووجودها العسكري في جيبوتي والمحيط الهندي، والسبب الثاني، هو نزوع أميركا إلى تجنب تحمل مسئولية التصدي للمشكلة بنفسها وإيكال المهمة بهذا الخصوص إلى حلفائها الغربيون، وذلك بخلاف ما جرت علية العادة في قضايا مماثلة؛ مضافاً إلى ذلك أن ولاية (بونت لاند) الصومالية التي تربطها علاقة حسنة بالولايات المتحدة هي مركز الانطلاق والملاذ الآمن لمعظم القراصنة. وفي ضوء ما سبق لا يتردد عدد من المحللين هنا وهناك من اتهام الولايات المتحدة الأميركية بالوقوف وراء تنامي ظاهرة القرصنة، أو على الأقل بالتساهل إزاءها بدافع الرغبة في إيجاد المبررات المعقولة لتعزيز وجودها العسكري في المنطقة. فما هي يا ترى حقيقة الموقف الأميركي؟ وهل لأميركا مصلحة بالفعل من وراء تنامي عمليات القرصنة؟

حقيقة الموقف الأميركي
عبّرت الولايات المتحدة الأميركية وفي أكثر من مناسبة عن شعورها بالقلق جراء تزايد عمليات القرصنة في خليج عدن وقرب السواحل الصومالية، وطالبت الدول المعنية بالتحرك لمواجهة الظاهرة والحد من تداعياتها عبر ارسال سفن حربية الي المنطقة لحماية خطوط الملاحة البحرية والسفن التجارية من هجمات القراصنة. وقد اتخذ التحرك الأميركي بهذا الشأن مسارين: الأول هو العمل داخل أروقة مجلس الأمن للحصول على قرارات أممية توفر الغطاء والمشروعية القانونية لتواجد السفن الحربية في المنطقة، والمسار الثاني هو العمل على حث الدول المعنية بالتصدي للظاهرة في إطار جماعي مع تفويض حلفائها الغربيين بتولي مسئولية المواجهة، لكنها وكما أشرنا إلى ذلك سابقاً لم تبادر بتوجية ضربات عسكرية للقراصنة على البر الصومالي، أو ملاحقتهم في البحر، وقد عزت ذلك إلى افتقارها للمعلومات المخابراتيه اللازمة حول من يقف وراء القراصنة وصعوبة تحديد هويتهم (1)، وغياب القواعد القانونية الخاصة باحتجاز القراصنة ومحاكمتهم. 

ومن وجهة نظر واشنطن، فإن مواجهة مشكلة القرصنة والحد من تداعياتها أمر يتطلب اتخاذ إجراءات آنية، وأخري على المدي الطويل. الإجراءات الآنية تتمثل - حسب وجهة النظر نفسها - في خيار من اثنين: إما زيادة أعداد حراس الأمن المسلحين على ظهر السفن التجارية (2)، أو من خلال تكليف شركات أمن خاصة بحماية السفن في المناطق الخطرة. وفي المدى البعيد، العمل على إحلال الاستقرار في الصومال باعتبار تحقيق ذلك أمر مستحيل حالياً (3). بيد أنها في الأيام الأخيرة غيرت مواقفها، وبدأت تطالب بتشكيل قوة بحرية متعددة الجنسيات للتصدي للظاهرة، وكل ما سبق يوحي بأن مشكلة القرصنة لا تمثل أولوية في الوقت الحالي بالنسبة لواشنطن، وأن لديها رغبة في العمل المشترك مع الأطراف الأخري لمواجهة عمليا ت القرصنة. 

