القول ما قاله كيسنجر فصدّقوه
الثلاثاء, 21-أكتوبر-2014
رياض رمزي -


في يوليو عام 1971 غادر هنري كيسنجر أميركا متوجها نحو اسلام آباد ثم اختفى في ذلك المكان. قيل حينها إنه يعاني من نزلة مرضية، ولم يكن يشك أحد في ذلك سوى نيكسون ومجموعة من المستشارين الذين يعرفون أنه موجود في الصين للتحضير للزيارة الشهيرة لرئيس الولايات المتحدة للقاء ماو تسي تونغ. بعد أن درس شخصيته خرج باستنتاج عن الرئيس ماو “لديه القدرة على الوقوف في أي مكان يختاره”. إنه كيسنجر صاحب المقولة الشهيرة “رجل الدولة الكفء يجب أن يعمل في الحدود الأخيرة التي توفرها الإمكانيات المتاحة، لأنها المنطقة الوحيدة التي تغامر لوحدك في اللعب فيها عندما ينسحب الآخرون”. طبق هذه السياسة بنجاح في الشرق الأوسط عام 1973 حيث نجح في تقريب مصالح وعقليات متعارضة بفضل احتكاره اللعب في تلك المنطقة. هذه السياسة التي برع فيها- كما يقول- أستاذه تاليران وزير خارجية نابليون. في تلك السنة بدأت أميركا مرحلة جديدة من تاريخها العالمي (مرحلة تحديد الخيارات لقرن كامل ستختفي في نهايته امبراطورية عظيمة كالاتحاد السوفيتي) تحت قيادة هنري ألفريد كيسنجر شخص من صلب مهامه التدخل وحل النزاعات القارية، إرساء النظام العالمي الجديد وكل ما له علاقة بمسيرة التاريخ وطبائع الأمم.

الأستاذ في جامعة هارفارد، مستشار الأمن القومي، وزير سابق في عهدي نيكسون وفورد، المتهم بإطالة حرب فيتنام، المسؤول عن مذابح تيمور الشرقية، الذي عندما دخل الشرق الأوسط قرأ كتابا لأحد أساتذة هارفارد وعنوانه “الخيمة والسوق” يصف فيه الشرق الأوسط بسوق كبيرة كل شيء فيه للبيع والشراء، وفي وسط ذلك السوق خيمة المسؤول الذي يحدد عن طريق أعوانه ووكلائه أسعار البضائع في السوق، التي إن رغب بائع أو مشتر بإنجاز صفقة ما عليه إلا الجلوس في خيمة المسؤول والتفاوض حول شروط الصفقة. هذه ليست هي كل إنجازات الرجل. إنه رجل عام 1972 في مجلة التايم، الفائز بجائزة نوبل للسنة التالية، صاحب مبادرة تذويب الجليد مع الصين، حيث تظهر صورته وهو يتوسط نيكسون وماو. أنه مالئ القارات وشاغلها لخمسين عاما من القرن الماضي، والذي يُقارن بمترنيخ. تُدرّس نظرياته في العمل الدبلوماسي والعلاقات بين الأمم في أغلب الجامعات. شخصية سياسية تحت الطلب من كل رؤساء أميركا.

ليس ذلك كل ما يحوز عليه. إنه كاتب ابتدأ عمله الفكري عام 1956 بكتاب عنوانه “العالم مستعادا” تبعته مجموعة من الكتب وعشرات المقالات. أصدر كيسنجر البالغ الآن من العمر تسعة عقود وعاما واحدا، كتابا جديدا عنوانه” النظام العالمي الجديد” الذي هو أفكار حول طبائع الأمم ومسيرة التاريخ وكيف تتصرف القوة الأولى في العالم. ما أن صدر كتابه الجديد هذا العام (420 صفحة دار نشر آلن لين) حتى غدا مصدرا أكاديميا وكتابا تنصح دور النشر بقراءته في قوائمها الصيفية والشتوية.

النتيجة التي يسعى كيسنجر في متن الكتاب إلى تأكيدها “إن كان علي الاختيار بين عالم عادل يعمر بالفوضى، وعالم غير عادل لكنه يخضع للنظام فسأختار الثاني”. يحلل كيسنجر في هذا الكتاب القوى التي تتحكم في مناطق العالم وهي أربع: الولايات المتحدة، أوروبا، الشرق الأقصى والشرق الأوسط. في هذا العالم هناك قوة وحيدة (أميركا) بمقدورها التأثير وتغيير شكل العالم، وهي جملة يتبعها بعبارة “ولمصلحة الإنسانية”. ثم ماذا؟. يضيف أن النظام العالمي يعتمد على الشرعية المدعومة بالقوة. كي نستخدم القوة يجب أن نهيّأ لها الشرعية. هكذا فإيجاد الشرعية- كما يقول- هو جوهر عمل رجل الدولة.

