التعليم خيارٌ أول
الأربعاء, 18-مارس-2015
د .مصطفى الفقي -

لن نمل ولن نكل ولن نيأس من الحديث عن التعليم باعتباره قاطرة المجتمع نحو المستقبل الأفضل، واسألوا مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق ليقول لكم ماذا كانت نقطة البداية في خروج ماليزيا من مستنقع التخلف لكي تصبح دولة عصرية متقدمة؟ فالشعوب الفقيرة هي الأولى من غيرها بالاهتمام بالتعليم والحرص عليه، ومصر دولة ليست ككل الدول لأنها رائدة في مجال التعليم سبقت المنطقة كلها وأخذت بيد شقيقاتها عربيات وإفريقيات من أجل بداية عصر النهضة الذي جرى إجهاضه بميلاد الدولة "العبرية" واستنزاف المنطقة في الصراع العربي - "الإسرائيلي"، ولقد كانت القوى الناعمة المصرية مرتكزة تاريخياً على التعليم قبل سواه، لهذا سعى باني مصر الحديثة محمد علي باشا ورواد النهضة في عصره إلى الارتقاء بالتعليم وإدخال الأساليب العصرية والتقاليد الأوروبية فيه .
نعم لقد كان لدينا "الأزهر الشريف" الذي نقلت عنه الجامعات الأوروبية بما في ذلك جامعة "أكسفورد" حيث ظهر نظام الكليات تقليداً مباشراً لنظام "الأروقة" الأزهرية وظاهرة "شيخ العامود"، إلا أن أزهرياً مستنيراً هو رفاعة رافع الطهطاوي استطاع أن يأخذ بيد التعليم وأن يكون بحق رائد التنوير في عصره، وتلاه علي مبارك ومجددون آخرون بمن فيهم الإمام محمد عبده رائد حركة إصلاح "الأزهر الشريف" وطه حسين داعية المساواة بين التعليم والماء والهواء، ثم جاء جمال عبد الناصر بمجانية التعليم وإن كان قد أسيء استخدامها والانحراف بها عن هدفها الحقيقي .
ثم بدأت عملية تدهور شاملة في التعليم المصري مع نهاية ستينات القرن الماضي وبداية السبعينات، فقد انعكست ظروف نكسة 1967 على مناحي الحياة في بلدنا وفي مقدمتها التعليم مع تزايد الأعداد بفعل المشكلة السكانية واضطراب الأوضاع نتيجة لذلك، فأصبح الفصل المدرسي أقرب إلى "السيرك المزدحم" أو "المولد الصغير" . ثمانون طفلاً في حجرة ضيقة غير مكتملة الأثاث مع غياب لفناء المدرسة وانزواء لحصص الهوايات فضلاً عن ضعف كفاءة المدرسين والمدرسات لأنهم إفراز طبيعي لمجتمع يتدهور هو الآخر، فأصبحنا أمام مشهد مؤسف لدولة كانت رائدة التعليم فأصبحت في مؤخرة الدول صاحبة الريادة والفضل، ويجب أن نتذكر هنا الملاحظات الآتية:
* أولاً: إن دورنا الإقليمي ومكانتنا في المنطقة تراجعاً بشكل ملحوظ مع تراجع نظام التعليم لأننا افتقدنا حالة الجاذبية التاريخية التي شدت إلينا طلاب الدراسات في مدارسنا وجامعاتنا فضلاً عن تهاوي قيمة شهاداتنا الجامعية، ولازلت أتذكر عندما سعيت إلى لندن دبلوماسياً وطالباً للدكتوراه في مطلع سبعينات القرن الماضي أن الطبيب المصري الوافد للدراسة هناك كان يعامل مثل الطبيب البريطاني تماماً ولا يحتاج إلى شهادة "معادلة"، ولكنه يحتاج فقط إلى دورة تأهيلية في اللغة الإنجليزية بينما كان يحتاج الطالب الهندي إلى شهادة معادلة لأن مستواه العلمي حينذاك كان يعتبر أقل من البريطاني أو المصري، ويتم التجاوز له فقط عن امتحان اللغة الإنجليزية لأنه يتحدثها، فأين هم وأين نحن الآن؟
* ثانياً: إن التركيز على نظرية الكم في تطوير التعليم المصري من دون الاهتمام بالكيف، أو الاعتناء بالنوعية العلمية قد أدى إلى كارثة حقيقية، فأصبح يرضينا أن نتحدث عن آلاف المدارس التي يجري تشييدها، وملايين الطلاب في صفوفها وعشرات الجامعات المبعثرة في أقاليم الدولة دون أن نهتم بالمضمون التعليمي والمستوى الأكاديمي للمعلمين والتلاميذ أو الأساتذة والطلاب، فأصبحنا أمام مشهدٍ عبثي يبدو فيه "الهيكل" قائماً ولكن المحتوى خاوٍ، وقد جاء الوقت الذي يجب أن نعنى فيه بالمعلمين قبل غيرهم، ولن نتمكن من القضاء على آفة الدروس الخصوصية إلا بتقنينها علناً من خلال المدارس ذاتها، ولو في غير أوقات الدراسة فيها مع الاهتمام بشكليات الحضور والانصراف ومواظبة التلاميذ ووجود الشروط الصحية في المدارس بدءاً من الفناء وصولاً إلى دورة المياه، ولا بأس إذا اضطررنا إلى مدارس "الفصل الواحد" في القرى الصغيرة بشرط أن يكون المعلمون من ذوي الضمائر اليقظة وليسوا من ذوي الاتجاهات المتطرفة .
