عن خصخصة الدين وغربة الإسلام في دياره
الثلاثاء, 23-ديسمبر-2014
سعد القرش -

دائما ما أربط بين هذين الحديثين: “بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ”، و“إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق”. أتساءل عن غربة الإسلام في أرضه، وكيف صار لدى كثيرين في العالم مرادفا للعنف، وقتل النفس التي حرم الله قتلها؟ هؤلاء الكثيرون الذين يربطون العنف بالإسلام لا ينطلقون من أحكام “تاريخية”، ولا يحتاجون للرجوع إلى التراث الاستشراقي، ولكنهم يرون ما تضخه الشاشات من دماء تراق في ديار الإسلام، وفي بلادهم وقد تشبّعت بما يكفي من دماء الحروب الدينية، قبل بلوغ الرشد “العلماني” الذي يفسح صدرا “إنسانيا” لضحايا الدكتاتوريات في العالمين العربي والإسلامي.

أتساءل: كيف لا يغار على الإسلام المتحدثون باسمه، ممثلو هيئات “إسلامية” لا يخلو منها بلد في العالمين العربي والإسلامي؟ فيسعفني الحديث الثاني “إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق”، وأتابع كثيرين ممن حملوا لقب “داعية”، فلا أجد داعيا للقب، ولا أخرج من برامجهم التلفزيونية أو خطبهم بجديد، وأتذكر أن الإسلام بُني على خمس، هي قواعد الإسلام لا المسلم الذي يجيز له الدين السمح أن يكون نصيبه منها ثلاثا، إذا لم يستطع الصوم والحج.

أتساءل عن عدم ثقة مئات الآلاف من “الدعاة” بهذا الحديث، فيهربون منه إلى التشدد، ويوغلون فيه بغير رفق، وتصيبهم هستيريا حين يجتهد أزهري مثلهم، هو سعد الدين الهلالي، رئيس قسم الفقه المقارن بجامعة الأزهر، ويقول إن “المسلم من سالم، وليس من نطق بالشهادتين، بل لو نطق شهادة (لا إله إلا الله) صار مسلما”.

لا أناقش رأي الرجل. هذا ركن يخص العقيدة لا العبادات، ولكن رد الفعل الرسمي ـ الأزهري يوحي بأن الدين هش، وكأن “الدعاة” لم يصبهم مسّ من تراث المتصوفة والمجتهدين. انفعال الأزهر، وإن بدا في ظاهره غيرة على “ثوابت الدين”، يقطع الطريق على أي اجتهاد، ومن يجرؤ يناله مصير نصر حامد أبو زيد، ماداموا “يقسمون رحمة ربك”.

كلام الرجل الذي لن يضير مسلما استدعى عقد جلسة طارئة لمجمع البحوث الإسلامية للرد على فتوى عابرة تصدر، في حين يواصل مئات الآلاف من “الدعاة” النقل الحرفي من تراث “مجتهدين” لو عاشوا بيننا لراجعوا أنفسهم، وأنكروا “مضار الاتباع” الذي يهدر السياق العام لاجتهادات تنتمي إلى عصور سابقة.

“… إن هذا الدين متين”، لا تسيء إليه إلا هيئات وجماعات ناطقة باسمه، تستبد به وتحتكره. “ليسوا سواء”؛ فلا يجمع بينهم شيء، ويكفّر بعضهم بعضا، وهل يتشابه حزب الله، وبوكو حرام، وجند الإسلام، والتوحيد والجهاد، والتكفير والهجرة، وجبهة النصرة، والجبهة السلفية، والإخوان، وما يسمى الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”.

تنظيمات أوغلت في الدين بغير رفق، وفي عماها لمست منه شيئا فادعت امتلاك الإسلام كله، وعمدت إلى خصخصته، ومصادرته لحسابها. ويصير لكل منها ثلاث طبقات من التكفير: تكفير الجماعات “الإسلامية” الأخرى، والمزايدة عليها استعلاء وإيغالا في العنف من غير رفق. وتكفير المجتمع الذي يجب، في رأيهم، أن ينتقل من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام. وتكفير الحاكم الذي لا يحكم “بما أنزل الله”، وطال الاتهام الأخير محمد مرسي بعد وصوله للحكم.