وفي واقع الأمر، فإن من الصعوبة بمكان تفسير الموقف الأميركي وإزالة حالة الغموض التي تشوبه دون فهم خلفيات الظاهرة ورصد مراحل تطورها، وإذا ما تجاوزنا الخوض في التفاصيل التي لا داعي لذكرها، يمكن القول أن جذور ظاهرة القراصنة الصوماليين التي نعيشها اليوم تعود إلى أوائل عقد التسعينيات من القرن الماضي، وتحديداً إلى الفترة التي أعقبت سقوط نظام الرئيس سياد بري عام 1991 وما تبعها من فوضى وغياب الدولة المركزية القوية، مما ترتب عليه ضمن أشياء أخرى تحول المياه الإقليمية الصومالية إلى منطقة مُباحة لسفن الصيد الأجنبية فتضايق الصيادين الصوماليين جراء ذلك ولجأوا إلى تشكيل ميليشيات من سكان القرى التي يمتهن أفرادها حرفة الصيد بحيث تتولى تلك المليشيات مهمة حماية السواحل والمياه الصومالية. وبمرور الأيام، كان أفراد المليشيات يستولون على بعض سفن الصيد الأجنبية التي تصطاد في السواحل والمياه الإقليمية الصومالية ثم يفرجون عنها لاحقا مقابل مبالغ مالية يتحصلون عليها من مالكي تلك السفن، وعلى ما يبدو فقد استحسن الصيادون العمل، ومن ثمّ فقد بدأوا يتوجهون تدريجياً إلى السطو على السفن التجارية والسياحية، ومع الوقت تعاظمت الأموال لديهم مما مكنهم من شراء وامتلاك الزوارق السريعة ووسائل الاتصال الحديثة فتوسعت رقعة نشاطهم لتشمل السطو على السفن الكبيرة (4). 

أما من ناحية الدلالات الزمنية والمكانية، فنجد أن بروز ظاهرة القرصنة تأتي من حيث التوقيت متزامنة مع انشغال أميركا مع الملفين العراقي والأفغاني، وظهور أزمتها الاقتصادية الخانقة، وهو ما يعني في نهاية المطاف أن لدى الولايات المتحدة الأميركية في هذا التوقيت بالذات ما هو أهم من مشكلة القرصنة. وفيما يخص الدلالات الجغرافية، نلاحظ أن المياه والبحار القريبة من السواحل الصومالية هي الإطار الجغرافي لنشاط القراصنة، وهذه المنطقة كما هو معروف تعيش منذ أكثر من سبعة عشر عاماً حالة فراغ وصراعات أهلية لا تنتهي، وقد حاولت الولايات المتحدة أن تشغل الفراغ بداية عقد التسعينيات من خلال محاولة التدخل في الصومال بحجة تأمين إمدادات الغذاء للصومال، لكن المحاولة باءت بالفشل حينها نتيجة الخسائر البشرية التي تكبدتها أميركا في الصومال وقد ظلت حالة الفراغ هذه تشكل هاجس لأميركا إلى أن وقعت أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، ومن حينه تضاعف اهتمام واشنطن بشكل أكبر بعد أن شعر الأميركيون بأن منطقة القرن الأفريقي، نتيجة غياب الدولة في الصومال وتفشي الصراعات بين دول المنطقة، يمكن أن تكون ملاذاً بديلاً للجماعات الجهادية بعد سقوط نظام طالبان في أفغانستان. ولأنه كان من الصعوبة على واشنطن العودة للتدخل المباشر في الصومال بحكم ذكرياتها الأليمة في هذا البلد، فقد لجأت إلى أمرين، الأول هو إنشاء قاعدة عسكرية في جيبوتي تتولى مهمة ملاحقة ومطاردة الجماعات الجهادية في القرن الأفريقي وباب المندب واليمن، والأمر الثاني هو تشكيل تحالف من القوي الصومالية لمناهضة الإرهاب تحت مسمى "التحالف الصومالي من أجل السلم ومكافحة الإرهاب"، على أن يتولى التحالف مهمة مطاردة وملاحقة العناصر الجهادية في الأراضي الصومالية، ومنع الأجانب التابعين لتنظيم القاعدة من التواجد في الصومال.
لكن تلك السياسات لم يكتب لها النجاح وإنما ترتب عليها تزايد نفوذ التيارات الإسلامية في المنطقة بشكل أكبر، وكانت سيطرة المحاكم الإسلامية على مقديشو ومعظم الأقاليم الصومالية نهاية عام 2006 دليلاً قاطعاً على فشل السياسة الأميركية. ولصعوبة ترك المنطقة في حالة فراغ، فقد دفعت واشنطن إثيوبيا إلى إسقاط نظام المحاكم الإسلامية، لكن هذا الخيار فشل أيضاً بفعل غضب الشعب الصومالي تجاه التدخل الإثيوبي، وهكذا أدركت أميركا صعوبة بناء نظام حكم مستقر في الصومال وفق ما يخدم مصالحها في الوقت الراهن، فما كان منها بناءاً على ذلك إلا أن توجهت إلى محاولة تشكيل حزام أمني يحيط بالصومال بحرياً بهدف الحد من المخاطر والتهديدات الناجمة عن حالة الفراغ التي يعيشها هذا البلد، تاركةً الصومال يواجه مصيره إلى أن تأتي الظروف المواتية لمعالجة الأزمة وحلها وفق ما تقتضيه مصالحها. 

