إعادة الاعتبار للدبلوماسية الثقافية اليمنية
الأحد, 02-مارس-2008
إعادة إعتبار
مُعاذ الأشهبي - من المؤسف كثيراً أن تأتي المطالبة بتعزيز دور الدبلوماسية الثقافية اليمنية في سياق الدعوة إلى إصلاح الجهاز البيروقراطي لقطاع الثقافة في اليمن. هذه ملاحظتي الأولية على التقرير الذي ناقشه مجلس الشورى مؤخراً، والمقدم من لجنة الثقافة والإعلام بالمجلس.
التقرير طالب بإعادة صياغة الثقافة السياسية وتطوير التشريعات الثقافية واستكمال تشريعات الثقافة الدفاعية، إضافة إلى عقد شراكة ثقافية مع منظمات المجتمع المدني وإنتاج خطاب ديني. لكنه في مطالبته بتعزيز دور الدبلوماسية الثقافية لم يتنبه إلى أن الحديث عن أي دور مأمول للدبلوماسية الثقافية لا يجب تناوله، حصراً، في الإطار الذي يشكله الأداء البيروقراطي للأجهزة الحكومية المعنية بالشؤون الثقافية؛ كوزارة الثقافة مثلاً، أو الهيئات والمؤسسات التابعة لها.
إن ماهية أي تصور بشأن الدبلوماسية الثقافية اليمنية ودورها الفاعل هو، أساساً، حديث عن السياسة الخارجية اليمنية، وعن المؤسسات الدبلوماسية. كما أنه حديث في التخطيط السياسي والدبلوماسي، وفي إعادة رسم السياسة الخارجية للبلاد، بالشكل الذي يُفعِّل دورها في علية البناء الوطني في الداخل، أو في تقديم صورة إيجابية عن اليمن للآخرين في العالم.

الثقافة بوصفها ترسانة!
بصفة عامة، الدبلوماسية الثقافية هي إحدى صور ووسائل القوة الناعمة (1) لأي دولة، والتي تعتبر في مقدمة وسائل جذب وإقناع الشعوب الأخرى بالأفكار والمواقف التي تتبناها هذه الدولة، والإعجاب بها.
وإستطراداً، فإن للقوة الناعمة لأي دولة مساران، أحدهما في التعامل مع الحكومات، ويشمل وسائل الضغط المباشر دبلوماسياً، وفي طريقة التعامل مع ممثلي الدول، واستخدام وسائل النفوذ في المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي.
أما المسار الثاني فهو التعامل مع الشعوب والأفراد، وتتمثل وسائله ذات التأثير غير المباشر، وفي الأفلام السينمائية، والعروض المسرحية، والكتاب والرواية، والموسيقى، وغيرها من وسائل التعبير الأدبي والفني.
وهذا المسار الثاني هو ما نسميه "الدبلوماسية الثقافية"، وقد مورس هذا المسار من قبل وأُدير مستقلاً عن السياسة الخارجية للدولة، وهو أسلوب عرفته الدول المتقدمة، وخصوصاً في الغرب، على مدى عشرات السنين الماضية، في تقديم وجهها إلى العالم في أحسن صورة، من خلال إنتاجها الثقافي والفني.
غير أن الجديد في توجه الدبلوماسية الثقافية، وتحديداً خلال فترة الخمس السنوات الماضية، وضمن "معركة كسب العقول والقلوب" في إطار ما يسمى "الحرب العالمية على الإرهاب"، هو في اتجاه صانعي القرار، الغربيين بالذات، نحو دمج الدبلوماسية الثقافية في إدارة السياسة الخارجية بشكل كامل.
إن المقصود بالدبلوماسية الثقافية، أن يكون هناك توجه لدى الدولة نحو مخاطبة النخبة التي تقود الرأي العام وتؤثر فيه في البلاد الأخرى المستهدفة، من مفكرين وكتاب وقادة رأي، ونقابات، وإعلام، وصحافة، بهدف تسويق الأفكار والقيم التي تتبناها الدولة بينهم. وتتضمن ترسانة الأسلحة الثقافية: صحف وكتب ومؤتمرات ومنتديات ومعارض فنية وحفلات موسيقية وجوائز.
