التراث اليمني ... والتخريب السعودي
الاثنين, 07-سبتمبر-2015
د. لمياء الخالدي -



منذ أكثر من 10 أعوام، كنت ضمن فريقٍ من علماء الآثار الأمريكيين واليمنيين الذين كُلِّفوا بمهمة مسح وتنقيب المواقع الأثرية التي يرجع تاريخها إلى الممالك الأسطورية في جنوب الجزيرة العربية وخارجها، أي إلى عصور ما قبل التاريخ. كنا أعضاءً في ذمار الذي أجرته جامعة شيكاغو، وسمي باسم هذه المحافظة التاريخية التي تقع في المرتفعات الجبلية في اليمن.

أمضى الفريق عقوداً من الزمن في استكشاف الآثار الصخرية الرائعة والمدن المسورة لتلك الحضارة التي أنشأت المدرجات الزراعة في وقت مبكر من الألفية الثالثة قبل الميلاد، وهو التقليد القديم الذي عمد وبشكل مذهل إلى نحت مساحة كاملة من الجبال الشاهقة في المنطقة وكأنها خارطة طبوغرافية. وقام هذا المشروع بجمع الآلاف من القطع الأثرية من أكثر من 400 موقع، بما في ذلك الأدوات والأواني الفخارية والتماثيل والنقوش المكتوبة باللغات القديمة التي كانت متواجدة في جنوب الجزيرة العربية.

وقد حرصنا على أن يتم وضع كل تلك القطع الأثرية في المتحف ذمار الإقليمي– التي تعد بمثابة دليل على الثقافات القديمة التي قامت بالتجارة على مسافات كبيرة خلال فترة العصر الحجري الحديث والتي بنت في نهاية المطاف طرقاً تربط المدن الواقعة على المرتفعات الجبلية بالطرق الرئيسية لتجارة البخور.

وهناك في المتحف، تم وضعها ودراستها من قبل فرق من الأجانب وعلماء الآثار اليمنيين، كما تم عرضها للزوار. لكن مؤخراً طمست معالم هذا المتحف من الجو،إذ في غضون لحظات تم محو أعمال حرفية لا يمكن تعويضها أبدا والتي صنعها الحرفيون والكتبة القدامى–ناهيك عن الجهود المبذولة من الباحثين اليمنيين والأجانب الذين كرسوا سنوات من حياتهم للدراسة والحفاظ على هذا الإرث.

لقد تحول المتحف بقطعه الأثرية التي يبلغ عددها إلى 12500 قطعة إلى ركام أنقاض بفعل القصف السعودي. منذ مارس الماضي، قامت المملكة العربية السعودية بشن حملة واسعة النطاق من الهجمات الجوية على جارتها معلنةً هدف كبح تقدم المتمردين الحوثيين الذين سيطروا على العاصمة صنعاء وأجزاء واسعة من البلاد. لكن القصف الجوي لم يتمكن من عكس تقدم المتمردين ومكاسبهم على الأرض، بل نجح في تدمير اليمن–أفقر البلدان في العالم العربي.إذ هناك الآلاف من المدنيين بين قتيل وجريح، وتم تشريد مئات الآلاف، وسط شحة في الغذاء والوقود والإمدادات الطبية. قلما ذكرت التقارير بأن هذه القصف الجوي يظهر نمطاً في استهداف مواقع التراث الثقافي في البلد الذي قدم إسهامات غير عادية إلى حضارات العالم.

مهند السياني، مدير المؤسسة العامة اليمنية للآثار والمتاحف، أكد لي عبر البريد الإلكتروني بأن 25 من المواقع والمعالم الأثرية قد تضررت أو دمرت بشكل كبير منذ بداية الصراع. وكما يعتقد العديد من المراقبين بأن اليمن هي الموطن التاريخي لملكة سبأ، تعد اليمن واحدة من أكبر الجواهر في العصور البشرية القديمة.إذ تتمتع بإرث من المعابد الرائعة ومشاريع إدارة المياه والمدن الشاهقة التي يرجع تاريخها إلى آلاف السنين. هذه الثروة الثقافية لا تقتصر على المواقع الأثرية فحسب، فهناك ثلاثة مدن يمنية على قائمة اليونسكو للتراث العالمي لما تحتويه من هندسة معمارية محلية تحبس الأنفاس.

اليمن بلد جوهري في قصة البشرية: إذ قبل ستين ألف سنة، عبر أول البشر من طريق اليمن على طول باب المندب، أحد الطرق الرئيسية المؤدية إلى خارج أفريقيا التي اتخذها الإنسان الحالي (الحديث) لاستعمار أو راسيا. ووجد علماء الآثار – كما وجدت أنا ذلك –بقايا من ثقافات ما قبل التاريخ تلك التي أبحرت عبر البحر الأحمر والبحار العربية قبل 8000 سنة. إذ خلَّف هؤلاء المسافرون والتجار في وقت مبكر وراءهم الكثير من القطع والأدوات الصخرية المثيرة للإعجاب. وهناك المدن المسورة الوقعة على قمم التلال التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، إضافة إلى المدن الضخمة التي كانت تحكمها الممالك في جنوب الجزيرة العربية في الألفية الأولى قبل الميلاد. كما تتمتع اليمن بتراث إسلامي غني يتضمن بعضاً من أقدم المساجد في العالم التي تم زخرفتها بشكل أكثر أتقاناً. في 12 يونيو، تعرضت مدينة صنعاء التاريخية–التي تعد في حد ذاتها واحدة من مواقع التراث العالمي من فبل اليونسكو– تعرضت لقصف جوي من قبل السعوديين.