ونخلص في الأخير إلى القول إن حالة الفراغ التي تعيشها المنطقة تمثل السبب الرئيسي لظاهرة القرصنة البحرية، ولا يستبعد أن يؤدي استمرار الفراغ إلى بروز ظواهر جديدة أكثر خطورة، وكذا بسبب الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي يعيشها الصوماليون والتي لا يجدون في ضوءها مخرجاً سوى التوجه إلى عرض البحر لتوفير لقمة عيشهم، بغضّ النظر عن مشروعية الوسائل المستخدمة لتحقيق ذلك. كما لا يخفى، بهذا الصدد، الأثر السلبي للأموال التي يتحصل عليها القراصنة كفدى ودورها في تشجيع الكثير من الصوماليين على ممارسة نشاط القرصنة لاعتبار ذلك أقرب المسافات لجني المال والثروة. ولذا فإن تدافع السفن والبوارج العسكرية إلي خليج عدن والبحار القريبة من السواحل الصومالية إنما هو بهدف سدّ الفراغ والحد من التداعيات السلبية الناجمة عنه، باعتبارها تشكل تهديداً لمصالح الجميع دون استثناء. 

وفي حقيقة الأمر، فإن محاولة سد الفراغ من قبل أميركا - كما أشرنا سابقاً - ليست وليدة اللحظة وإنما تعود إلى أوائل عقد التسعينيات من القرن الماضي عندما حاولت أميركا وقتها فرض حضورها في منطقة القرن الأفريقي بحجة تأمين وصول المساعدات الغذائية إلى الصومال لكن المحاولة فشلت آنذاك بفعل عدم قدرة أميركا على تحمل الخسائر البشرية التي لحقت بقواتها علي أيدي المليشيات التابعة لمحمد فرح عيديد، فكان من نتائج ذلك أن انسحبت أميركا من الصومال وتراجع بالتالي اهتمامها بالمنطقة، بيد أن أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 فرضت على واشنطن معاودة اهتمامها من جديد، بعد أن شعر الأميركيون بأن الصومال والقرن الأفريقي يمكن أن تكون ملاذاً بديلا للجماعات الإرهابية. ونظراً لصعوبة التدخل الأميركي المباشر على ضوء تجربة التسعينيات، فقد لجأت واشنطن إلى تفويض إثيوبيا, وأيدت التدخل العسكري الأثيوبي في الصومال نهاية عام 2006 على أمل ان يؤدي ذلك إلى إحلال الأمن في هذا البلد، لكن الوقائع أكدت على أن الرهان فشل إذ لم يؤدِّ التدخل العسكر الأثيوبي إلا إلى تفاقم الفوضى، ومن ثمّ فقد أصبح المتاح في ظل الظروف الراهنة بالنسبة لأميركا هو محاصرة التهديدات عبر تشكيل حزام أمني لحصر المشكلة في حدود الجغرافيا السياسية للصومال، ولو كانت أميركا هي الطرف المستفيد لما دعت دول العالم إلى تكثيف حضورها العسكري، ولبادرت هي - قبل الآخرين- إلى تولي مهمة التصدي لظاهرة القرصنة بدلاً من أن تترك الباب مفتوح لتوافد الآخرين.

الهوامش:
1- روبرت جيتس، وزير الدفاع الأميركي، صحيفة الأيام اليمنية، العدد 5578، تاريخ 14/12/ 2008.
1- بيل جورتني، قائد الأسطول الخامس في البحرية الأميركية صحيفة الأيام اليمنية، العدد < 5578> تاريخ 14/12/ 2008.
3- نفس المرجع.
4- حسين حاجي أحمد، نائب القنصل العام الصومالي في عدن، جريدة السياسية اليمنية، 18 ديسمبر 2008 ص11.