التوازن الإقليمي وتعبئة الموارد الخارجية: مهام إستراتيجية للدبلوماسية اليمنية
السبت, 29-مارس-2008
سامي السياغي - من الملاحظ منذ العام 1995 أن السياسية الخارجية اليمنية قد كثفت من نشاطها على كافة المستويات الإقليمية والدولية وذلك عبر منظومة العلاقات الثنائية مع مختلف دول العالم من ناحية، وفي إطار المنظمات الإقليمية والدولية المتعددة من ناحية أخرى، وواقع الحال أن ذلك النشاط قد انطلق وتصاعد في وقت اختبرت فيه هذه السياسة العديد من المواقف والأزمات الإقليمية والدولية الحرجة، حيث أن السياسة الخارجية اليمنية لم تكن قد أفاقت بعد من تداعيات أزمة وحرب الخليج الثانية التي جاءت في وقت لم تكن فيه الجمهورية اليمنية تخطو خطواتها الأولى كدولة حديثة النشأة –بالمعنى القانوني- بعد إعلان الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990.
وقد ترتب على ذلك المأزق العديد من الأعباء والضغوط المحلية والإقليمية والدولية على كاهل هذه الدولة الوليدة، كما تضاعفت تلك الأعباء والضغوط مع اندلاع فتنة الانفصال في 5 مايو 1994، فضلاً أيضاً عن التداعيات التي ترتبت على زيادة التوترات الحدودية مع المملكة العربية السعودية التي وصلت إلى حد المواجهات المسلحة المحدودة، ثم الأزمة الخطيرة التي اندلعت بين اليمن وإريتريا عقب احتلالها لجزر يمنية في البحر الأحمر، بالإضافة للمعاناة التي خلفها تصعيد أنصار تنظيم القاعدة في اليمن للهجمات الإرهابية ضد أهداف وطنية وأجنبية على الأراضي اليمنية ابتداء بأعمال الخطف للرعايا الأجانب واستهداف السفارات ومروراً بتفجير المدمرة الأميركية كول والقافلة الفرنسية ليمبورج وانتهاءً باستهداف المنشآت النفطية الوطنية والأفواج السياحية.
في ظل كل تلك الظروف والأوضاع المحلية والإقليمية والدولية المعقدة وبخاصة بعد تداعيات الحرب الأميركية على الإرهاب في أفغانستان عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، كان نشاط السياسة الخارجية اليمنية آخذ في التصاعد على مختلف المستويات، وقد أظهرت تلك السياسة العديد من الخصائص التي يمكن أن تشكل في مجملها نمطاً مميزاً لها في هذه الفترة، فقد أبدت على سبيل المثال التزاما واضحاً بالنهج السلمي في إدارة ملفات الحدود العالقة بينها وبين جيرانها في الجزيرة العربية (عمان والسعودية) وفي البحر الأحمر (إريتريا)، كما أظهرت تشدداً واضحاً إزاء مسألة تثبيت الوحدة ووأد محاولة الانفصال وحساسية مفرطة إزاء محاولات التدخل في شؤون اليمن الداخلية، كما انخرطت بمرونة كبيرة في نسيج الجهود الدولية والأميركية المتعلقة بمكافحة الإرهاب بصورة تحولت نعها اليمن في نظر المجتمع الدولي من إحدى البؤر المحتلمة لنشاط ونمو تلك الظاهرة، إلى شريك متقدم معه عامة ومع الولايات المتحدة الأميركية بصفة خاصة، وفي التصدي لها وفي وضع الإستراتيجية الكفيلة باحتوائها، وإلى جانب تلك الخصائص أظهرت السياسة الخارجية اليمنية أيضاً مواقف متقدمة من قضايا الأمن القومي العربي ومن القضية الفلسطينية وقضايا العمل العربي المشترك.
