منطلقات الحوار الفكري مع القاعدة.. محاولة للفهم
السبت, 29-مارس-2008
زايد جابر - أثار كلٌ من اعتداءيّ حضرموت ومارب الإجراميين- اللذين حملا بصمات القاعدة وقد اعترفت بهما على أية حال- العديد من التساؤلات حول أسباب عودة أتباع هذا التنظيم لأعمال العنف واستهداف الأجانب في اليمن بعد فترة هدوء استمر لما يقارب السنوات الأربع (آخر عملية للقاعدة في اليمن هي الهجوم على ناقلة النفط الفرنسية (ليمبورغ) قرب ميناء الضبة بالمكلا (حضرموت) في 6 أكتوبر2002 حيث تم إرجاع عدم حدوث عمليات إرهابية للقاعدة في اليمن إلى نجاح تجربة الحوار الفكري مع العائدين من أفغانستان والذين ينتمون إلى القاعدة - أويحملون أفكار أو توجهات هذا التنظيم - في تصحيح الأفكار والمفاهيم الخاطئة التي دفعتهم لممارسة تلك الاعمال الإرهابية، وهو ما يستوجب البحث عن الأسباب في عودة اتباع هذا التنظيم لقناعاتهم وأعمالهم السابقة وذلك من خلال معرفة المنهج الفكري الذي تنطلق منه القاعدة لاستهداف الأجانب ومصالح الدول العربية والإسلامية، وأهم أفكار المنهج المضاد الذي تم من خلاله الحوار مع هؤلاء في اليمن، ومن ثم معرفة أهم الأسباب والثغرات التي اتاحها هذا المنهج المضاد أو لم يتطرق لها والذي اتاح لهؤلاء العودة لأفكارهم ومنهجهم السابق، وهذا يتطلب دراسة موسعة ومعمقة ليس هذا مجالها ولكننا سنحاول الإشارة إليها بإيجاز فيما يلي.

المنهج العقدي والفقهي لاستهداف الأجانب ومصالح الدول الإسلامية
يمكن إرجاع المبررات الدينية لاستخدام العنف أو ما يسميه هؤلاء بالجهاد في الدول العربية والإسلامية سواء ضد الأجانب أوالأنظمة أومصالح الدولة، إلى منظومة المصطلحات الفقهية الخاصة بتقسيم الأرض والبشر وأبرزها "دار الإسلام" ودار الكفر أو دار الحرب" وعلى الرغم من أن هذه التقسيمات كانت من "محض صيغ الفقهاء وحدهم" ومحاولات إرجاعها إلى نصوص الوحي لم يكن سوى اشارات محتملة في بعض النصوص تم عدها اشارات بأثر رجعي لاصطلاحات متأخرة، وهو ما جعل كثيراً من الفقهاء قديما وحديثا- يتجاوزونها باعتبارها اجتهادات بشرية لا يمكن إنكار تأثرها بالواقع المعاش والظروف التاريخية الملازمة لحظة صياغتها وولادتها، ألا أن أسباباً عديدة قد أدى إلى إحياء تلك التقسيمات القديمة والأحكام المتعلقة بها وتوسيعها ومحاولات تطبيقها على الواقع، مما رتب على ذلك نتائج خطيرة سواء على مستوى العلاقة مع غير المسلمين أو مع الأنظمة والشعوب الإسلامية أيضا، ومن أهم تلك النتائج ما يلي:

1- "دار الكفر" والعلاقة مع المسلمين:
ترتكز منظومة المصطلحات الفقهية الخاصة بتقسيم المعمورة بشكل رئيسي على مفاهيم دينية " الإسلام" و"الكفر" وهو ما أدى إلى نتائج خطيرة على هذا التقسيم الذي لم يكن سوى وصف واقعي لما هو كائن- ولا يوصل بالضرورة لما ينبغي أن يكون فتنزيل العقدي على الواقعي والتاريخي جعل "الكفر" مساويا "للحرب"، والعلاقة مع الكفار تقوم أساسا على المناجزة والفتح ومن مقتضيات ذلك اعتبار الكفار مهدوري الدم دوما ما لم يدخلوا مع دولة أو دار الإسلام بعقد أمان أو عهد، ورغم أن هذه المصطلحات تم تجاوزها لدى الكثير من الفقهاء المعاصرين الذين اعتبروا العالم اليوم في ظل منظومة الأمم المتحدة متعاقد،وبالتالي فإنه ينقسم إلى دار سلام بالنسبة للدول الإسلامية ودار عهد أو أمان بالنسبة لبقية دول العالم باستثناء الدول التي تقوم بإعلان الحرب على الدولة الإسلامية التي يمكن تسميتها بدار حرب، ألا أن الجهاد الإسلامي العالمي في أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي، قد دفع باتجاه استعادة المفاهيم الفقهية السابقة لتقسيم الأرض وظهرت خطورة ذلك عندما بدأت الأحكام المتعلقة بتلك المفاهيم تمتد باتجاه الخارج أي باتجاه العلاقات الدولية وبدا تطبيقها الأول مريعاً في أحداث الـ 11 من سبتمبر 2001 في برجي التجارة في نيويورك (أو ما تسميه القاعدة بـ "غزوة مانهاتن") فقد تمت شرعنة العمليات "الانتحارية" على أساس التقسيم الفقهي إلى "دار الإسلام" ودار "الكفر" وباعتبار أن أميركا "دار كفر" ودار الكفر في التراث الفقهي مطابقة " لـ "دار الحرب" وليس هناك فرق بين المصطلحين إطلاقا! وأن دماء أهل الحرب هدر أو مهدورة.