ما يهمنا في محاولات التعريف هذه، هو أن الإدارك الأشمل للدبلوماسية الثقافية يمكن أن يتم من خلال فهم ماهية القوة الناعمة، باعتبار هذه الأخيرة حقلاً أشمل تُعد الدبلوماسية الثقافية إحدى مكوناته. والقوة الناعمة، بحسب التعريف الرائج لها، هي القدرة على التوصل إلى الغاية المطلوبة من خلال جذب الآخرين، وليس باللجوء إلى التهديدات أو الجزاء، وتعتمد هذه القوة على الثقافة، والمبادئ السياسية، والسياسات المتبعة.
وبتعريف كهذا، يسهل فهم الدبلوماسية الثقافية على أنها الاستخدام المخطط من قبل أمة أو دولة ما لدعاية وأنشطة (2) من أجل إيصال أفكار ومعلومات هدفها التأثير على آراء ومواقف ومناهج ومشاعر وسلوك وتصرفات جماعات أجنبية بأساليب وطرق تساند أو تسهل تحقيق الأهداف الوطنية.

مبعوثونا الأجانب
كل دول العالم، وليس اليمن وحدها، تستجدي التقدير الإيجابي من الآخرين، والدبلوماسية الثقافية الناجحة تساعد الناس على قول ما كانوا سيقولونه، أو ما يجب أن يقولونه عن اليمن.
وبما أن الدبلوماسية الثقافية هي العلاقات العامة المنقولة من الحيز الثقافي إلى الحيز السياسي، فإنها في المحصلة، تغدو في خدمة السياسة العامة للبلاد.
الدبلوماسية الثقافية، بكلمات أخرى، تفعل الكثير، وبالنسبة لبلد في حاجة ماسة للآخرين باستمرار كاليمن، نستطيع بالاستخدام الناجح لها إنشاء شبكة واسعة بالغة التأثير من الشخصيات الثقافية، ومخططي الإستراتيجيات السياسية، ومن النظام القائم، والروابط القديمة بين الجامعيين (3)، مهمتها المزدوجة تكريس النظرة الإيجابية عن اليمن، وتمهيد الطريق أمام مصالح السياسة الخارجية اليمنية في العالم.
ويتطلب نجاح الدبلوماسية الثقافية إنشاء مكاتب أو مؤسسات للعمل الثقافي في الخارج، وإصدار المجلات الثقافية، وإقامة المعارض، وامتلاك وسائل الخدمات الإخبارية والتغطيات الصحافية، وتنظيم المؤتمرات الدولية ذات السمعة العالية، وتقديم الجوائز والمكافآت للموسيقيين والفنانين والمسرحيات الجماهيرية، وغيرها. والهدف من هذا كله، دائماً، التأثير في آراء ومواقف النخب الفكرية والثقافية على نحو يكيفها مع الأهداف الوطنية، ويسهل إنجاز أهداف السياسة الخارجية.
وبكلمات أخرى، فإن توسيع نطاق النشاط الإبداعي اليمني في الخارج من شأنه تقديم اليمن للخارج بصورة إيجابية، والحصول على تقدير إيجابي تجاه البلد، وصنع أرستقراطية مكرّسة لخدمة هذا التقدير. وفي هذا السياق يتوقع من الأفراد والمؤسسات التي يتوجه إليها نشاط الدبلوماسية الثقافية اليمنية التصرف والعمل بوصفهم جزءاً من حملة إقناع واسع، وعلى النحو الذي يمنح السياسة اليمنية ثقلاً ثقافياً يُعتدّ به.

إدراك لا يتسع
لقد كانت السياسة الخارجية والدبلوماسية اليمنية ذات أهمية استثنائية على الدوام، وتتأتى هذه الأهمية من زوايا مختلفة مثل الموقع الجغرافي الهام الذي تحتله اليمن، والتأثير الكبير الذي من الممكن أن تلعبه اليمن على المستوى الإقليمي والدولي، وغيرها.