كل تلك الخصائص السابقة للسياسة الخارجية اليمنية وفي ظل الظروف الاستثنائية التي واجهتها خلال تلك الفترة، وأكدت وجود نوع من الاستمرارية في نهجها العام بحيث يصبح الحديث عن وجود نمط محدد لهذه السياسة أمراً وارداً من الناحيتين الموضوعية والإجرائية، ويمكن بصفة عامة إختزال ملامح ذلك النمط في إطار محورين يشير أحدهما إلى تبلور العديد من الجهود الحثيثة باتجاه صناعة دور ما للسياسة الخارجية اليمنية على المستوى الإقليمي بالذات، بحيث بدأت تلك السياسة ممارسة دور الوازن الإقليمي النشط إنطلاقاً من مقوماتها الذاتية المتعلقة بثبات المبادئ والتوازن. أما المحور الآخر لنمط تلك السياسة فيشير إلى وجود جهود مكثفة باتجاه تعبئة الوارد الخارجية في إطار دبلوماسية التنمية.

الموازن الإقليمي النشط
لقد أثيرت الكثير من التكهنات في المحيط الإقليمي لليمن عن طبيعة الرقم الذي يمكن أن تشكله هذه الدولة الوليدة الناشئة بعد 22 مايو 1990، وفي وقت كانت فيه الساحة الإقليمية بل والدولية عامة تموج بأخطر تحولاتها على مدى نصف قرن مضى وكان على الدولة الوليدة أن تخط طريقها في ذلك الخضم المتلاطم بكل أناة وحذر، ولو أنها انكفأت على ذاتها في حينه لما أثار ذلك استغراب أي متابع أو محلل سياسي، ولكنها لم تجد ذلك الخيار فانطلقت مصممة على صناعة دور إقليمي نشط وفاعل في محيطها الإقليمي. وكانت صناعة ذلك الدور تعني استغلال القدرات والخصائص الذاتية من ناحية، وتهيئة البنية الخارجية المحيطة من الناحية الأخرى. أما عن القدرات والخصائص الذاتية فقد كان رصيدها يشير إلى وجود مخزون معتبر من قيم ومبادئ سياسية ثابتة ظلت تمارسها السياسة الخارجية اليمنية لفترة طويلة من الزمن سبقت حتى قيام الوحدة، فقد تميز السلوك الخارجي للقيادة السياسية ممثلة بالرئيس صالح بالعديد من الخصائص منها إقامة نسق واضح ومتوازن للعلاقات مع الدول الكبرى والحرص الشديد على صناعة السيادة الوطنية والعمل الجاد بخصوص المحافظة على السلم والأمن الإقليمي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. وقد استطاعت السياسة الخارجية لدولة الوحدة ترجمة كل ذلك الرصيد من القيم والمبادئ الثابتة في إطار التوازن والسعي نحو إقرار السلم والأمن الإقليمي، في شكل سياسات متزنة ونشطة هيأت من خلالها البيئة الإقليمية لقبول دور يمني إقليمي موازن نشط، حيث كان لحل مشاكل الحدود مع دول الجوار بالوسائل السلمية حتى في أقسى الحالات التي تعرضت فيها اليمن لعدوان مباشر كما حصل في واقعة الاحتلال الإرتيري للجزر اليمنية، كان لذلك بالغ الأثر في تهيئة تلك البنية الإقليمية لإقامة روابط وعلاقات أكثر تميزاً بين اليمن وجواره الإقليمية.
وقد مكن ذلك الواقع لليمن ممارسة دورها الإقليمي المقبول من كافة الأطراف كموازن فاعل في إطار خريطة ميزان القوى الإقليمي سواء في الجزيرة والخليج أم في القرن الإفريقي، وترتب على ذلك توجه واضح وملموس من المنظومة الإقليمية للخليج العربي لضم اليمن في إطارها إنطلاقاً من وزنه الإقليمي ودورة القائم والمتوقع في إطار رفد تقدم واستقرار المنطقة بصفة عامة.
كما ترتب على ذلك أيضاً نشاط اليمن لإنشاء تكتل إقليمي في إطار القرن الإفريقي، فكان إنشاء تجمع صنعاء كمظلة مفتوحة للتعاون الأمني والاقتصادي بين اليمن ودول القرن الأفريقي ووسط وشرق أفريقيا.
وقد ظهرت ملامح الدور الإقليمي لليمن كموازن نشط من خلال المشاركة اليمنية الواضحة في حل مشاكل المنطقة عبر المبادرات المتعددة من ناحية ودعم مبادرات دول المنطقة الأخرى في ذات الصدد من الناحية الأخرى، ولعل أبرز تلك المبادرات ما تبلور في المحاولات المتعددة من قبل اليمن لتحقيق المصالحة الصومالية عبر أكثر من محطة. وقد تأكد الدور الإقليمي لليمن من خلال مباركة العديد من الدول الكبرى والمنظمات الإقليمية والدولية لجهود اليمن البناءة لتحقيق السلم والأمن على مستوى المنطقة عامة.