تكفير ديني ثلاثي، يقابله تكفير وطني أحادي. إفراط الأول يمنح الثاني حياته وشرعيته، فتحكم الدكتاتورية السياسية قبضتها بذريعة الحفاظ على الأمن، وحماية المواطنين.

في عهد الإخوان قال محمود شعبان، الأستاذ في جامعة الأزهر، إن جبهة الإنقاذ (مثل حمدين صباحي ومحمد البرادعي): “حكمها في شريعة الله القتل. حكمها في شريعة الله القتل، بالحديث الصحيح الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم”. وقد كتبت، هنا في “العرب” أكثر من مرة، أن اسم عبد الفتاح السيسي لم يكن مطروحا يوم 30 يونيو 2013، ولكن خطاب الكراهية والعنف والتهديد بالقتل الذي أعلنه وألحّ عليه أنصار الإخوان والمهاجرون إليهم دفع البسطاء للاحتماء بالسيسي، بعد أن أصبح “الخطاب” سياسة طالت جنودا في الجيش والشرطة، لمجرد أنهم جنود في الجيش والشرطة، وأحرقت كنائس يذكر فيها اسم الله، في ظل تحويل خلاف سياسي إلى صراع بين الإسلام والكفر.

وفي تونس لم تجف دماء شكري بلعيد (فبراير 2013) ومحمد البراهمي (يوليو 2013)، أبرز معارضي حكم حركة النهضة “الإسلامية”. وقد حسم إعلان تكفيريين تونسيين، يوم الخميس 18 ديسمبر 2014، الجدل حول المسؤولية عن اغتيالهما. دعا أبو بكر الحكيم، بلسان داعشي مبين، إلى إحياء: “سنة الاغتيال في تونس. نعم يا طواغيت. نحن من اغتلنا شكري بلعيد والبراهمي. وبإذن الله سوف نعود ونغتال الكثير منكم، والله الـذي لا إله إلا هو لن تعيشوا مطمئنين… وبإذن الله نرفع راية لا إله إلا الله محمد رسول الله… والله العظيم لن يشفي صدورنا إلا ذبح هؤلاء المرتدين، إلا الشرب من دمائهم، والله والله جايينكم بالمفخخات، جايينكم بالسلاح بالكلاشينكوف، جايينكم بالعبوات… حتى نرفع راية التوحيد”. ولم ينس بالطبع أن ينصح أهل تونس بحمل السلاح، وأن “يقاتلوا في سبيل الله، والتحقوا بإخوانكم في جبال… وأدعو إخواني في تونس عامة، وإخواني في الجبال خاصة، أن يقتدوا بإخوانهم في ليبيا وفي الجزائر وفي بلاد الحرمين وفي اليمن وفي سيناء وأن يبايعوا أمير المؤمنين أبا بكر البغدادي”.

أقابل العميان وأتابعهم، فأتذكر الحديث – الدعاء: “اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا”، وهم يجتهدون في أن يكون لكل منهم إسلام خاص، يفرضه على الآخرين، ولو بالمفخخات والكلاشينكوف، ناسيا آية “لا إكراه في الدين”، دين الله الخالص لا الدين الخاص الذي أصبح مهنة، مشروعا لعاطلين عن عمارة الأرض.

التكفيريون سواء، في النوع لا الدرجة، من يكفّر مجتمعا، ومن يغتال رجلا أعزل مثل فرج فودة، ثم يشهد الشيخ محمد الغزالي أن فودة “كافر ومرتد… ويجوز أن يقوم أفراد الأمة بإقامة الحدود عند تعطيلها.. وليس عليه عقوبة”. ومات الغزالي دون أن يعتذر عن دعوته إلى للقتل.



*. نقلاً عن صحيفة العرب اللندنية.