في الإسلام والالتزام
الثلاثاء, 01-يوليو-2014
د. فتحي التريكي -

كيف لنا أن نفهم تحول الإسلام عند بعض المسلمين المتشددين من دين حب، إلى أيديولوجيا العنف؟ لماذا ينتصب الإسلام العادي درعا ضد هذه الأدلجة للدين؟

لمحاولة الإجابة لابد من إلقاء بعض الضوء على بعض المعطيات التاريخية التي تفسر نوعا ما تلك العلاقة الشاقة بين الإسلام والأيديولوجيا. إذ لابد أن لا ننسى أن الإسلام قد ولد ونشأ في مجتمع عربي عنيف، فكان لابد أن يكون جوهرا دين الالتزام حتى يرسي قواعده ونظرته للحياة والمجتمع. فالإسلام منذ لحظة تكونه هو نداء لصراع «الخير» ضد «الشر».

وفي واقع الأمر كان الوحي الإسلامي ومازال انفتاحا للإنسانية على الواحد. فهو بالتأكيد نظرة مثالية لمجموعة المؤمنين أي “للأمة الإسلامية”، وهو أيضا النمط التاريخي الأمثل الذي لا يتحقق في الواقع تحقيقا كاملا ولكنه يستمر ويبقى مثالا للأجيال المتلاحقة بفضل جهد المؤمنين حتى يجسدوا في حياتهم الاجتماعية والشخصية وفي علاقاتهم مبادئ السلام السمحة الملخصة في أنماط ثلاثة هي الإيمان والسلام والإحسان. وهو الفعل الذي يتحّين يقينا في التاريخ الواقعي، ومن حيث هو إيمان وإحسان يؤنسن التاريخ ويجعله أليسا وصقيلا. لذلك يكون كنه الإسلام الحقيقي نضالا ضد الفتنة وضد الصراعات والحروب.

إن الوجود الحالي في عالم الإسلام قد اتسم لا محالة في الظروف العالمية الحالية، بالجروح والدماء والجهاد وبالمقاومة. لذلك يمكننا التأكيد هنا أن الالتزام يعني بالنسبة إلى المسلم الحالي وعيا بالجروح وجهادا لتغيير العالم، حتى يصبح ملائما لوجوده ولطموحاته، مع العلم أن الجهاد لا يعني في جوهره عنفا، فهو أساسا وسيلة للإقناع وعمل متواصل لتثبيت قيم الإيمان والإحسان والسلام. فالجهاد من حيث هو صورة حرب ما هو إلا “مواصلة للسياسة بوسائل أخرى” ولن يكون أصلا مستتبعا من مستتبعات العمل الديني الحقيقي، ولا نتيجة للإيمان.

يأخذ هذا الالتزام صبغة اجتماعية لأنه أساسا بالنسبة إلى المؤمنين تأهلا “للسير في مسار خّط قد تم تسطيره لغاية فتح طريقه الخاص في العالم الذي يعنيه”. وفي الحقيقة يبقى الإسلام التزاما في الاجتماعي بما أنه تأكيد للحياة الإنسانية، وسبيل نحو الحياة المشتركة.

ولكن الإسلام في ظروف نشأته الصعبة داخل الصراعات القريشية والقبلية قد تحول ظرفيا إلى التزام سياسي. فهو لم يغيّر فقط الأيديولوجيا المهيمنة آنذاك زمن ولادته، ولم يمنح تصورا جديدا للتنظيم السياسي فقط، ولكنه أيضا قد استدعى الإنسان العربي ووجه رغباته واحتياجاته وحياته وجعله ينظر إلى المستقبل وإلى خارج عالمه.

والإسلام أخيرا هو التزام بالكونية. فلأول مرة سيسمو العربي آنذاك إلى الكونية ووسيلته في ذلك ليست العقل فقط، بل أيضا العقيدة في الإله الواحد والاعتقاد بإنسانية الإنسان.

لذلك نرى أن «الإسلام السياسي» في نمط تصوره الحالي هو نتيجة لأيديولوجيا اختزلت الالتزام في العنصر الجهادي العنيف، فأفرغت هذا الدين من أساسه الواقعي ونصبته بتجريد مطلق مجمدا في الزمن ومماثلا للمذهب السياسي الكلياني الدكتاتوري العنيف، وحولته إلى دين انفعالي وأيديولوجيا تعبئة يمكنها أن تذهب إلى أبعد الحدود في العنف.

