فلسفة التاريخ وحضارة العنف
الأحد, 07-ديسمبر-2014
محمد خليفة -


يبدو أن العالم يتجه حثيثاً نحو حرب باردة جديدة، وأن جدار برلين الذي كان رمزاً لتلك الحرب وتم هدمه، قد يعود بأشكال أخرى . إن ثمة سراً عجائبياً كامناً وراء الأحداث في العالم، وبالأخص في الوطن العربي، وإن فهم السياسة الدولية الغربية والروسية، سيتوجب معرفة الفلسفة التأملية في التاريخ عن كل ما تعنيه تجارب الإنسانية الدينية والأخلاقية، بما أن التاريخ هو تطور العقل في الزمان، وأن الطبيعة هي تطور الفكرة في المكان، وأن تلك الروح التي سيطرت على المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، والتي انطلقت في القرن الثاني عشر مع الحروب الصليبية، هي نفس الروح التي يعيشها العالم اليوم، والتي تؤمن بالقوة لا بالعدل . ولقد سيطرت هذه الفلسفة على كافة الإجراءات والسياسات التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية . ومما نجم كذلك عن سيطرة القوة على السياسة الدولية أن أصبح الاتحاد السوفييتي السابق عدواً لجميع دول الغرب بسبب أيديولوجيته الشيوعية، والتي حاول تصديرها إلى الغرب عبر إيجاد الأدوات، وخلق الثورات في هذه الدولة أو تلك . لكن الخلاف بين الدول الغربية كان أكبر وأعقد من أن تتحد هذه الدول لقتال الشيوعية، بل إنها دخلت في حرب هائلة بين بعضها بعضاً . ولم يبقَ الاتحاد السوفييتي بعيداً عن لهيب تلك الحرب، بل سرعان ما أصبح في قلبها عندما أعلنت ألمانيا الحرب عليه عام 1941؛ لتبدأ بعد ذلك مرحلة من التعاون بين الاتحاد السوفييتي و(الحلفاء) بريطانيا والولايات المتحدة، وقدم الحلفاء مساعدات ضخمة عسكرية وغذائية للسوفييت .
وبدأت اللقاءات بين الزعيم السوفييتي "ستالين" وبين رئيس الولايات المتحدة "فرانكلين روزفلت"، ورئيس وزراء بريطانيا "ونستون تشرشل"، فكان هؤلاء الزعماء يجتمعون من أجل تنسيق الخطط لمواجهة دول المحور . وعندما مالت كفة القتال لصالح الحلفاء، وشارفت الحرب على نهايتها بنصر ساحق لهم، اجتمع الزعماء الثلاثة (روزفلت وستالين وتشرشل) في مدينة يالطا بجزيرة القرم الروسية، واتفقوا على تقسيم أوروبا والعالم بين الولايات المتحدة، وحليفتها بريطانيا من جهة، وبين الاتحاد السوفييتي من جهة أخرى . بينما على الجانب الآخر فقد تم تقسيم ألمانيا إلى أربع مناطق محتلة، تقاسمتها الدول المنتصرة؛ الولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وتبعاً لذلك، قُسِّمت العاصمة السابقة للرايخ الألماني إلى أربع مناطق أيضاً، وكان الخلاف قد بدأ يتسع بين المحورين الشرقي والغربي، فبدأت الحرب الباردة عام ،1949 ومثلت برلين مسرحاً للمعارك الاستخباراتية بين حلفاء الأمس وأعداء اليوم، وقد بادر الحلفاء (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا)، إلى دمج حصصهم من الأرض الألمانية وأقاموا ما عرف، آنذاك، جمهورية ألمانيا الغربية، وبادر بعد ذلك الاتحاد السوفييتي إلى إقامة جمهورية ألمانيا الديمقراطية "ألمانيا الشرقية" في المنطقة المحتلة من قبله، وبدأ العمل، على قدم وساق، على حدود كلا البلدين لتأمينها، وتم وضع شرطة وحرس الحدود، ولاحقاً على الطرف الشرقي، وضع السوفييت الأسلحة الثقيلة، وكانت مدينة برلين المقسمة أربعة أقسام بين الدول الأربع، منطقة خالية من العسكر، وكانت مستقلة عن الدولتين الألمانيتين الجديدتين .
ولكن عملياً لم يكن الحال كذلك، فالمناطق الغربية من برلين أصبحت أقرب إلى كونها ولاية ألمانية غربية، وخلافاً للمعاهدات، فقد أعلن الشيوعيون في شرق ألمانيا، برلين الشرقية عاصمة لجمهورية ألمانيا الديمقراطية . وكان الهدف هو ابتلاع كامل ألمانيا من خلال بث الدعاية الشيوعية، ودعوة الألمان في القسم الغربي للثورة على حكومتهم . ومع زيادة حدّة الحرب الباردة لم تعد حدود جمهورية ألمانيا الديمقراطية حدوداً بين أقسام ألمانيا، بل أصبحت حدوداً بين المعسكرين الشرقي والغربي، بين حلف وارسو وحلف الناتو، أي بين ايديولوجيتين سياسيتين مختلفتين، بين قطبين اقتصاديين وثقافيين كبيرين .