2- دار الإسلام والأنظمة والمستأمنين
على الرغم من ظهور تفاوت- إلى حد ما- في صوغ تعريف "دار الإسلام" عند الفقهاء،إلا انه قد يظهر التركيز عند البعض على شرط أو ضابط دون آخر، ويعود ذلك إلى عدم وجود وحي الهي ( بشقيه المتلو وغير المتلو) صريح يحدد المعنى المراد ويضع المعايير والضوابط الخاصة بها كنقاط تمايز لها عن غيرها، ولم يقتصر هذا الاختلاف على أئمة الفقه القديم بل تعداهم إلى من بعدهم من الفقهاء والباحثين المعاصرين، وكان الاختلاف لدى هؤلاء المعاصرين اكثر عمقا وخطورة، بسبب سقوط الخلافة الإسلامية وقيام الدولة الوطنية التي زال عن بعضها النظام الإسلامي كتركيا وبلغاريا، ففي حين ظل بعض العلماء يعتبرها دار إسلام مستنداً على قول أبي حنيفة والمالكية والزيدية، كما فعل محمد أبو زهرة وعدد من العلماء، فإن آخرين قد أخرجوها من مسمى "دار الإسلام" وظل هذا الرأي يتوسع لإخراج دول إسلامية أخرى أخذت بالقوانين الغربية، ليصل الأمر إلى إخراج معظم أو كل الدول الإسلامية من مسمى دار الإسلام مع بدء ميلاد فكرة "الحاكمية" التي بلورها أبو الأعلى المودودي (1913-1979) مؤسس الجماعة الإسلامية في باكستان، وبني عليها ووسعها سيد قطب (1906-1966) في الجاهلية المعاصرة, واستند إليها تنظيم الجهاد الإسلامي في مصر عام 1976م بزعامة الدكتور ايمن الظواهري الذي اصبح الرجل الثاني في القاعدة التي أوصلت فكرة تحول دار الإسلام إلى دار كفر ومواجهتها إلى ذروتها بعد إعلان واشنطن الحرب على القاعدة وطالبان عقب أحداث 11 سبتمبر، فمقابل تقسيم بوش العالم إلى محوري الخير ومحور الشر ومن ليس معنا فهو مع الإرهاب، فإن قادة القاعدة قسموا العالم إلى فسطاطين، فسطاط الإيمان أو الإسلام وفسطاط الكفر والنفاق، والأول في نظرهم هي القاعدة وأنصارها، أما فسطاط الكفر فهم كل أعداء القاعدة أي جميع دول العالم تقريبا بما في ذلك الدول العربية والإسلامية التي دخلت في تحالف مع واشنطن والدول الغربية لمواجهة إرهاب القاعدة، وبهذا أصبحت خارطة العالم اجمع بالنسبة للقاعدة دار كفر أو حرب والعمليات الانتحارية فيها مشروعة لأنها تستهدف أما الكفار الأصليين سواء كانوا في دول الكفر الأصلية أو المتحولة، وإذ لا ُيعصم دم الكافر الحربي إلا إذا دخل دار الإسلام بعقد أمان، ولأنه لم يعد في نظرهم دار إسلام- وعقد الأمان الذي دخل الأجانب بموجبه البلاد العربية والإسلامية منحته الأنظمة والحكومات غير الشرعية فلا قيمة له، بالإضافة إلى عملاء الغربيين من المسلمين خصوصا المرتبطين بالأنظمة، إذ يأخذ هؤلاء حكم الكفار مهدوري الدم في نظر القاعدة، وهذا ما يشير إليه الرجل الثاني في القاعدة في مذكراته التي أسماها "فرسان تحت راية النبي" والتي دعا فيها شباب الإخوان المسلمين وغيرهم أن يسارعوا بالانضمام إلى قوى الجهاد التي تجتمع وتشكل واقعا جديدا لخوض المعارك ضد دولة الكفار الغربيين وعملائهم المحليين.