* ثالثاً: إن الابتعاث إلى الخارج واحد من المقومات المطلوبة للمدرس العصري ولازلت أتذكر يوم سعى إلى مكتبي الخاص في وسط القاهرة السفير البريطاني الأسبق مبدياً دعمه لثورة 25 يناير وطالباً مني النصيحة فيما يمكن أن تقدمه المملكة المتحدة لمصر والمصريين بعد هذه الثورة، فقلت له إنه التعليم أولاً وثانياً وثالثاً، وشرحت له أهمية أن تستقدم بريطانيا كل ستة شهور عدداً من المعلمين المصريين وليكن ألفين أو ثلاثة وتوزعهم على منشآتها التعليمية يشاهدون ويتعلمون ويفهمون، وقلت له إن عودتهم سوف تقترن بالضرورة برفع مستوى الأداء وبالتالي رفع مستوى العملية التعليمية ككل، ووعدني السفير يومها بالنظر في ذلك الاقتراح ولكن جرى نقله بعدها إلى بلاده ولا أعلم مصير اقتراحي بعد ذلك، فأنا مؤمن بأن الانفتاح على التجارب المتقدمة يحيل الإنسان بالضرورة إلى كيان مختلف نتيجة الاحتكاك الحضاري والتماس الثقافي، فالتعليم لايستقيم وحده دون التدريب المطلوب .
* رابعاً: إن التعددية في نظام التعليم المصري جريمة كبرى في حق الشعب وانصهار أفراده وتقارب الأفكار بين أبنائه، فهل يعقل أن يكون لدينا تعليم ديني يضم آلاف المعاهد في القرى والنجوع، ولدينا تعليم عام يضم الملايين موزعة على خريطة الوطن، إلى جانب تعليمٍ أجنبي استثماري وتعليم خاصٍ تجاري، ثم نتصور بعد ذلك أن يكون لدينا وطن موحّد له أركان ثابتة وقواعد متينة؟
لا يصهر المجتمع ويؤدي إلى تجانسه إلا أمران، أولهما التعليم الذي يجب أن يجلس فيه الفقراء إلى جانب الأغنياء وأن يكون الفيصل الوحيد في الأمر هو التفوق العلمي والتحصيل الدراسي لأن انصهار الطبقات والفئات والقطاعات والديانات لا يأتي إلا من خلال وحدة التعليم، ثم يلي ذلك التوحد في الخدمة العسكرية من دون تفرقة أو تمييز فالكل جنود الوطن بغير استثناء، لهذا فإني أقول صراحةً إن جزءاً كبيراً من انقسام المجتمع بل وممارسة العنف والانخراط في جرائم الإرهاب هي في مجموعها نتائج طبيعية لما أدى إليه نظام التعليم من تفرقة وما خلق من حواجز بين أبناء الوطن الواحد .
. .إنني أدرك أن المهمة صعبة وأن المسؤولين عن التعليم يبذلون قصارى جهدهم ولكن الطريق شاق والمسيرة طويلة .



*. نقلاً عن صحيفة الخليج اللندنية.