ومنذ تأسيس جمهورية ألمانيا الاشتراكية، بدأ انتقال أعداد متزايدة من مواطنيها إلى ألمانيا الغربية، وعلى وجه الخصوص عبر برلين، التي كانت من شبه المستحيل مراقبة الحدود فيها، حيث كانت الحدود تمر في وسط المدينة وأحيائها . وترك قرابة ثلاثة ملايين ألماني جمهورية ألمانيا الاشتراكية، للعيش في ألمانيا الاتحادية، وقد هدد ذلك القدرة الاقتصادية لألمانيا الشرقية، وهدد كيان الدولة ككل . فكان سور برلين هو الوسيلة لمنع هذه الهجرة، وقبل بناء السور أو الجدار، كانت القوات الألمانية الشرقية تراقب وتفحص التحركات على الطرق المؤدية إلى غرب برلين بحثاً عن اللاجئين والمهربين .
ولا يمكن إهمال حقيقة كون الكثير من سكان برلين الغربية والشرقيين العاملين في برلين الغربية حصلوا بتبادل العملة في السوق السوداء على ميزة الحصول على المواد الأساسية بأسعار مغرية، وقلة شرائهم للكماليات العالية القيمة من الشرق، الأمر الذي كان يضعف الاقتصاد في برلين الشرقية أكثر فأكثر، وعندما بدأ الضعف يدب في جسد الاتحاد السوفييتي وتبين ذلك منذ عام 1985 حيث بدأت القيادة السوفييتية تعمل على التغيير لمنع انهيار اقتصادي حتمي، وقد أدرك الغرب هذه الحقيقة، فتحركت الدوائر الغربية لدفع ألمانيا الاتحادية للمبادرة لشراء ألمانيا الشرقية من الاتحاد السوفييتي، وإعادة توحيد ألمانيا وقد دفع المستشار الألماني هولمت كول، 15 مليار مارك للقيادة السوفييتية ثمناً لسكوتها عن توحيد ألمانيا، تم البدء بهدم جدار برلين بعد أكثر من 28 عاماً على بنائه، وذلك كتعبير عن التغيير القادم الذي سيشمل كل العالم . وبالفعل لم يمضِ سوى عامين على سقوط ذلك الجدار حتى سقط الاتحاد السوفييتي نفسه، ومعه دول المعسكر الشرقي في شرق أوروبا وسواها من قارات العالم . ورغم فترة الهدوء التي سادت العالم بعد ذلك، وأتاحت انتشار وسائل التقنية والتواصل بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، لكن العالم اليوم بات على شفا حرب باردة جديدة، وهذا ما قاله "ميخائيل غورباتشيف"، آخر زعيم سوفييتي، وذلك في حفل لإحياء ذكرى سقوط جدار برلين . فقد تعقدت السياسة بين الغرب من جهة، وروسيا والصين ومعهما دول "بريكس" من جهة أخرى . وكانت الجبهة التي انفتحت في أوكرانيا دليلاً على عمق الهوة بين القطبين الناشئين . لكن هذه الحرب مختلفة عن سابقتها، فكلا الجانبين يتبع اقتصاد السوق، ويعمل على توسيع التجارة العالمية، لكن الخلاف الأساسي هو أن روسيا والصين تعتقدان أن الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة تعمل على إخضاعهما، لكي تنفرد هي بحكم العالم .
إن الحرب الباردة الجديدة ليست في صالح دول الغرب، فقد ربح الغربيون الجولة الأولى من الروس في السابق، ونجحوا في تحطيم جدار برلين والتعجيل بانهيار الاتحاد السوفييتي، أما اليوم، فإن دول الغرب كلها تعاني ذات المشكلة التي عاناها الاتحاد السوفييتي السابق وهي، الاقتصاد، فجميع تلك الدول ترزح تحت أزمة الديون . وتبدو الديون المترتبة على الولايات المتحدة والتي قاربت (18) تريليون دولار، هي الأكثر إيلاماً، لأنها تفوق قدرة الغرب كله على الوفاء بها . ورغم أن الحرب الساخنة تبدو بعيدة الآن، لكنها قد لا تبقى كذلك في المستقبل، وخاصة إذا شعرت دول الغرب أن الانهيار الاقتصادي سيقترب إليها أكثر، وعند ذلك سوف تحرك قوتها العسكرية الكامنة لإثارة أعظم وأخطر الحروب في تاريخ البشرية، والتي ستكون الحرب العالمية الثانية أمامها مجرد نكتة . إن الدول المتصارعة الآن تسعى للحيلولة دون الحرب الساخنة، لكي يبقى الصراع تحت السيطرة، لكن رغم ذلك، فقد تتبدل الأولويات وتصبح الحرب العسكرية هي الخيار الوحيد .


*. نقلاً عن صحيفة الخليج الاماراتية.