روسيا والعالم: الانتصار الناقص للقيصر الجديد
السبت, 12-يوليو-2014
د. خطار أبودياب -

خلال التقاط الصورة التذكارية إبان حفل الذكرى السبعين لمعركة شواطئ النورماندي (أوائل يونيو الماضي) رمق الرئيس الأميركي باراك أوباما خلسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وترك «رئيس العالم» البسمة ترتسم على محياه وتصور أنه يمارس دبلوماسية «الساحر الأسمر» حيال نظيره الروسي، الذي لم تتغير ملامحه واكتفى بنظرات حادة ربما تعبر عن اعتقاده بأن اختبار القوة المستمر مع واشنطن أمر لا مفر منه، لأنه يرى العالم بعيون روسية.

على خلفية التوتر الذي يشوب علاقة موسكو وواشنطن، خصوصا حول ما يدور في أوكرانيا، استمر رهان الرئيس الروسي على عدم القطيعة مع الغرب لكن مع محاولته الفصل ما بين «الغرب الأميركي» و«الغرب الأوروبي». ولذا لا زال يلعب لعبة التفاهم الروسي- الألماني- الفرنسي تماما كما فعل مع جاك شيراك وغيرهارد شرودر خلال معارضة حرب العراق عام 2003.

في رحلة استعادة النفوذ الروسي وللخروج من الفخ الأوكراني، يحاول بوتين الاعتماد على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، لتجنب المواجهة المكلفة وتصعيد العقوبات. وهكذا تبدو الحصيلة للمبارزة الأوكرانية هي التعادل السلبي، إذ أن منع روسيا لكييف من توقيع اتفاق مع الاتحاد الأوروبي في أواخر نوفمبر 2013، قاد إلى انتفاضة الميدان واشتعال النار في الجوار الروسي، فيما فسره بوتين بأنه جزء من خطط واشنطن لاحتواء روسيا، وتمدد حلف شمال الأطلسي، ولذا قام بعملية ضم شبه جزيرة القرم نظرا لأهميتها الاستراتيجية ولمنع العدوى الأوكرانية من أن تطال الداخل الروسي ودول أخرى في الجوار.

في مواجهة هذا التطور قادت واشنطن حربا سياسية- اقتصادية أحرجت الرئيس الروسي (العجز في شبه جزيرة القرم يتجاوز 15 مليار دولار سنويا) ولذلك عاد إلى بعض المرونة وإلى نظرية معلمه يوري أندروبوف في عدم الصدام مع أوروبا، ولذا فها هو يعطي الانطباع في قبول التعامل مع الرئيس الأوكراني الجديد بيترو بوروشينكو والتخلي عن التمرد الموالي لروسيا في شرق وجنوب أوكرانيا.

وهذا «الاعتدال» لا يعبر عن قناعة، بل هو نتاج موازين قوى دفعت موسكو إلى التسليم بالاتفاق الاقتصادي الأوكراني- الأوروبي لأنه يبعد انضمام كييف إلى الاتحاد الأوروبي، أو إلى حلف شمال الأطلسي، ولأن روسيا تريد تحاشي الغرق في حرب مباشرة في أوكرانيا واستنزافها هناك. لكن فلاديمير بوتين، لاعب الجودو والشطرنج، عنده نفس طويل وربما ينتظر الانتخابات التشريعية الأوكرانية في الخريف المقبل، وربما سيحاول إصابة النظام الأوكراني الجديد في حرب تجارية واقتصادية منهكة، إذا لم تنفذ واشنطن وبروكسيل التزاماتهما حيال الحكم الأوكراني الجديد.

من خلال النموذج الأوكراني نتلمس المفهوم «البوتيني» في السياسة الخارجية، وهو يتمثل في احترام موقع روسيا في النظام العالمي المتعدد الأقطاب، وفي بناء العلاقات المتوازنة مع الغرب وبسط النفوذ على الجوار الروسي، في سعي إلى إعادة تشكيل منظومة شبيهة بالاتحاد السوفيتي. ومن هنا كانت الممارسة الروسية من البحر المتوسط إلى البحر الأسود للانتقام من هزيمة الحرب الباردة، وتكريس روسيا «المقدسة» قوة عظمى من جديد.

ولكي يكون اسمه إلى جانب بطرس الأكبر وكاترين الثانية وستالين وبريجنيف، صمم بوتين أن يترك بصماته في مبارزة مفتوحة للحفاظ على مصالح روسيا كما يصبو إليها، وربما كان متيقنا أن روسيا لا تحافظ على عناصر قوتها، ولا تسهم في بلورة التوازنات العالمية من دون سياسة هجومية عمادها القوة الفظة، إلى جانب عناصر من القوة الناعمة تبعا لحجم روسيا الجغرافي وموقعها وثروة الطاقة فيها.

إن الاتفاقيات الجديدة الموقعة مع الصين تطمئن مرحليا سيد الكرملين، لكن الشرق الأقصى الروسي وسيبيريا يتعرضان لتغلغل صيني منظم، وهذا يعني أن الرهان على البعد الآسيوي غير مضمون، وأن العلاقة مع أوروبا تبقى حيوية بالنسبة إلى مستقبل روسيا ودورها في العالم.

على مسرح العلاقات الدولية، يراقب بوتين تراجع الدور الأميركي وترهل الأدوار الأوروبية، ويمكننا القول إنه نجح، نسبيا، في تحقيق حلم القياصرة في الوصول إلى المياه الدافئة. وبالطبع لا تغيب عن باله أهمية سلاح الطاقة والحفاظ على موقع روسيا في سوق الطاقة. بيد أن المعركة غير مضمونة، وفيها صعود وهبوط كما رأينا في أوكرانيا.

يعتبر الدبلوماسي الروسي السابق فلاديمير فيدوروفسكي مؤلف كتاب «فلاديمير بوتين: مسار الصعود السري»، أن بوتين هو الزعيم الروسي الوحيد الذي لم يكن معروفا عند تسلمه دفة الأمور، وأنه توصل ليكون «القيصر الجديد» بفضل مهاراته والجمع بين إتقانه لعبة التواصل مع «الرموز السرية للعقلية الروسية» وأساليب الجذب والنفوذ. وهذا الانتصار «الأيديولوجي» أو «الشخصي» لبوتين يبقى انتصارا ناقصا، لأنه ليس بالضرورة انتصارا لروسيا، وليس انتصارا لعالم مستقر، أو لحقوق شعوب منتهكة نتيجة سياسات بوتين وأوباما وغيرهما.

أستاذ العلوم السياسية المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس



*. نقلاً عن صحيفة العرب اللندنية.