الفكر أم السياسة؟
الثلاثاء, 18-مارس-2014
د . حسن مدن -



أحد أوجه محنة الفيلسوف الاغريقي سقراط، الذي انتهى به الأمر، محكوما بالإعدام بتجرع السم، هو قراره بتجنب الحياة السياسية والانصراف إلى الفكر . رأى الرجل أنه مفكر عليه أن يعيش بالفكر وللفكر، ولكن الانحياز لهذا الموقف كان محالاً، لأنه ينطوي على نقض لميثاق الديمقراطية في أثينا القديمة التي كانت تجعل الاشتغال بالسياسة واجباً على كل مواطن .
بدا مُسْتهجناً في أعين الكثيرين يومها أن سقراط المحارب، الذي خاض المعارك، ورأى أن الذود عن الديمقراطية في أثينا في مقدمة أولوياته أن يترك السياسة وينشغل بالحكمة والفلسفة .
كيف يمكن إقناع بسطاء الناس الذين لا يكترثون بالفلسفة والحكمة بصواب قراره، وبأن للفكر رجاله وللسياسة رجالها، وللحرب رجالها؟
تبدو هذه مفارقة في مجتمع أنتج الفلسفة وقدم للبشرية كبار رموزها عبر التاريخ، بحيث إن الفلاسفة في العصور اللاحقة لم يكن بوسعهم أن يكونوا كذلك لو لم يعودوا إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو وسواهم من فلاسفة الإغريق، ومع ذلك فإن الشعب كان يزدري الفلسفة، وكان مستعداً لأن يقبل بإعدام سقراط .
محنة سقراط ليست محنة فردية، إنها محنة عامة طبعت تاريخ العلاقة المعقدة بين الساسة والمفكرين والمبدعين . حين انغمس إدوارد سعيد في العقود الأخيرة من حياته في السياسة، قالت له أمه، حسبما روى في مذكراته: "خارج المكان"، بأن يكف عن ذلك: أنت مفكر، ولم تخلق للسياسة .
أناسيس ين في يومياتها التي نقلتها الى العربية لُطفية الدليمي تتحدث عن أمر مشابه، من واقع تجربتها الشخصية حين وضع أحد أصدقائها المثقفين اسمها ضمن قائمة من الأدباء المدعوين لاجتماع للبحث في نصرة الجمهوريين الإسبان في حربهم ضد الفاشية .
حين كان الداعي للاجتماع يتحدث للحاضرين، وكان من بينهم بابلو نيرودا وأسماء أخرى كبيرة عن دور المبدع في عالم متغير، سألته أناسيس ين وبتهذيب: "لأي نفع ترجوني . إنني فكرت بتغيير العالم وإلغاء البؤس عندما كنت في الخامسة عشرة والسادسة عشرة من عمري، وأدركت فيما بعد عدم جدوى ذلك، وعملت بإصرار على بناء عالم فردي مطلق" .
لكن صديقها أوضح: ثمة لحظة تجيء ينهار فيها عالمك الفردي أمام ما يحدث في العالم حولك . ولم تجادل المرأة في ذلك . بل سجلت في اليوميات: ذلك حق . "عند نقطة محددة يرتطم عالمي الفردي بجدار الواقع"، فلا يعود بالوسع حمايته من سطوته


*. نقلاً عن صحيفة الخليج الاماراتية.