دبلوماسية التنمية
احتلت قضية تعبئة الموارد الخارجية حيزاً بارزاً في اهتمامات السياسة الخارجية اليمنية في ظل الظروف الصعبة التي واجهها الاقتصاد اليمني على خلفية الأعباء التي ترتبت على الاختلالات الإدارية والاقتصادية التي رافقت قيام دولة الوحدة في ظل مناخ الاستقطاب السياسي الحاد الذي ساد الساحة السياسية آنذاك، فضلاً عن تداعيات حرب الخليج الثانية وعودة مئات الآلاف من العمالة اليمنية في دول الخليج وفقدان أحد أهم مصادر التمويل الخارجي سواء في شكل تحويلات أولئك العاملين أو تلك المساعدات والقروض التي حجبتها دول الخليج وصناديقها الإئتمانية. كان لابد للدبلوماسية اليمنية من تحرك جاد وسريع لتلافي الآثار السلبية الخطيرة التي تركتها فجوة الموارد تلك على إمكانية استمرار عجلة التنمية في التقدم والوفاء باحتياجات المجتمع. ولم يكن رهان الدبلوماسية اليمنية على المكاسب التي حققتها السياسة الخارجية بصفة عامة رهاناً خاسراً، فقد استطاعت ترجمة تلك المكاسب في إطار مثمر تمكنت خلاله من إحياء علاقات التعاون الإنمائي لليمن بمختلف الدول والمنظمات المانحة على مختلف المستويات. وقد تنوعت أطر تلك العلاقات على المستويين الثنائي أو الجماعي، حيث تعززت أرقام ومستويات التعاون الإنمائي الثنائي مع العديد من دول العام المتقدمة ومع دول الخليج العربية، كما تعدد لقاءات ومؤتمرات المانحين الخاصة باليمن وخرجت بالعديد من النتائج الإيجابية فقد عقدت أربع مؤتمرات للمانحين على مدى عشر سنوات (1996- 2006) كان أولها في لاهاي في يناير 1996 حصلت اليمن خلاله على تعهدات بما يربو على نصف مليار دولار كان لها بالغ الأثر في إقامة أود الاقتصاد اليمني الذي كان يعاني حينها تبعات حرب الانفصال 1994، ثم عقد ثاني تلك المؤتمرات في بروكسل في يونيو 1997 وبلغت تعهداته لليمن مبلغ 1.8 مليار دولار، وجاء ثالثها في باري أكتوبر 2002 ليرصد تعهدات مالية بلغت 2.3 مليار دولار، وكان آخر تلك المؤتمرات في لندن منتصف نوفمبر 2006، وهو المؤتمر الذي مثل نقلة نوعية في جهود دبلوماسية التنمية اليمنية وتعبئة الموارد الخارجية حيث تميز بالمشاركة الفاعلة لدول مجلس التعاون الخليجي في إطار توجه تنظيمي داخل إطار المجلس يهدف إلى دعم الاقتصاد اليمني وتأهيله بغية تحقيق كافة الظروف الموضوعية وقد خرج مؤتمر لندن بتعهدات مالية بلغت 407 مليار دولار بما يشكل 86% من إجمالي الفجوة التمويلية لخطة التنمية للفترة (2006- 2010).
ومما لا شك فيه أن الدبلوماسية اليمنية قد حققت بتلك الإنجازات في مجال تعبئة الموارد الخارجية لدعم خطط التنمية، تقدماً واضحاً في محاولة سد فجوة الموارد التي تهدد في الأساس استمرار عملية التنمية ومن المتوقع أن لا تتوقف أو تنتهي تلك المهمة عند ذلك الحد، فلا يزال هناك الكثير من الجهد المطلوب صرفه باتجاه تعبئة المزيد من الموارد الخارجية بكفاءة واقتدار، مستثمرة في ذلك محصلة الدور النشط لليمن في محيطه الإقليمي.