قضايا الحوار مع اتباع القاعدة في اليمن
ينطلق أنصار القاعدة في اليمن من الأفكار السابقة التي عرضنا لها آنفا والتي كانت بالتأكيد على جدول حوار لجنة الحوار الفكري مع هؤلاء، لكن يبدو أن لجنة الحوار قد ركزت على الأفكار التي ينطلق منها هؤلاء الشباب للقيام بأعمال إرهابية داخل اليمن ومنها استهداف السياح ورعايا الدول الغربية، وحرمة استهداف الأجانب في اليمن يستند- بحسب حديث معظم العلماء داخل اليمن وخارجه- إلى دخولهم البلاد بتأشيرات رسمية مما يجعلهم مستأمنين، وحق منح الأمان ثابت بالنصوص الشرعية لكل فرد من المسلمين فما بالك بولي الأمر، كما أن الوفاء بهذا الامان مما هو معلوم من البعض بالضرورة وهو محل إجماع جمهور الفقهاء والأئمة الأربعة، واستهداف هؤلاء في الدول الإسلامية والذي بدأته جماعة الجهاد الإسلامية في مصر قبل ظهور القاعدة لم يكن عن رفض أو تشكيك في الأدلة الشرعية في هذا الأمر، إذ أن هؤلاء يتبعون المنهج السلفي، وهم بالتالي لا يثقون بصحة الأحاديث بعهد الأمان وما يترتب عنه فحسب،ولكنهم قد يفسقوا إن لم يكفروا من شكك في صحتها وقد فعلوا ذلك مع من شكك أحاديث أخرى لاتصل إلى مرتبتها في السند والمتن فما بالك بهذا الأحاديث الصحيحة التي وردت في معظم كتب الحديث بما فيها صحيح البخاري اصح الكتب- بعد كتاب الله- كما يقولون ويقول غيرهم من أهل السنة، ولكنهم كانوا يرون أن الأنظمة التي منحت حق الأمان لهؤلاء الأجانب ليست شرعية والدول التي يحكمونها تحولت إلى دار كفر لأنها لا تحكم بالشريعة الإسلامية وإنما بالقوانين الكفرية وتجارب الجماعات الإسلامية والعمل الإسلامي..الخ، وبالتالي فإن ما يصدر عنها غير شرعي وغير ملزم استنادا إلى الأحاديث النبوية في هذا المجال.. ولهذا فقد تركز حوار العلماء مع هؤلاء الشباب في اليمن على قضايا إسلامية وشرعية- نظامها وحكامها- أي بالمفاهيم الفقهية القديمة، وجوب طاعة ولي الأمر وحرمة الخروج على الدولة ما دامت إسلامية "دار إسلام" وبالتأكيد فان العلماء لم يجدوا صعوبة في بادىء الأمر لإقناع الشباب بمثل هذه المفاهيم التي تعد من صلب المنهج السلفي وانطباقها على النظام في اليمن، الذي لم يعان من إشكالية إبعاد الشريعة عن الحكم كما حدث في بعض البلدان العربية والإسلامية "الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات" ينص الدستور اليمني، والأحكام العربية والإسلامية وهذه الأمور واقعية، وبالتالي لم يكن بوسع هؤلاء الشباب إنكارها، وهذا ما دفع للتفاؤل بنجاح الحوار وإقتناع هؤلاء الشباب بعدم صواب وشرعية ما كانوا يقومون به من أعمال داخل اليمن وعدم عودتهم لذلك المنهج الفكري الذي كان يخرج بعض الدول العربية والإسلامية من مفهوم دار الإسلام لأسباب تتعلق بعدم تطبيق الشريعة والذي استند إليه تنظيم الجهاد المصري عام 1976 كان قد تطور مع الجهاد الأفغاني ليضيف شروطا جديدا لمفهوم دار الإسلام لا تنطبق حتى على الدول التي تطبق الأحكام الشرعية، فالدكتور عبدالله عزام (1941-1989) احد ابرز قادة الجهاد الأفغاني يعرف دار الإسلام بأنها "الدار التي تطبق الشريعة الإسلامية وتنفذ حكم الله, وتكون حامية للمسلمين, وتعلن الجهاد في سبيل الله, وتقاتل من اجل