دون وعي منه يسير كيسنجر على خطى ماركس الذي سبق أن قال إن من لا يدرس التاريخ سيكون محكوما عليه بتكراره، لذا فهو يستلهم وبقوة دروس التاريخ. يعود في هذا الكتاب إلى معاهدة سلام وستفاليا 1648 التي أنهت حرب الثلاثين عاما، وحرب الأعوام الثمانين بين أسبانيا وجمهوريات الأراضي السبع الواطئة، والتي جعلت من سيادة الدول المستندة إلى القوة مبدأ لها. ثم يعود إلى فترة ما بعد معركة واترلو حيث انعقد مؤتمر فيينا عامي 1814-1815 الذي انتهى بإنشاء أوروبا جديدة خطّط لها أستاذه مترنيخ الذي أنشأ قارة مستقرة، انطلاقا من ثبات هذا الميزان المستند إلى مبدأ القوة الذي سمح لأوروبا أن تبقى مستقرة لمئة عام حتى الحرب العالمية الأولى التي نشبت بسبب تخلخل موازين القوى.

تأتي أهمية الكتاب أنه يصدر في فترة تشبه فترة انتهاء فترة المئة عام، حيث يلح كيسنجر الآن على دراسة ميزان القوى وعمل نتائج ثم سياسات صحيحة إزاء تهديدات خطيرة: إظهار بوتين لمخالبه، صعود القوى الاقتصادية الجديدة كالهند والصين، تهديدات “الجهاديين” في الشرق الأوسط والمغرب العربي واحتمال تسلله إلى أوروبا. يترافق ذلك- كما يؤكد الكاتب- مع منافسات وتوتر بين الدول تصل حدود القتال: إيران وأسرائيل، الهند وباكستان، روسيا ومحيطها الأوروبي. لا ينسى كيسنجر إضافة مشاكل العولمة والتغيرات المناخية.

ما يسعى إليه كيسنجر رؤية ملامح الفوضى او أخطار التشظي المقبلة، لتجنبها قبل حدوثها، كي لا يفقد من يمسك بيده عتلة الميزان السيطرة على التوازن، كي لا تعم فوضى تنتج توازنا ليس لأميركا فيه الكلمة المسموعة. فكيسنجر الذي بلغ من العمر عتيا يحاول تقديم نصائحه لصناع القرار، كي لا ينفرط عقد التوازن ليحافظ على مصالح أميركا. فالعالم- كما يقول- على منعطف طريق سيندفع في آفاق غير معروفة إن لم تحسن أميركا إدارة شؤون قوتها.

يقول كيسنجر نحن نجد أنفسنا في نفس الوضع الشبيه بانتهاء فترة المئة عام منذ هزيمة نابليون الأول: كيانات سياسية تخفي العلاقات بينها حالة كامنة من اللاتوازن، الذي يحتّم وجود دولة ماحقة وقوية لا تخاف من استخدام القوة كي تعلو هامتها فوق بقية الأمم، كي تحوّل اللاتوازن إلى توازن لمصلحتها.

نظرة واحدة متفحصة لسير أبطال كيسنجر الذين يرد ذكرهم في الكتاب تدل على ما ينوي الكاتب صنعه مع العالم: مترنيخ، تاليران، روزفلت. يقول هذه الجملة المدوية “المبادئ الأخلاقية بعيدا عن فكرة قوة التوازن، حالة تغري الآخرين بتحديها”. من هنا فهو ينتقد بشدة سياسة أميركا تجاه ما يسمى ثورات الربيع العربي، هذه السياسة التي ضحّت بقادة مضمونين لصالح مبادئ أخلاقية غائمة. من هنا فهو يكيل المديح لجورج بوش الابن جراء سياساته التدخلية في أفغانستان والعراق.

رجل دولة عمل ما يقارب خمسين عاما في صنع سياسات تخص مصائر شعوب عديدة وأمم، دعوته لوستفاليا جديدة لا تنطبق إلا على العالم الغربي. يتمحور جوهر كتابه على الفكرة التالية: السلام المستقر والوطيد يجب أن تحافظ عليه وتدعمه قوة اقتصادية لها ذراع عسكرية تطال كل ركن من العالم. لذا فالتخلي عن سياسة التدخل من أجل الحماية، الذي كان سائدا في عهد بوش الابن، يعني التخلي عن فكرة معاهدة سلام وستفاليا التي يدعو إليها. إذن التخلي عن سياسة التدخل يعني السماح بتكون نظام جديد لن تكون فيه لقوة التدخل ومنطق التهديد بالقوة أي معنى.


*. نقلاً عن صحيفة العرب اللندنية.