وهناك ملاحظة لابد أن أسوقها هنا وتتمثل في ترابط هذه النظرة الاختزالية للدين الإسلامي مع نظرة المحافظين الإسلاميين الذين تكاثروا بعد الثورات العربية، وتحصلوا على مناصب عليا- كمفتي تونس الذي سمته حركة النهضة- والذين يدافعون عن الثابت المجمد في الإسلام فهم في نفس الحالة التي عليها موقف الأجانب المعادين للإسلام من بعض المفكرين الغربيين الذين ما انفكوا في المواقع الإعلامية وفي الجرائد ووسائل الإعلام وأيضا في الإبداع الأدبي والفني يعبرون عن عدائهم العنصري للمسلمين، فيؤكدون عن جهل تارة وعن خبث تارة أخرى على اللاتسامح الإسلامي. يلاحظ مثلا جورج كرم في هذا الصدد قائلا :”الإسلام الجامد والمتحجر في كل الأزمنة والأماكن، دين الانغلاق وعدم التسامح والعنف، إسلام الجهاد والذمّة وحجاب النساء والجَلْد والأيدي المقطوعة: هذا ما تريد تمريره العقلانية الغربية”.

يجب القول إن الإسلام من حيث هو أيديولوجيا التزام سياسي مغاير في كنهه وعمله عن الدين الإسلامي السمح، فهو لا يعدو أن يكون سوى هوية مطلقة ونظاما كليانيا يستعمله المتشددون والمتطرفون معتمدين جهل العامة وحسن نيتهم للوصول إلى الحكم. فهو في واقع أمره لا يرنو إلى البحث عن تموضع ملائم للمسلمين في العالم وليس همه أن يستتب الإسلام في ربوع عالمنا.

ولم يكن أيضا دفاعا عن هذا الدين المجهول في بعض الأحيان من قبل الآخرين. فهو ببساطة طريقة عنيفة لنفي تنوع أنماط تمظهر الإسلام في مختلف المجتمعات، ذاك التمظهر الذي لا ينفي طبعا وحدة العقيدة في تأكيده على تنوع الإسلام الواقعي وتعدد أنماطه وتاريخيته البيّنة. فالإسلام ككل دين متجذر في التاريخ يتكيف مع بنية المجتمعات وتحوّلاتها.

فالإسلام جوهر ثابت في عقيدته متحول في تمظهره يتأقلم مع المكان والزمان. وهو بذلك يقر توجهه الإنساني ويؤكد طموحه الكوني. فليس بغريب أن يقترن بالمسالك الجديدة لتدبير شؤون الناس مثل المواطنة والحرية والحقوق، وليس بغريب أن يتفاعل مع النظام الديمقراطي المنشود.

فهل من الواجب التذكير أنه يوجد حاليا خمسة وأربعون بلدا حيث يمثل الإسلام دين الأغلبية، دون ذكر الهند حيث يمثل الإسلام أقلية ولكنها مهمة جدا بما أن عدد المسلمين فيها يقترب من المئة مليون نسمة، وكذلك الصين وعدد المسلمين بها يتجاوز الثمانين مليونا. والإسلام كما هو معروف حاضر في العديد من البلدان الأوروبية والأفريقية، والآسيوية والأميركية بنسب تتراوح بين 5 بالمئة و50 بالمئة.

ذلك يعني، بكل بساطة، أن شكل الإسلام لا يمكن أن يكون إلا متنوعا ومختلفا. فأن ندعي أنه لا توجد إلا طريقة واحدة لنكون مسلمين أو أنّ هناك مسلما صالحا ومسلما سيئا حسب أنموذج معياري وإجرائي أيديولوجيا، هو اختزال للتنوع الكبير الذي يخص الإسلام في أحكام هامدة ومتحجرة ولكنها مرعبة وعنيفة. وهذا العنف لا يقصد، كما يظن البعض، غير المسلمين فهو يتجه ضد المسلمين بالأساس لإرغامهم على العيش حسب هذه الأحكام المتحجرة.

كاتب ومفكر تونسي


*. نقلاً عن صحيفة العرب اللندنية.