والمتتبع لتاريخ الدبلوماسية سيلحظ التطور الهائل الذي شهدته مقارنة بما كانت عليه في بدايات ومنتصف القرن الماضي، ويفرض هذا التطور على الدبلوماسية اليمنية الكثير من التحديات لجهة اعتماد نموذج جديد من الدبلوماسية ينسجم مع تطورات العالم من حولنا، وبالطريقة التي تفرض أن تكون الجهود الدبلوماسية اليمنية متكيفة مع حقائق العالم المعاصر.
إن حتمية هذا التكيف تقودنا إلى ملاحظة أن السمة الأبرز للدبلوماسية العالمية المعاصرة تتصل بتداخل النشاط الدبلوماسي الرسمي مع ما يسمى بالدبلوماسية الشعبية غير الرسمية، والتي شهدت العقود الأخيرة من القرن المنصرم انتشاراً واسعاً لها، وهذا النوع من الدبلوماسية يعتمد على احتياطي كبير من الموروث الإنساني الذي يستمد شرعيته من العرف القانوني غير المكتوب لحل أشد القضايا تعقيداً في المجالات التي تعجز الدبلوماسية الرسمية عن إيجاد حلول لها، ويتميز هذا الشكل من الدبلوماسية بامتلاكه لحيز واسع من المناورة، ذلك أن نشاطه متحرر من التزامات البروتوكول الدبلوماسي.
وختاماً، لابد من التأكيد على أن الاهتمام بالحساسية الكامنة في مسألة الدبلوماسية الثقافية اليمنية هو في الحقيقة اهتمام بإحدى المكونات الخادمة للأمن القومي اليمني. إن التصور الرائج حول العالم الذي يرى اليمن بلد متخلف وغير مستقر وهشّ وغير آمن هو، في تقديري، النتيجة الطبيعية لغياب الدبلوماسية الثقافية عن إدراك وفهم بيروقراطييّ وزارة الخارجية اليمنية كلياً!

الهوامش
1- يستدعي مصطلح "القوة الناعمة" بشكل تلقائي نقيضه؛ القوة الصلبة أو الخشنة. وإذا كانت "القوة" عموماً هي "القدرة على التأثير في الأهداف المطلوبة، وتغيير سلوك الآخرين عند الضرورة"، فإن القوة الناعمة، كما يقول الأكاديمي الأميركي جوزيف ناي (الابن) مبتكر هذا المفهوم، هي "القدرة على الحصول على ما تريد من خلال الاقناع وليس الإكراه".
2- المثال التاريخي الجديد بالاهتمام في هذا الصدد، هو الجهد البريطاني لوضع حد لتجارة الرقيق الدولية في القرن التاسع عشر، الذي كان عملية طويلة واسعة النطاق ومتعددة الجوانب. لقد استغرق الجهد خمسين عاماً وشاركت فيه بفاعلية البحرية البريطانية والكنيسة وصحافيون ودبلوماسيون وشخصيات جامعية، وفي نهاية المطاف نجح الجهد في قمع تجارة الرقيق وجعلها غير مشروعة. وفي نهاية القرن التاسع عشر لم يبرر العالم المتقدم تجارة الرقيق أو يتسامح بشأنها مثلما كان يفعل في بداية ذلك القرن. لقد غيّر الجهد البريطاني الطريقة التي كان يفكر ويتحدث ويتصرف بها ملايين الناس.
3- في غضون الحرب الباردة، نجحت الدبلوماسية الثقافية التي انتهجها الغرب مع الاتحاد السوفياتي؛ فمن خلال التبادل الطلابي والثقافي نجح الغرب في تدمير الثقة السوفياتية في الذات. وقد شهد لاحقاً أحد العملاء السابقين للاستخبارات السوفياتية: "كانت عمليات التبادل الثقافي بمثابة حصان طروادة بالنسبة للإتحاد السوفياتي. فقد لعبت دوراً هائلاً في تآكل النظام السوفياتي".