هذه المدينة المأهولة لأكثر من 2500 سنة، تحتوي على العمارة التقليدية الأكثر جمالا في العالم. ذلك الاستهداف المتعمد للحي السكني في المدينة القديمة أمرٌ لا يمكن تبريره، ويثير تساؤلات خطيرة حول نوايا المملكة العربية السعودية في هذا الصراع. وتتضمن القائمة المبدئية للتراث العالمي لليونسكو عشرة مواقع يمنية أخرى. أحد تلك المواقع يشمل البلدة القديمة في محافظة صعدة، التي عانت أيضاً من أضرار واسعة النطاق جراء القصف الجوي.

وهناك أيضاً سد مأرب، أحد المعالم الأكثر شهرة في اليمن. هذا العمل الفذ تم بناءه بهندسة عبقرية بُعيد الألفية الأولى قبل الميلاد وضل يعمل حتى حوالي القرن السادس الميلادي حيث مكمن عمليات ري لمساحة تقدر بـ24000 هكتار من الحقول عن طريق نظام قنوات محكم. هذا السد الذي تزينه نقوش قديمة من جنوب الجزيرة العربية سمح لممالك سبأ–التي اشتهرت بسيطرتها على طرق البخور–بكسب معايشها حتى في أطراف الصحراء. في 31 مايو، تم قصف سد مأرب وتضرر بشكل كبير من قبل قوات التحالف التي تقودها السعودية. لا يمكن أن يكون هناك سبب شرعي لمهاجمة هذا المعلم الأثري القديم. أنه ليس هدفاً عسكرياً، ولا توجد هناك أية قيمة استراتيجية بما أنه يقع في منطقة غير مأهولة بالسكان على حافة صحراء رملة السبأتين. لا يمكن تسمية تدنيس هذه المواقع الأثرية والمعالم التاريخية، فضلا عن الهندسة المعمارية والبنى التحتية للمدن اليمنية التاريخية، من قبل التحالف السعودي إلا بالتدمير المنظم والمستهدف للتراث العالمي اليمني. وإلى اليوم لم يتم تسميته بذلك! رغم أن وسائل الإعلام الدولي كرست تغطيتها الواسعة حول التدمير الهمجي من قبل الدولة الإسلامية للمتاحف والمواقع الأثرية في العراق وسوريا، إلا أنها لم تقم بذلك حيال التخريب الجوي المستمر الذي ترتكبه المملكة العربية السعودية في اليمن. ويبدو أن الفكر الظلامي نفسه الذي يبرر لعناصر الدولة الإسلامية تدمير مواقع التراث الثقافي يدفع بالحرب الجوية السعودية ضد الشواهد المادية الثمينة للحضارات اليمنية القديمة. وليس هناك من تفسير آخر يبرر ذلك الهجوم السعودي المدمر لهذه الكنوز الأثرية العالمية التي لا يمكن تعويضها.

وفي الواقع، أكدت عدة مصادر أن اليونسكو ووزارة الخارجية الأمريكية قدمت إلى التحالف السعودي قائمة تتضمن مواقع محددة لتجنبها. ولكن بعيدا عن توبيخ حليفتها لتجاهل هذه النصيحة، تقوم الولايات المتحدة بتقديم الدعم اللوجستي والاستخباراتي وكذلك الدعم المعنوي لهذه الحملة الجوية السعودية. وبالتالي فإن المملكة العربية السعودية هي المسؤولة، ليس فقط عن تدمير بلد يصل تعداد سكانه إلى أكثر من 25 مليون شخص فقير،والذي يعاني حالياً من نقص الغذاء وتدهور الأوضاع الصحية ونقص الإمدادات الطبية، بل عن استراتيجيتها في تدمير أهم مواقع التراث العالمي. كما يصعب التفريق بين هذا التخريب الثقافي من قبل السعودية عن تخريب عناصر الدولة الإسلامية. الولايات المتحدة نفسها لديها سجل يرثى لهفي ما يختص بحماية الكنوز الأثرية التي لا يمكن تعويضها خلال احتلالها للعراق عام 2003. ويمكن أن تبدأ في التكفير عن تلك الكارثة الثقافية بكبحها جماح الطموح الإقليمي والأيديولوجي لدى حليفتها السعودية. إن الولايات المتحدة هي البلد الوحيد الذي يمتلك القدرة على وقف السعوديين قبل أن تقوم صواريخهم بسرقة الكثير من التراث العالمي الثمين. -------------------------------------------

* لمياء الخالدي: عالمة آثار لدى المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي الذي قام بعمليات استكشافية وبشكل رئيسي في سوريا ولبنان واليمن.

*. نقلاً  عن النيويورك تايمز الامريكية