فوضى عربية غير مسبوقة
الخميس, 27-مارس-2014
بكر عويضة -

تصرخ الجموع بصوت واحد، فيصفق الجميع مجمعين على أن تلك هي صيحة الحق. في الواقع، وسط ضجيج ذلك الصراخ الجمعي يختلط الأبيض بالأسود فيصعب تبين الخيط الفارق بينهما. مساء الاثنين الماضي، بينما كنت أتابع «نيوزنايت»، البرنامج الإخباري لقناة «بي بي سي 2»، لاحظت كيف تداخلت أصوات ثلاث شخصيات من وجوه الجالية المسلمة في بريطانيا، عندما راحوا يتصارخون معا في وقت واحد أمام جيرمي باكسمان، مقدم الحلقة وأحد نجوم التلفزيون البريطاني المعروفين بتميز الأداء. راح جيرمي يحاول المتابعة مبتسما، وبدا لي مندهشا، إذ إن ضيوفه هم من جيل الشباب الذي يفترض أنه تعلم في هذا البلد أدب الحوار وأصوله. لو أن جاري شاهد الحلقة ذاتها وسألني صباح اليوم التالي: ما الذي كان أولئك الأشخاص يريدون قوله؟ لأجبت: إن كنت لم أفهم فكيف لي أن أشرح لك؟!

بدا ذلك المشهد صورة كاريكاتيرية مصغرة لما يجري في معظم أنحاء العالم العربي، مع فارق جوهري مهم خلاصته أنه في الأغلب الأعم، قليلا ما يعترف أغلب المتعاطين مع تحليل توجهات الرأي العام بأنهم يعرفون على وجه التحديد ماذا تريد الجموع الهادرة بأصوات متداخلة في الميادين والساحات، ذلك أن المهم، أيضا في أغلب الحالات، حتى نتجنب التعميم، هو انسجام مضمون التحليل مع صراخ الصارخين، بصرف النظر عن الصواب والخطأ.

الواقع أن العالم العربي يمر بمرحلة فوضى غير مسبوقة. ولست أقصد هنا خلافات المواقف وتباين السياسات بين حكومات وعواصم، فتلك حالات عاشتها الشعوب العربية وتعايشت معها عبر قرون عدة، قبل وجود الدول ذاتها، بل يمكن القول إن من نواميس الحياة أن تحصل خصومات بين الناس، فيختلف أب مع أبنائه، وشقيق مع أشقائه، بل يحدث أن يجر بعضهم بعضا إلى المحاكم لأتفه الأسباب، لكن إن تغلبت الحكمة وساد العقل، أمكن حصر الخلاف داخل البيت، ومن ثم إطفاء النار قبل أن يشتعل الحريق. أما إن علا صراخ المختلفين بعضهم ضد بعض في وقت واحد، وحكم كل منهم الهوى فقدم مصلحته على غيره، من دون أي اكتراث بحق أو باطل، فقد «ضاعت الطاسة»، كما يقول عوام الناس، ودبت الفوضى. تلك على وجه التحديد هي مرحلة الفوضى غير المسبوقة التي يمر بها العالم العربي.

تحدث وكتب كثيرون عن خطورة فوضى الفتاوى، مثلا، وجرى اتخاذ قرارات بشأنها وتحذير من الأخذ بأية فتوى ليست صادرة عن مرجعية موثوقة، لكن ذلك لم يحُل دون استمرار الظاهرة. فوضى الإعلام ليست تقل خطورة. ومع سطوة الإنترنت لم يعد ممكنا التحكم في موثوقية ما ينشر. لكن الأخطر من فوضى النشر «أونلاين»، سواء على مواقع رصينة تسعى للدقة، أو أخرى أقل أهمية، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي وما صار يعرف بـ«نيوميديا»، الأخطر من ذلك هو انتشار فوضى تحكيم الهوى الشخصي على شاشات بعض الفضائيات، وما بدأ مثيرا للعجب قبل بضع سنوات، من ضرب بالكراسي وتبادل اللكمات بين الضيوف، صار عاديا، ثم إن بعض مقدمي البرامج، مستندا إلى أن نجوميته أهم من فضائيته، راح يغرف من الصحن نفسه، فإذا بالبعض يجترئ على أبسط أصول الموضوعية القائلة بترك الموقف الشخصي جانبا عند التحدث من منبر عام، ومن ثم وضع المصلحة العامة قبل الهوى الذاتي.

صدمني قبل أيام ما سمعت منسوبا إلى قيادي فلسطيني في غزة. كنا في جلسة عشاء عندما نقل أحد الحاضرين عن ذلك القيادي (أقصد عدم ذكر الاسم) قوله، إن منظمته لديها خمسون ألف مقاتل وخمسة آلاف انتحاري، وإنهم يستطيعون احتلال مصر خلال ثلاث ساعات. لاحظت أن أحدا لم يبدِ دهشته، فقلت: لكن ذلك كلام هراء، ومن المستحيل أن يصدر عن سياسي يعقل ما يقول. لكن الراوي، وهو ذو مكانة علمية، أصر على روايته. صباح اليوم التالي رحت أقلب بين دهاليز «غوغل»، أريد التأكد مما سمعت، فتبين أن الكلام مجرد شائعة نقلت عن «أوساط مقربة» من ذلك القيادي، لكنه نفى أنه قاله. ثم تبين لي أن عدد المقاتلين في الكلام «الشائعة» هو 25 ألفا، أي أن ناقل الكلام وصله مضاعفا، ولو شئت أنا نقله من دون تأكد، يمكنني أيضا أن أضيف إليه أو أضاعفه. الأسوأ أنني في سياق البحث لتبين حقيقة ذلك الهراء، طلع عليَّ ما ليس يقل شرا، إذ نقل غير موقع عن مذيع (أقصد عدم ذكر الاسم أيضا) بإحدى الفضائيات المصرية، أنه تمنى أمام الملأ كلهم ما خلاصته دمار قطاع غزة بأكمله. ما نسب للمذيع، وقد يكون هو أيضا تعرض للمبالغة أو لمونتاج الفوتوشوب، وغيرهما من وسائل تزوير هذا الزمان، جرّ سيلا من التعليقات الموبوءة بروائح فتنة كريهة، واضح أنه يراد للعالم العربي أن يغرق فيها حتى «يسيل الدم للركب»، أيضا كما يقول عوام الناس. هل ثمة فوضى قبل هذه الفوضى؟ كلا، أما بعدها.. فربما الآتي أسوأ.

خلال نصف الساعة السابقة لبرنامج جيرمي باكسمان، تابعت على شاشة «بي بي سي 2» تمثيلية بطلها قسيس مدينة في شمال إنجلترا. يقترح القسيس على إمام مسجد المدينة ذاتها الحصول على قطعة أرض وجمع التبرعات لتحويلها إلى ساحة لعب، يلتقي فيها أطفال مسلمون ومسيحيون. يوافق إمام المسجد بلا تردد، وينطلق الاثنان يعملان لأجل تحقيق الفكرة على أرض الواقع، وينجحان. كم هو الفرق شاسع بين جمع أطفال ديانتين للعب بريء، وبين الذين يلعبون بواقع ومصائر شعوب بأكملها، والأخطر بين أولئك، هم من أدمنوا اللعب باسم أي من الأديان أو الأوطان، أو بهما معا.

نقلاً عن "الشرق الأوسط"