مراكز البحوث وصناعة القرار
الثلاثاء, 10-مارس-2015
د. عبدالحق عزوزي -

في الولايات المتحدة الأميركية مثلاً نجد الآلاف من مراكز الأبحاث منها مراكز الضغط السياسي، التي تستخدم نتائج أبحاثها للتأثير على الإدارات الأميركية في صناعة القرار كـ«مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، الذي يضم نخبة من السياسيين والأكاديميين البارزين كهنري كسنجر وهارولد براون.. إلخ، كما يمكن أن نجد أيضاً مراكز خلقت للدفاع عن مصالح إسرائيل كـ«معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، والمعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي للدعاية لإسرائيل في المجالات الأمنية والعسكرية أو ما يسمى بالأذرع الفكرية الإسرائيلية في واشنطن. وهذه المراكز تتوفر على إمكانيات مادية وبشرية ضخمة وتؤثر بشكل جليٍّ على السياسة الخارجية الأميركية. ولا يخفى على كل متتبع لبيب ما قامت به تلك المراكز مؤخراً من جهد لاستدعاء رئيس الوزراء الإسرائيلي من أجل إلقاء خطاب في الكونجرس الأميركي رداً على الاتفاق المحتمل بشأن المسألة النووية الإيرانية، على الرغم من معارضة البيت الأبيض لتوقيت ومكان الخطاب، ليجد الرئيس أوباما نفسه في صورة المستسلم!



ثم إن مراكز الأبحاث والدراسات في الدول الغربية بصفة عامة لها دور كبير في تجذير ثقافة إنتاج العلم والمعرفة والتوجيه في مجال السياسات العمومية، ولهذا عرفها «بيتر سينجر» مستعملاً مجاز سلسلة الدراجة (Bicycle Chair) بأنها تتواجد بين عالم البحث العلمي والعالم السياسي.



وتختلف أهمية دراسات مراكز الأبحاث باختلاف البلدان من بلدان متقدمة صناعياً وعلمياً، إلى بلدان نامية، ثم إلى دول متخلفة. ولذا لا يخفى على كل متتبع لبيب أن قوة هذه المراكز ودرجة تأتيرها على صاحب القرار موجودة أكثر في الدول المتقدمة، ولا مناص من القول إن الولايات المتحدة الأميركية، ودولاً أخرى كبريطانيا وكندا، كانت هي الدول الأولى التي نمت وتطورت فيها هذه المراكز، وتساهم بجلاء بخمس طرق في مجال السياسات العامة، كما ينحو إلى تأكيد ذلك «ريتشارد هاس»:

-تساهم في بلورة أفكار أصيلة وتقدم خيارات سياسية متعددة.

-أنها تكون خزاناً من الخبراء المتمكنين يمكن أن يوضعوا رهن إشارة صاحب القرار.

-تعتبر مكاناً للنقاش ومعاينة التوجهات الجديدة والممكنة. وفي بعض الأحيان تكون السرية هي القاعدة المميزة لمثل هذه الاجتماعات، وعلى سبيل المثال يمكن أن نذكر تجربة «شاثام هاوس» Chatham House، حيث مأسست لقواعد السرية في تبادل الخبرات والأفكار. والعديد من مراكز الأبحاث تقوم بهذا النوع من الرياضة الفكرية والعصف الذهني.

- لها دور تربوي للنخب كما للمواطنين. فالبعض منها يكون شغله الشاغل هو النخبة الحاكمة على حساب الرأي العام، وفئة بحثية أخرى قد تهتم بالمواطنين العاديين على حساب أصحاب القرار، ونستحضر هنا مراكز الأبحاث «الريجانية» نسبة إلى الرئيس الأميركي «رونالد ريجان»، ومراكز الأبحاث التاتشرية نسبة لرئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر، التي كانت تعتبر خارج «دائرة العقلانية»، وأثرت أيما تأثير على الرأي العام فاتحة الطريق لميلاد مجموعة من القادة المحافظين.

- كما أن تلك المتخصصة في مجال العلاقات الدولية تكون عوناً للجهود الرسمية في حل المشكلات الدولية.



وبناء على هذه المعطيات، يمكن القول إن مراكز الأبحاث لا تقوم فقط بصياغة دراسات أصلية، ولكنها تساهم أيضاً في إعداد النخب والتأثير على المجتمع السياسي. فنجد المئات بل الآلاف منها في الولايات المتحدة، وفي كندا وبريطانيا مهتمة بقطاع أو بقطاعات معينة في مجال السياسات العمومية وفي بعض الأحيان تهتم بقطاعات واسعة ومتداخلة لصياغة دراسات مستوفية إلى غير ذلك، وهي تستفيد من مساحة الحرية، التي تنشط فيها، ولها رؤية مستقبلية في بنيتها تطغى عليها النظرة الإيجابية إلى المستقبل، كما تستفيد من قوة المناهج والأسس النظرية في شراكة استراتيجية مع المجتمع ومع صانع القرار، وتستفيد من قوة البحث العلمي ومكانة جامعاتها ومؤسساتها الفكرية والتربوية وتجذير التقاليد الديمقراطية للبحث العلمي، الذي يساهم في تنمية المجتمع أياً كان التخصص. كما أنها تستفيد من قوانين الوصول إلى المعلومة (أياً كانت)، ولا تعاني الحظر ولا القيود تحت أي سبب من الأسباب التي نسمعها يومياً في بعض الأوطان العربية، وتعمل تلك المراكز في إطار من تقاليد العمل الجماعي والحوار والتبادل المعرفي وقبول الخطأ والتقيد بالمنهجية وقبول الأسرة الفكرية الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي العلمي المشترك. كما تعتمد في إطار دراساتها المستقبلية على وفرة المعلومات وسعة صدر صاحب القرار وعلى تقنيات تمكن من توسيع مساحة المشاركة في البحث، وهو ما تحتاج إليه مراكز الأبحاث في العديد من الأوطان العربية.



*.نقلاً عن جريدة الاتحاد الإماراتي