إنقاذ المسلمين في الأرض, ويكون في هذه الدار امام مبايع بيعة شرعية يقيم الحدود, ويأمر بالجهاد, ويقسم الغنائم, ويحمي المسلمين, ويجاهد لإنقاذهم في كل الأرض, وكذلك لأن لهذه الدولة أن توالي المسلمين وتعادي الكافرين, فإذا حصل اضطهاد لمسلمين في مكان لابد أن تتبنى مشكلتهم والذود عنهم وتنتصر لهم وتقطع جميع علاقاتها مع تلك الدولة الظالمة أيا كانت والدول التي لا تتصف بهذا لا نستطيع أن نسميها دار إسلام، ولذلك فإن الأرض تقريبا- كلها قد خلت من هذه الدار الآن ولا تستطيع أن تعدها دار إسلام". وعلى الذين يبحثون عن أسباب عودة القاعدة باليمن لمواجهة النظام أو الدولة بعد تراجعهم عن قناعتهم أو إقناعهم بأن دولتهم دولة إسلامية أن يقرأوا هذا النص جيدا، ثم يعودوا إلى بيان القاعدة في اليمن الذي سبق تفجير مارب بأسبوع فقط والذي بدأ بالحديث عن "مأساة فلسطين الحبيبة" ونتابع الأحزان والنكبات بسقوط العراق وأفغانستان في يد المحتل الاميركي وقوى التحالف الصليبي" وفي ظل هذه الأوضاع والحرب على الإسلام والمسلمين يقول البيان " تقف القيادات العربية والإسلامية موقف العاجز المتخاذل مكتفة بالاستنكار والتنديد الساذج، وليس لهم أي دور حقيقي سوى محاولاتهم اثبات طاعتهم وولائهم للاميركان باعتقال شباب الحركات الجهادية ومحاصرتهم ليرضى البيت الأبيض عنهم" ولا يختلف حال النظام اليمني عن هؤلاء - بحسب بيان القاعدة- ويمضي البيان قائلاً "وقد رأينا حملات الاعتقالات في بلادنا إنما تحصل قبل زيارة القادة الأميركان لليمن أو بعد عودة رئيس الجمهورية للولايات المتحدة الأميركية"، ومن أجل هذا - يقول البيان- "فنحن باقون بإذن الله تعالى ومصممون على الجهاد في سبيل الله حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين" بالتأكيد ليس المطلوب الحوار مجددا على تفنيد مثل هذه الأفكار ضمن المنهج السلفي النصوصي الذي انطلق منه الحوار السابق، إذ أن الإشكالية أعمق من أن تعالج بمثل هذا المنهج والأسلوب، فهي تحتاج إلى منهج جديد ينطلق مع المقاصد الكلية للشريعة, ويعيد الاعتبار للنص القرآني, وإمكانياته المتجددة لبناء تصور جديد للعلاقة مع العالم, واحترام حقوق الإنسان لكونه إنسانا- وليس مسلما أو ذميا أو حتى داخل عقد الأمان، وهو ما لا يمكن تحقيقه من خلال التراث الفقهي الذي تعد مشاكله أوسع بكثير من مسألة تقسيم العالم وأوسع من قدرة الوعي الإسلامي الحديث على تجاوز التصورات الفقهية التاريخية الثاوية فيه.

الهوامش:
1- عبدالرحمن الحاج "المنظور الفقهي والتقسيم القرآني للمعمورة" مجلة إسلامية المعرفة، السنة الحادية عشرة، العدد 145، صيف 2006، ص66.
2- ياسر لطفي العلي "الجغرافيا الفقهية للعالم": من صور التاريخ إلى صورة الواقع"، إسلامية المعرفة، السنة الحادية عشرة، العدد 145، صيف 2006، ص105.
3- انظر الحلقات التي نشرتها جريدة الشرق الاوسط من كتاب الظواهري "فرسان تحت راية النبي"، وخصوصاً الحلقة التاسعة بتاريخ 10 دسمبر2001.
4- انظر عبدالله عزام في الهجرة والاعداد على الرابط الالكتروني: http\\:www.almeskat/books/open.php? Cat=288 book-770.
5- انظر نص بيان القاعدة في صحيفة الشارع، العدد الخامس بتاريخ 30 يونيو2007.